قال الله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾( البقرة: 26- 27 )
أولاً- هذا المثل جواب اعتراض اعترض به الكفار على القرآن، وقالوا: إن الرب أعظم من أن يذكر الذباب والعنكبوت ونحوهما من الحيوانات الخسيسة. فلو كان ما جاء به محمد كلام الله، لم يذكر فيه الحيوانات الخسيسة، فأجابهم الله تعالى بقوله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
فبيَّن سبحانه أن ضرب الأمثال بالبعوضة فما فوقها، إذا تضمن تحقيق الحق وإيضاحه، وإبطال الباطل وإدحاضه، كان من أحسن الأشياء، والحسن لا يستحيا منه، فليس في ذلك محل اعتراض؛ بل هو من تعليم الله تعالى لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى تلك الأمثال بالقبول والشكر.
وكأنَّ معترضًا اعترض على هذا الجواب، أو طلب حكمة ذلك، فأخبر سبحانه وتعالى عمَّا له في ضرب تلك الأمثال من الحكمة؛ وهي إضلال من يشاء، وهداية من يشاء.
ثم كأن سائلاً سأل عن حكمة الإضلال لمن يضله بذلك، فأخبر تعالى عن حكمته وعدله، وأنه إنما يضل به الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض؛ فكانت أعمالهم هذه القبيحة، التي ارتكبوها سببًا؛ لأن أضلهم وأعماهم عن الهدى.
ومناسبة هذا المَثَل لمَا قبله أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي الكفار بأن يأتوا بسورة من مثل القرآن، فلمَّا عجزوا عن ذلك، سلكوا في المعارضة طريقة الطَّعْن في المعاني، فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزَّه عنه كلام الله تعالى. وقد ثبت أن اليهود والمنافقين والمشركين كانوا جميعًا متوافقين على إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجدوا في الأمثال، التي ضرِبت لهم في القرآن الكريم منفذًا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن العظيم، بحجة أن ضرب الأمثال، بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم واحتقار لشأنهم، لا تصدر عن الله تعالى، وأن الله سبحانه لا يذكر في كلامه هذه الأشياء الصغيرة؛ كالذباب والعنكبوت ونحوهما من أمثال السَّوْء، التي ضربها لهم.
وكان هذا طرفًا من حملة التشكيك والبلبلة، التي كان يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة؛ كما كان يقوم بها المشركون في مكة، فجاءت هذه الآيات دفعًا لهذا الدَّسِّ والتشكيك، وبيانًا لحكمة الله تعالى في ضرب هذه الأمثال، وتحذيرًا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها، وتطمينًا للمؤمنين أنْ ستزيدهم إيمانًا.
وإلى ذلك أشار الزمخشري بقوله:” والعجبُ منهم، كيف أنكروا ذلك، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض والحشرات والهوام. وهذه أمثال العرب بين أيديهم مُسَيَّرةٌ في حواضرهم وبواديهم، قد تمثَّلوا فيها بأحقر الأشياء، فقالوا: أجمعُ من ذرَّة، وأجرأُ من الذباب، وأسمعُ من قُرَاد، وأصْرَدُ من جرادة، وأضعفُ من فراشة، وآكلُ من السوس. وقالوا في البعوضة: أضعفُ من بعوضة، وأعزُّ من مخ البعوضة، وكلفتني مخَّ البعوضة. ولقد ضُرِبَتِ الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقَّرة؛ كالزوان، والنخالة، وحبة الخردل، والحصاة، والدود، والزنابير.
والتمثيل بهذه الأشياء، وبأحقر منها ممَّا لا تُغْبَى استقامتُه وصحتُه على من به أدنى مُسْكَة؛ ولكن دَيْدَن المحجوج المبهوت، الذي لا يبقى له متمسَّك بدليل، ولا متشبَّث بأمارة، ولا إقناع أن يرمي لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح، وإنكار المستقيم، والتعويل على المكابرة والمغالطة، إذا لم يجد سوى ذلك معولاً “.
