﴿ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾
من الأخطاء اللغوية المزعومة مجيء ﴿ الظَّالِمِينَ ﴾ بالياء في قوله تعالى :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾(البقرة: 124) ؛ إذ قالوا : كان يجب أن يأتي بالواو ، فيقال : ﴿ الظَّالِمُونَ ﴾ ؛ لأنه فاعل { ينال } .
أولاً- وقبل الإجابة عن هذه الشبهة الواهنة التي صورتها الأوهام الفاسدة ، والأحقاد الضغينة ، نقول بعون الله وتعليمه : هذه الآية الكريمة وما يتلوها من آيات مسوقة لتقرير حقيقة عقيدة إبراهيم- عليه السلام- وبيان ما بينها وبين العقائد المشوهة المنحرفة التي عليها أهل الشرك من بعد ، وما بينها وبين عقيدة المسلمين من قرب ، ولتقرير وحدة دين الله عز وجل ، واطِّراده على أيدي رسله جميعًا ، ونَفْيِ فكرة احتكاره في أيدي أمة أو جنس ، وبيان أن العقيدة هي تراث القلب المؤمن ، لا تراث العصبية العمياء ، وأن وراثة هذا التراث لا تقوم على قرابة الدم والجنس ؛ ولكن على قرابة العقيدة والإيمان بها ؛ فمن آمن بهذه العقيدة ورعاها في أي جيل ومن أي قبيل ، فهو أحق بها من أبناء الصلب وأقرباء العصب ! فالدين دين الله تعالى ، وليس بين الله ، وبين أحد من عباده نسب ولا صهر !
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة ، وأن اليهود عيَّروا المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة ، وترك بيت المقدس ، ذكر الله تعالى هنا قصة إبراهيم- عليه السلام- وما ابتلاه به الله سبحانه ، واستطرد بعد ذلك إلى ذكر البيت وكيفية بنائه ، وأنهم لما كانوا من نسل إبراهيم ، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعًا لشرعه ، واقتفاء لآثاره ، فكان تعظيم البيت لازمًا لهم ، فنبَّه الله تعالى بذلك على سوء اعتمادهم ، وكثرة مخالفاتهم ، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم ، وأنهم وإن كانوا من نسل إبراهيم- عليه السلام - لا ينالون لظلمهم شيئًا من عهده . ومثلهم في ذلك المشركون الذين كانوا يدعون أيضًا أنهم من نسله ، ومن ساكني حرمه ، وخادمي بيته . فكما أن اليهود يرجعون بأصولهم إلى إبراهيم عن طريق إسحاق - عليهما السلام - ويعتزون بنسبتهم إليه ، وبوعد الله تعالى له ولذريته بالنمو والبركة ، وعهده معه ومع ذريته من بعده ؛ كذلك فإن قريشٌ ترجع بأصولها إلى إبراهيم عن طريق إسماعيل - عليهما السلام – وتعتز بنسبتها إليه ؛ وتستمد من تلك الأصول القوامة على البيت ، وعمارة المسجد الحرام ، وتستمد كذلك سلطانها الديني على العرب ، وفضلها وشرفها ومكانتها .
هذه الحقائق التي تمثل شطرًا من الخطوط الأساسية في التصور الإسلامي يجلوها القرآن الكريم هنا في نسق من الأداء عجيب ، وفي عرض من الترتيب والتعبير بديع . يسير بنا خطوةً خطوة من لدن إبراهيم- عليه السلام - منذ أن ابتلاه ربه ، فاستحق اختياره واصطفاءه ، وتنصيبه للناس إمامًا ، إلى أن نشأت الأمة المسلمة المؤمنة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، استجابة من الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل ، وهما يرفعان القواعد من البيت الحرام ، فاستحقت وراثة هذه الأمانة دون ذرية إبراهيم جميعًا . بذلك السبب الوحيد الذي تقوم عليه وراثة العقيدة .. سبب الإيمان بالرسالة ، وحسن القيام عليها ، والاستقامة على تصورها الصحيح .