ثانيًا- ومَساقُ قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ مصدَّرٌ بـ﴿ إِنَّ ﴾ يدل على التوكيد، وجيء بفعل الاستحياء المنفي مسندًا إلى لفظ الجلالة دون غيره من أسماء الله تعالى؛ لأنه الاسم الجامع لصفات الكمال والجلال كلها، فكان ذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه سبحانه هو الأعلى في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة. وفي ذلك أيضًا إبطال لتمويه الكفار، وتشكيكهم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله تعالى؛ إذ ليس من معنى الآية الكريمة أن غير الله تعالى ينبغي له أن يستحيي أن يضرب مثلاً من هذا القبيل.
ولهذا أيضًا اختار سبحانه وتعالى أن يكون المسندُ إلى لفظ الجلالة خُصوصَ فعل الاستحياء، زيادةً في الردِّ عليهم؛ لأنهم أنكروا التمثيل بهذه الأشياء، لمراعاة كراهة الناس. ومثل هذا ضرب من الاستحياء، فنُبِّهوا على أن الخالق جل وعلا لا يستحيي من ذلك؛ إذ ليس ممَّا يستحيا منه؛ ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها، والمتصرف فيها، وما من شيء خلقه الله تعالى، إلا وفيه حكم كثيرة؛ منها ما يعلم، ومنها ما يجهل.
على أن العبرة في الأمثال ليست في الحجم والشكل؛ وإنما العبرة فيها أنها أدوات للتنوير والتبصير؛ وذلك” لما فيها من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناء المتوهَّم من المشاهد؛ فإن كان المتمثل له عظيمًا كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرًا كان المتمثل به كذلك. فليس الكبر والصغر، أو العظم والحقارة في المضروب به المثل- إذًا- إلا أمرًا تستدعيه حال المتمثل له، وتستجرُّه إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية. ألا ترى إلى الحق لما كان واضحًا جليًّا أبلجَ، كيف مثِّل له بالضياء والنور، وإلى الباطل لما كان بضد صفته كيف مثل له بالظلمة ؟ ولما كانت حال الأولياء الذين يتخذهم المشركون أندادًا لله تعالى، لا حال أحقرَ منها وأقلَّ، جعل الله تعالى بيت العنكبوت مَثلَها في الوهَن، وجعلها أقلَّ من الذباب وأخسَّ قدرًا، وضرب لها البعوضة، فما فوقها مثلاً “.
فليس في ضرب هذه الأمثال ما يعاب، وما من شأنه الاستحياء من ذكره؛ لأنه كلما كان المضروب به المثل أضعف، كان المثل أقوى وأوضح. والله تعالى جلَّت حكمته يضرب للناس في الحق والباطل أمثالاً، لا يعقلها إلا العالمون، الذين يخشونه، يريد بها اختبار القلوب وامتحان النفوس والكشف عن خباياها. وهذا حقٌّ، والله تعالى لا يستحيي من إظهار الحق وبيانه؛ كما أخبر سبحانه عن نفسه في آية أخرى، فقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾(الأحزاب: 53)
وقراءة الجمهور:﴿ يَسْتَحْيِي ﴾، بياءين، وهي لغة الحجاز، والماضي منه: استحيا، على وزن: استفعل. وقرأ ابن كثير في رواية شبل:﴿ يَسْتَحِي ﴾، بياء واحدة، وهي لغة بني تميم، والماضي منه: استحى، ووزنه: استَفَلَ، عند جمهور النحاة، على أن المحذوف هو عين الفعل. واستَفْعَ، عند بعضهم، على أن المحذوف هو لام الفعل، وكلاهما من الحياء، يقال: حَيِيَ الرجل، واستحيا. ومجيئه على وزن: استفعل، ليس المراد به الدلالة على الطلب، مثل استوقد. أي: طلب الإيقاد؛ وإنما المراد به المبالغة، مثل استقدم، واستأخر، واستنكف، واستأثر، واستبد، واستعبر. وذهب بعضهم إلى القول بأنه جاء- هنا- على وزن: استفعل، للإغناء عن الثلاثي المجرد، وهو من المعاني، التي جاء لها: استفعل.