وفي ثنايا هذا العرض التاريخي يبرز السياق أن الإسلام- بمعنى إسلام الوجه لله وحده- كان هو الرسالة الأولى ، وكان هو الرسالة الأخيرة .. هكذا اعتقد إبراهيم ، وهكذا اعتقد من بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، حتى أسلموا هذه العقيدة ذاتها إلى موسى وعيسى ، ثم آلت أخيرًا إلى ورثة إبراهيم من المسلمين . فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها ، ووريث عهودها وبشاراتها ، ومن فسق عنها ، ورغب بنفسه عن ملة إبراهيم ، فقد فسق عن عهد الله ، وفقد وراثته لهذا العهد وبشاراته . وقد بين الله تعالى ذلك في قوله :﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾(البقرة: 130) ، وقوله تعالى :﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾(آل عمران: 67) .
عندئذ تسقط كل دعاوى اليهود والنصارى في اصطفائهم واجتبائهم ، لمجرد أنهم أبناء إبراهيم- عليه السلام- وحفدته ، وأنهم ورثته وخلفاؤه ، لقد سقطت عنهم الوراثة منذ أن انحرفوا عن هذه العقيدة .. وتسقط كذلك كل دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام عليه وعمارته ؛ لأنهم قد فقدوا حقهم في وراثة باني هذا البيت ورافع قواعده بانحرافهم عن عقيدته . ثم تسقط كل دعاوى اليهود فيما يختص بالقبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون ؛ فالكعبة هي قبلتهم ، وقبلة أبيهم إبراهيم . كل ذلك في نسق من العرض والأداء والتعبير عجيب ، حافل بالإشارات الموحية ، والوقفات العميقة الدلالة ، والإيضاح القوي التأثير .
ثانيًا- وقوله تعالى :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ قرأه ابن عباس وأبو الشعثاء ، وأبو حيوة ، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم ، برفع لفظ { إبراهيم } ، ونصب لفظ { ربّه } هكذا :﴿ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ ﴾ . والمعنى : أن إبراهيم- عليه السلام- دعا ربه بكلمات من الدعاء فعل المختبر : هل يجيبه سبحانه إليهن ، أم لا ؟ .. وقرأه الجمهور ، برفع لفظ { ربّه } على أنه فاعل مؤخر ، ونصب لفظ { إبراهيمَ } على أنه مفعول به مقدم للاهتمام به .
والابتلاء : الاختبار . وقيل : الابتلاء هو إظهار الفعل ، والاختبار هو طلب الخبر ، وهما متلازمان . والمراد به على القراءة المشهورة : أن الله تعالى كلف إبراهيم- عليه السلام- بأوامر ونواه ، وهو عالم بما يكون منه ، فوفَّى ما كلِّف به ؛ كما شهد الله تبارك وتعالى له يذلك في موضع آخر ، فقال سبحانه :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾(النجم: 37) . روى القاسم بن محمد ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« أتدرون ما وفَّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : وفَّى عمل يوم بأربع ركْعات في النهار » .
والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفِّي ، ولا يستقيم ! عندئذ استحق إبراهيم- عليه السلام- ذلك المقام عند ربه ، وهو مقام عند الله جل وعلا عظيم ، فقال سبحانه : ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ . أي: جاعلك إمامًا يتخذونه قدوة يقودهم إلى الله تعالى ، ويقدمهم إلى الخير ، ويكونون له تبعًا ، وتكون له فيهم قيادة . وفهم إبراهيم- عليه السلام- من قول ربه جل وعلا أنه اختصَّه للإمامة ، فقال على سبيل الاستعلام :﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ ؟ أي : أوتجعل من ذريتي إمامًا ؟ والاستعلام يؤول معناه إلى السؤال ؛ وكأنه سأل ربه جل وعلا أن يجعل من ذريته إمامًا ! فأتاه الجواب من ربه جل وعلا :﴿ قَالَ : لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ .
ثالثًا- وقوله تعالى :﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ قرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش الظالمين ، بالواو هكذا :﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمُونَ ﴾ ، على أنه فاعل مؤخر . وقرأه الجمهور بالياء على أنه مفعول به . والنَّيْلُ في الأصل هو الإصابة ، وهو مصدر نال ينال نَيْلاً بالياء ، إذا أصاب شيئًا ، ووصل إليه . ويقال أيضًا بمعنى : أحرز ؛ فإن فيه معنى الإصابة ؛ كقوله تعالى :﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾(آل عمران: 92) .
ومعنى الآية على قراءة من قرأ ﴿ الظَّالِمُونَ ﴾ : لا يصل عهدي إلى الظالمين . أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه . أي : من كان ظالمًا من ذرية إبراهيم- عليه السلام- فإنه لا ينال عهد الله عز وجل . وعلى قراءة بالياء ﴿ الظَّالِمِينَ ﴾ : لا يصيب عهدُ الله تعالى الظالمين . أي : لا يشملهم . وتوجيه الآية على القراءتين أن العهدَ يَنال كما يُنال ، فيجوز فيه أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مفعولاً ؛ لأن ما نالك ، فقد نلته أنت . وقد جاء قول الله تعالى :﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾(الحج: 37) ، على خلاف ذلك ، حيث قدم فيه المفعول على الفاعل في الموضعين ؛ كما في قراءة أبي رجاء وقتادة والأعمش :﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمُونَ ﴾ . والمعنى : لن يصل اللهَ تعالى لحومُها ولا دماؤها ؛ ولكن يصله التقوى منكم ، على حدِّ قوله تعالى :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾(فاطر: 10) .
والظاهر أن المراد بـ{ العهد } هنا : الإمامة ؛ لأنها هي المُصَدَّر بها ، فأعلم الله تعالى إبراهيم- عليه السلام- أن الإمامة لا تنال الظالمين ، والدليل على ذلك أن قول الله تعالى :﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ لا يكون جوابًا عن قول إبراهيم :﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ ؟ إلا إذا كان المراد بهذا العهد : الإمامة . ومن دقة القرآن اختيار هذا اللفظ هنا ؛ لأن اليهود زعموا أن الله عهد لإبراهيم عهدًا بأنه مع ذريته ، ففي ذكر لفظ { العهد } تعريض بهم ، وتوبيخ للمشركين .
والظلم أنواع وألوان : ظلم النفس بالشرك ، وظلم الناس بالبغي . والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة : إمامة الرسالة ، وإمامة الخلافة ، وإمامة الصلاة ، وكل معنى من معاني الإمامة والقيادة . فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها . ومن ظلم - أي لون من الظلم - فقد جرد نفسه من حق الإمامة ، وأسقط حقه فيها ، بكل معنى من معانيها .
وهذا الجواب الذي أجاب الله تعالى به إبراهيم- عليه السلام- هو من الجواب الذي يربو على السؤال ؛ لأن إبراهيم طلب من ربه عز وجل ، وسأل أن يجعل من ذريته إمامًا ، فأجابه إلى أنه لا ينال عهدُه الظالمين ، ودل بمفهومه الصحيح على أنه ينال عهدُه من ليس بظالم ، وكان ذلك دليلاً على انقسام ذريته إلى ظالم ، وغير ظالم . وهو بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع في تنحية المشركين واليهود عن القيادة والإمامة ، بما ظلموا ، وبما فسقوا ، وبما عَتَوْا عن أمر الله ، وبما انحرفوا عن عقيدة جدهم إبراهيم . وهو قاطع أيضًا في تنحية المشركين ، وتنحية من يُسمُّون أنفسهم اليوم : المسلمين ؛ وذلك بما ظلموا ، وبما فسقوا ، وبما بعدوا عن طريق الله ، وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم . ودعواهم الإسلام ، وهم ينحون شريعة الله ومنهجه عن الحياة ، دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله عز وجل .