وفي استحيا لغتان: الأولى: استحييته. والثانية: استحييت منه. فيكون ممَّا يُعَدَّى بنفسه تارة، وممَّا يُعَدَّى بـ﴿ مِنَ ﴾ تارة أخرى. فعلى هذا يحتمل قوله تعالى:﴿ أَنْ يَضْرِبَ ﴾ أن يكون مفعولاً به عُدِّيَ إليه الفعل بنفسه. أو عُدِّيَ إليه بإسقاط ﴿ مِنَ ﴾، التي يَحسُن ذكرها مع المصدر الصريح؛ كما في قوله تعالى في آية الأحزاب: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ ، ويحسُن حذفها مع ﴿ أَنْ ﴾، والفعل؛ كما في قوله تعالى هنا :﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ﴾ .
والحياء- في أصل اللغة- هو انقباض النفس عن الشيء، والامتناع منه خوفًا من مواقعةِ القبح. واشتقاقه من الحياة؛ فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية، فيردها عن أفعالها، وهيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال، يظهر أثرها على الوجه، وفي الإمساك عمَّا من شأنه أن يُفعل. ولما كان الحياء بهذا المعنى غير لائق بجلال الله تعالى، اختلف المفسرون في تأويل الاستحياء المنسوبِ نفيُه إلى الله تعالى على ثلاثة أقوال:
أولها: لا يترك أن يضرب مثلاً مَّا. فعبَّر بالحياء عن الترك اللازم للفعل؛ لأن الترك من ثمرات الحياء؛ لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء، تركه، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب.
والثاني: لا يخشى أن يضرب مثلاً مَّا. وسمِّيت الخشية حياء؛ لأنها من ثمراته، وقد قيل في قوله تعالى:﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾( الأحزاب: 37 ): إن معناه: تستحي من الناس.
والثالث: لا يمتنع أن يضرب مثلاً بالبعوضة امتناعَ المستحيي.
وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء، التي موضوعُها في اللغة، لا ينبغي أن يوصف الله تعالى به، وكلها متقاربة من حيث المعنى، وأشهرها التأويل الأول، وبه أوِّل الحياء، الذي جاء مثبتًا منسوبًا إلى الله تعالى في الحديث، الذي أخرجه الترمذي في سننه عن سلمان الفارسيِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:” إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ “، فقد أُوِّل بأنه سبحانه تاركٌ للقبائح، فاعلٌ للمحاسن.
وذهب الشيخ ابن تيميَّة إلى أنه لا داعي لتأويل الحياء بالترك اللازم للانقباض؛ كما ذهب إلى ذلك كثير من المفسرين؛ لأن صفات الله تعالى لا تحتمل تأويلاً، ولا تكييفًا. ومذهب أهل الحديث- وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف- أن هذه الأحاديث تمرُّ كما جاءت، ويؤمَن بها، وتصدَّق وتصَان عن تأويل يفضى إلى تعطيل، وتكييف يفضى إلى تمثيل؛ وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يُحتذَى حذوُه، ويُتبَعُ فيه مثالُه. فإذا كان إثباتُ الذات إثباتَ وجود لا إثبات كيفية، فكذلك يكون إثباتُ الصفات إثباتَ وجود لا إثبات كيفية، والله جل وعلا أخبر عن نفسه، فقال:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾(الشورى:11)
ففي قوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ ردٌّ للتشبيه والتمثيل، وفي قوله:﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ ردٌّ للإلحاد والتعطيل. والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصَّل، ونفيٍ مجمَل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفَوْا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل.
أما أبو حيَّان، فقال:” والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب، وفيه الحقيقة والمجاز؛ فما صحَّ في العقل نسبتُه إليه، نسبناه إليه، وما استحال أوَّلناه بما يليق به تعالى؛ كما نؤوِّل فيما ينسَب إلى غيره، ممَّا لا يصحُّ نسبتُه إليه. والحياءُ- بموضوع اللغة- لا يصحُّ نسبتُه إلى الله تعالى؛ فلذلك أوَّله أهل العلم “.