من الأخطاء اللغوية المزعومة مجيء ﴿ الظَّالِمِينَ ﴾ بالياء في قوله تعالى :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾(البقرة: 124) ؛ إذ قالوا : كان يجب أن يأتي بالواو ، فيقال : ﴿ الظَّالِمُونَ ﴾ ؛ لأنه فاعل { ينال } .
أولاً- وقبل الإجابة عن هذه الشبهة الواهنة التي صورتها الأوهام الفاسدة ، والأحقاد الضغينة ، نقول بعون الله وتعليمه : هذه الآية الكريمة وما يتلوها من آيات مسوقة لتقرير حقيقة عقيدة إبراهيم- عليه السلام- وبيان ما بينها وبين العقائد المشوهة المنحرفة التي عليها أهل الشرك من بعد ، وما بينها وبين عقيدة المسلمين من قرب ، ولتقرير وحدة دين الله عز وجل ، واطِّراده على أيدي رسله جميعًا ، ونَفْيِ فكرة احتكاره في أيدي أمة أو جنس ، وبيان أن العقيدة هي تراث القلب المؤمن ، لا تراث العصبية العمياء ، وأن وراثة هذا التراث لا تقوم على قرابة الدم والجنس ؛ ولكن على قرابة العقيدة والإيمان بها ؛ فمن آمن بهذه العقيدة ورعاها في أي جيل ومن أي قبيل ، فهو أحق بها من أبناء الصلب وأقرباء العصب ! فالدين دين الله تعالى ، وليس بين الله ، وبين أحد من عباده نسب ولا صهر !
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة ، وأن اليهود عيَّروا المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة ، وترك بيت المقدس ، ذكر الله تعالى هنا قصة إبراهيم- عليه السلام- وما ابتلاه به الله سبحانه ، واستطرد بعد ذلك إلى ذكر البيت وكيفية بنائه ، وأنهم لما كانوا من نسل إبراهيم ، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعًا لشرعه ، واقتفاء لآثاره ، فكان تعظيم البيت لازمًا لهم ، فنبَّه الله تعالى بذلك على سوء اعتمادهم ، وكثرة مخالفاتهم ، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم ، وأنهم وإن كانوا من نسل إبراهيم- عليه السلام - لا ينالون لظلمهم شيئًا من عهده . ومثلهم في ذلك المشركون الذين كانوا يدعون أيضًا أنهم من نسله ، ومن ساكني حرمه ، وخادمي بيته . فكما أن اليهود يرجعون بأصولهم إلى إبراهيم عن طريق إسحاق - عليهما السلام - ويعتزون بنسبتهم إليه ، وبوعد الله تعالى له ولذريته بالنمو والبركة ، وعهده معه ومع ذريته من بعده ؛ كذلك فإن قريشٌ ترجع بأصولها إلى إبراهيم عن طريق إسماعيل - عليهما السلام – وتعتز بنسبتها إليه ؛ وتستمد من تلك الأصول القوامة على البيت ، وعمارة المسجد الحرام ، وتستمد كذلك سلطانها الديني على العرب ، وفضلها وشرفها ومكانتها .
هذه الحقائق التي تمثل شطرًا من الخطوط الأساسية في التصور الإسلامي يجلوها القرآن الكريم هنا في نسق من الأداء عجيب ، وفي عرض من الترتيب والتعبير بديع . يسير بنا خطوةً خطوة من لدن إبراهيم- عليه السلام - منذ أن ابتلاه ربه ، فاستحق اختياره واصطفاءه ، وتنصيبه للناس إمامًا ، إلى أن نشأت الأمة المسلمة المؤمنة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، استجابة من الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل ، وهما يرفعان القواعد من البيت الحرام ، فاستحقت وراثة هذه الأمانة دون ذرية إبراهيم جميعًا . بذلك السبب الوحيد الذي تقوم عليه وراثة العقيدة .. سبب الإيمان بالرسالة ، وحسن القيام عليها ، والاستقامة على تصورها الصحيح .