وذهب بعضهم إلى القول بأن الاستحياء- هنا- منفيٌّ عن أن يكون وصفًا لله تعالى، فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله جل وعلا. ورُدَّ ذلك بأن نفيَ الاستحياء عنه سبحانه في شيء مخصوص، يُفْهَم منه ثبوتُه في غيره؛ كما دلَّ على ذلك الحديث السابق. وأجيب عنه بأن انتفاء الشيء ليس ممَّا يدل على تجويزه على من نُفِيَ عنه، ولا على صحة نسبته إليه، وأن كل أمر مستحيل على الله تعالى إثباته يصح أن ينفى عنه، وبذلك نزل القرآن، وجاءت السنة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:
﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ ﴾(البقرة: 255)
﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾(الإخلاص: 3)
﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾(الأنعام: 14)
كيف جاءت هذه الصفات منفية عن الله تعالى، وهي ممَّا لا تجوز نسبتها إليه سبحانه ؟ ويقال: إن كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده.
وقيل: قد يكون ذِكْرُ الاستحياء- هنا- محاكاة لقول الكافرين على سبيل المقابلة؛ لأنه روي أن الكفار قالوا: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ؟ ومجيء الشيء على سبيل المقابلة، وإن لم يكن من جنس ما قوبل به، شائع في لسان العرب؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾( البقرة: 194 ) ، فسمَّى جزاء الاعتداء اعتداء؛ لأن العقوبة كثيرًا ما تسمَّى باسم الذنب، وإن لم تكن في معناه.
ثالثًا- وقوله تعالى:﴿ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾. أيْ: أيَّ مثل كان، لاشتمال الأمثال على الحكمة، وإيضاح الحق. وعبَّر عن ذلك بلفظ الضَّرْبِ؛ لأنه يأتي عند إرادة التأثير، وهَيْجِ الانفعال؛ كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعًا، ينفذ أثره إلى قلبه، وينتهي إلى أعماق نفسه. وإذا كان الغرض من ضرب المثل هو التأثير، فالبلاغة تقضي أن تُضْرَبَ الأمثالُ لمَا يُرادُ تحقيرُه، والتنفيرُ عنه بحال الأشياء، التي جرى العُرْفُ على تحقيرها، واعتادت النفوسُ على النفور منها.
وضربُ المثل يعني: جمعه وتأليفه وتقديره. أي: صوغُه وإنشاؤه من مجموع شيئين متماثلين في الحكم، أحدُهما أصلٌ، والآخرُ فرع، يقاس على الأصل للاعتبار به؛ إما قياسُ تمثيلٍ- كما في الأمثال المعيَّنة، التي يُصرَّح فيها بذكر الأصل والفرع- كمثل المنافقين. وإما قياسُ شُمولٍ- كما في الأمثال الكليَّة، التي يصرَّح فيها بالأصل المعتبر به؛ ليستفاد منه حكمُ الفرع من غير تصريح بذكر الفرع- كهذا المثل، وهو قوله تعالى:﴿ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾، فقد ضربه الله تعالى مَثلاً للآلهة، التي جعلها المشركون أندادًا لله سبحانه وتعالى. والغرضُ منه: تحقيرُ تلك الآلهة، والتقليلُ من شأنها.
وقيل : هذا مثلٌ ضُرِبَ للدنيا وأهلها؛ فإن البعوضة تحيا ما جاعت، وإذا شبعت ماتت. كذلك أهل الدنيا إذا امتلؤا منها، هلكوا. أو هو مثلٌ لأعمال العباد، وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قلَّ، أو كثُر؛ ليجازي عليه ثوابًا وعقابًا. وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها؛ بل هي ابتداء كلام، وكلا القولين ضعيف، يأباه رَصْفُ الكلام واتِّسَاقُ المعنى.
وقوله تعالى:﴿ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ هو من الطباق الخفي، الذي يقوم على المقابلة بين الصغير، والأصغر منه. و﴿ مَا ﴾ إبهامية، توصَف بها النكرةُ، فتزيدها إبهامًا وشيوعًا وعمومًا. والمعنى: مثلاً أيَّ مثل كان. وقد تفيد التحقير؛ كقولك: أعطه شيئًا مَّا، وتفيد التعظيم؛ كقولهم في المثل:{ لأمر مَّا جدع قصيرُ أنفه }، وتفيد التنويع؛ كقولك: اضربه ضربًا مَّا. وقد جعلها بعضهم- هنا- سيفَ خطيبٍ. أي: صلة مُلغاة، أو زائدة. وعليه يكون التقدير: مَثَلاً بَعُوضَةً. والقرآن الكريم أجلُّ وأعظمُ من أن يُلْغَى فيه شيءٌ، أو يُزادُ لغير معنى. وقد وصفه الله تعالى بكونه هدى وبيانًا. وكونُه فيه لغوٌ، أو زائدٌ ينافي ذلك.
وقوله تعالى:﴿ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ تفسير لـقوله:﴿ مَثَلًا مَا ﴾، وبدل منه. وقرىء:﴿ بَعُوضَةٌ ﴾، بالرفع. وتوجيهُ هذه القراءة عند النحاة أن البعوضة خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو. وعليه تكون ﴿ مَا ﴾ موصولة، ويكون التقدير: مثلاً الذي هو بعوضةٌ.
و﴿ بَعُوضَةٌ ﴾ واحد البعوض، وهو من الحشرات ثنائية الجناحين، ويشترك مع الذباب في عائلة واحدة، ويتواجد بكثرة في كل أنحاء العالم ماعدا القطبين. ولفظه مَبْنِيٌّ من البَعْض، بمعنى: القطع؛ وذلك لصغر جسمه بالإضافة إلى سائر الحشرات. وقيل: خصَّه الله تعالى بالذكر في القلة، فأخبر سبحانه أنه لا يستحيي أن يضرب أقلَّ الأمثال في الحق وأصغرها. وعن قتادة قال:” البعوضة أضعف ما خلق الله “. ومع ذلك ففيها من دقيق الصنع، وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه، ولا ينكر ذلك إلا نمرود. ومما قيل في وصفها: إنها صغيرة جدًا، وخرطومها في غاية الصغر، ثم إنه مع ذلك مجوَّف، وإنه مع فرط صغره، وتجويفه يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته؛ وذلك لما ركب الله تعالى فيه من السم.
والمشهور عن البعوض- ذكرًا كان أو أنثى- أنه مصَّاص للدماء. والذي ثبت أخيرًا أن أنثى البعوض هي التي تمصُّ الدماء دون الذكر. وربما كان في ذكر الله سبحانه للبعوضة بصيغتها المؤنثة نوع من الإعجاز؛ وذلك أن البعوضة المؤنثة أشد قوة، وأكثر تعقيدًا، كما أنها هي التي تنقل الأمراض لانتشارها في المنازل. أما الذكور منها فلا تظهر إلا في موسم التزاوج. والسر في تخصُّص أنثى البعوض بمصِّ الدماء دون الذكر هو البحث عن مصدر للبروتين، لإنتاج وإنضاج البيض، الذي تفرزه، فهي مضطرة لامتصاص الدم؛ لكي تحافظ على دوام نسلها. أما غذاء البعوض عامة فهو من خلاصة الزهور.
والفاء في قوله:﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ عاطفة ترتيبية، ولا يخفى ما فيه من التفصيل. ومذهب المفسرين أن المراد بالفوقية: إما الزيادة في حجم المُمَثَّل به- كما هو الظاهر- فيكون ترقيًا من الصغير للكبير. وعليه يكون المعنى: بعوضة، فما فوقها في العظم. أو يكون المراد بها: الزيادة في المعنى، الذي وقع التمثيل فيه، وهو الصغر والحقارة، فيكون تنزُّلاً من الصغير للأصغر، ومن الحقير للأحقر. وعليه يكون المعنى: بعوضة، فما فوقها في الصغر والحقارة. وعبَّر عنه أبو عبيدة بقوله: فما دونها.
ونظيره في الاحتمالين- على ما قيل- ما رواه مسلم في صحيحه، عن إبراهيم بن الأسود، قال:” دخل شباب من قريش على عائشة رضي الله عنها- وهي بمنى- وهم يضحكون، فقالت: ما يضحككم ؟ قالوا: فلان خرَّ على طُنُبِ فِسْطاطٍ، فكادت عنقه، أو عينه أن تذهب. فقالت: لا تضحكوا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ما من مسلم يشاك شوكة، فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة “.