وفي ثنايا هذا العرض التاريخي يبرز السياق أن الإسلام- بمعنى إسلام الوجه لله وحده- كان هو الرسالة الأولى ، وكان هو الرسالة الأخيرة .. هكذا اعتقد إبراهيم ، وهكذا اعتقد من بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، حتى أسلموا هذه العقيدة ذاتها إلى موسى وعيسى ، ثم آلت أخيرًا إلى ورثة إبراهيم من المسلمين . فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها ، ووريث عهودها وبشاراتها ، ومن فسق عنها ، ورغب بنفسه عن ملة إبراهيم ، فقد فسق عن عهد الله ، وفقد وراثته لهذا العهد وبشاراته . وقد بين الله تعالى ذلك في قوله :﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾(البقرة: 130) ، وقوله تعالى :﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾(آل عمران: 67) .
عندئذ تسقط كل دعاوى اليهود والنصارى في اصطفائهم واجتبائهم ، لمجرد أنهم أبناء إبراهيم- عليه السلام- وحفدته ، وأنهم ورثته وخلفاؤه ، لقد سقطت عنهم الوراثة منذ أن انحرفوا عن هذه العقيدة .. وتسقط كذلك كل دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام عليه وعمارته ؛ لأنهم قد فقدوا حقهم في وراثة باني هذا البيت ورافع قواعده بانحرافهم عن عقيدته . ثم تسقط كل دعاوى اليهود فيما يختص بالقبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون ؛ فالكعبة هي قبلتهم ، وقبلة أبيهم إبراهيم . كل ذلك في نسق من العرض والأداء والتعبير عجيب ، حافل بالإشارات الموحية ، والوقفات العميقة الدلالة ، والإيضاح القوي التأثير .
ثانيًا- وقوله تعالى :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ قرأه ابن عباس وأبو الشعثاء ، وأبو حيوة ، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم ، برفع لفظ { إبراهيم } ، ونصب لفظ { ربّه } هكذا :﴿ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ ﴾ . والمعنى : أن إبراهيم- عليه السلام- دعا ربه بكلمات من الدعاء فعل المختبر : هل يجيبه سبحانه إليهن ، أم لا ؟ .. وقرأه الجمهور ، برفع لفظ { ربّه } على أنه فاعل مؤخر ، ونصب لفظ { إبراهيمَ } على أنه مفعول به مقدم للاهتمام به .
والابتلاء : الاختبار . وقيل : الابتلاء هو إظهار الفعل ، والاختبار هو طلب الخبر ، وهما متلازمان . والمراد به على القراءة المشهورة : أن الله تعالى كلف إبراهيم- عليه السلام- بأوامر ونواه ، وهو عالم بما يكون منه ، فوفَّى ما كلِّف به ؛ كما شهد الله تبارك وتعالى له يذلك في موضع آخر ، فقال سبحانه :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾(النجم: 37) . روى القاسم بن محمد ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« أتدرون ما وفَّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : وفَّى عمل يوم بأربع ركْعات في النهار » .
والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفِّي ، ولا يستقيم ! عندئذ استحق إبراهيم- عليه السلام- ذلك المقام عند ربه ، وهو مقام عند الله جل وعلا عظيم ، فقال سبحانه : ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ . أي: جاعلك إمامًا يتخذونه قدوة يقودهم إلى الله تعالى ، ويقدمهم إلى الخير ، ويكونون له تبعًا ، وتكون له فيهم قيادة . وفهم إبراهيم- عليه السلام- من قول ربه جل وعلا أنه اختصَّه للإمامة ، فقال على سبيل الاستعلام :﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ ؟ أي : أوتجعل من ذريتي إمامًا ؟ والاستعلام يؤول معناه إلى السؤال ؛ وكأنه سأل ربه جل وعلا أن يجعل من ذريته إمامًا ! فأتاه الجواب من ربه جل وعلا :﴿ قَالَ : لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ .
ثالثًا- وقوله تعالى :﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ قرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش الظالمين ، بالواو هكذا :﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمُونَ ﴾ ، على أنه فاعل مؤخر . وقرأه الجمهور بالياء على أنه مفعول به . والنَّيْلُ في الأصل هو الإصابة ، وهو مصدر نال ينال نَيْلاً بالياء ، إذا أصاب شيئًا ، ووصل إليه . ويقال أيضًا بمعنى : أحرز ؛ فإن فيه معنى الإصابة ؛ كقوله تعالى :﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾(آل عمران: 92) .
ومعنى الآية على قراءة من قرأ ﴿ الظَّالِمُونَ ﴾ : لا يصل عهدي إلى الظالمين . أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه . أي : من كان ظالمًا من ذرية إبراهيم- عليه السلام- فإنه لا ينال عهد الله عز وجل . وعلى قراءة بالياء ﴿ الظَّالِمِينَ ﴾ : لا يصيب عهدُ الله تعالى الظالمين . أي : لا يشملهم . وتوجيه الآية على القراءتين أن العهدَ يَنال كما يُنال ، فيجوز فيه أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مفعولاً ؛ لأن ما نالك ، فقد نلته أنت . وقد جاء قول الله تعالى :﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾(الحج: 37) ، على خلاف ذلك ، حيث قدم فيه المفعول على الفاعل في الموضعين ؛ كما في قراءة أبي رجاء وقتادة والأعمش :﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمُونَ ﴾ . والمعنى : لن يصل اللهَ تعالى لحومُها ولا دماؤها ؛ ولكن يصله التقوى منكم ، على حدِّ قوله تعالى :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾(فاطر: 10) .
والظاهر أن المراد بـ{ العهد } هنا : الإمامة ؛ لأنها هي المُصَدَّر بها ، فأعلم الله تعالى إبراهيم- عليه السلام- أن الإمامة لا تنال الظالمين ، والدليل على ذلك أن قول الله تعالى :﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ لا يكون جوابًا عن قول إبراهيم :﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ ؟ إلا إذا كان المراد بهذا العهد : الإمامة . ومن دقة القرآن اختيار هذا اللفظ هنا ؛ لأن اليهود زعموا أن الله عهد لإبراهيم عهدًا بأنه مع ذريته ، ففي ذكر لفظ { العهد } تعريض بهم ، وتوبيخ للمشركين .
والظلم أنواع وألوان : ظلم النفس بالشرك ، وظلم الناس بالبغي . والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة : إمامة الرسالة ، وإمامة الخلافة ، وإمامة الصلاة ، وكل معنى من معاني الإمامة والقيادة . فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها . ومن ظلم - أي لون من الظلم - فقد جرد نفسه من حق الإمامة ، وأسقط حقه فيها ، بكل معنى من معانيها .
وهذا الجواب الذي أجاب الله تعالى به إبراهيم- عليه السلام- هو من الجواب الذي يربو على السؤال ؛ لأن إبراهيم طلب من ربه عز وجل ، وسأل أن يجعل من ذريته إمامًا ، فأجابه إلى أنه لا ينال عهدُه الظالمين ، ودل بمفهومه الصحيح على أنه ينال عهدُه من ليس بظالم ، وكان ذلك دليلاً على انقسام ذريته إلى ظالم ، وغير ظالم . وهو بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع في تنحية المشركين واليهود عن القيادة والإمامة ، بما ظلموا ، وبما فسقوا ، وبما عَتَوْا عن أمر الله ، وبما انحرفوا عن عقيدة جدهم إبراهيم . وهو قاطع أيضًا في تنحية المشركين ، وتنحية من يُسمُّون أنفسهم اليوم : المسلمين ؛ وذلك بما ظلموا ، وبما فسقوا ، وبما بعدوا عن طريق الله ، وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم . ودعواهم الإسلام ، وهم ينحون شريعة الله ومنهجه عن الحياة ، دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله عز وجل .