فقوله صلى الله عليه وسلم:” شوكة، فما فوقها “ يحتمل: فما هو أشد من الشوكة، وأوجع؛ كالخرور على طُنُبِ الفسطاط. ويحتمل: فما عدا الشوكة، وتتجاوزها في القلة؛ كنُخْبَةِ النملة. أي: كعضَّتها؛ جاء في كشف الخفاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه، حتى نُخْبَة النملة “. والمحققون- كما قال الفخر الرازي- مالوا إلى القول الثاني، لوجوه:
أحدها: أن المقصد من هذا التمثيل تحقير الأوثان. وكلما كان المشبه به أشدَّ حقارة، كان المقصود أكملَ حصولاً.
وثانيها: أن الغرض- هنا- بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير. وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون المذكور ثانيًا أشدَّ حقارة من الأول. يقال: إن فلانًا يتحمل الذل في اكتساب الدينار، وفي اكتساب ما فوقه. يعني: في القلة؛ لأن تحمل الذل في اكتساب أقل من الدينار أشدُّ من تحمله في اكتساب الدينار.
وثالثها: أن الشيء كلما كان أصغر، كان الاطلاع على أسراره أصعب. فإذا كان في نهاية الصغر، لم يحط به إلا علم الله تعالى، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير.
هذا ، وقد ثبت أخيرًا صحة هذا القول، حين اكتشف العلماء حشرة صغيرة جدًا، لا تُرى إلا بالعين المجهرية، تعيش فوق ظهر البعوضة. فإذا ثبت ذلك، يكون في قوله تعالى:﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ سر من أسرار الإعجاز القرآني، لم يتم الكشف عنه إلا حديثًا، وعليه يكون المراد بالفوقية ظاهر معناها، وهو نقيض التحتية .
وإذا كان الله سبحانه قد ضرب المثل بالبعوضة، فما فوقها في الصغر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب مثلاً للدنيا بجناح البعوضة، فقال عليه الصلاة والسلام:” لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرًا شربة ماء“. قال الزمخشري:” وفي خلق الله حيوان أصغر منها، ومن جناحها؛ فلربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دُوَيْبَة، لا يكاد يُجْليها للبصر الحادِّ إلا تحرُّكها، فإذا سكنت، فالسكون يُواريها، ثم إذا لوَّحْتَ لها بيدك، حادت عنها، وتجنبت مضرتها.. فسبحان من يدرك صورة تلك، وأعضاءها الظاهرة والباطنة، وتفاصيل خلقها، ويبصر بصرها، ويطَّلع على ضميرها، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها، وأصغر“. ومن ذلك الفيروس، الذي خفِي عن البشرية سنين عديدة، وعندما ظهر أربكها, وأحدث هرْجًا ومرْجًا عظيمين في صفوف علمائها قبل عوامِّها. وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” يا أيها الناس! لا تغتروا بالله ؛ فإن الله، لو كان مغفلاً شيئًا ، لأغفل البعوضة ، والذرة ، والخردلة “ .
فـ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾( يس: 36 ) !
رابعًا- وقوله تعالى:﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾ بيانٌ لموقف الناس من هذا المثل، وشروعٌ في تفصيل ما يترتب على ضربه من الحكم. والمعنى: فأما المؤمنون الذين من عادتهم الإِنصاف، والنظر في الأمور بنظر العقل واليقين، فإنهم إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل، علموا أنه الحق، الذي لا تمر الشبهة بساحته. وأما الكافرون فإنهم، لانطماس بصيرتهم، وتغلب الأحقاد على قلوبهم، إذا سمعوا ذلك، عاندوا وكابروا وقابلوه بالإِنكار؛ ولهذا قال تعالى:﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ﴾، فهذه حال المؤمنين، والكافرين عند نزول الآيات القرآنية. قال تعالى:
﴿ وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾(التوبة: 124)
وقولهم:﴿ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾ ؟ هو سؤال المحجوب عن نور الله تعالى وحكمته، المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره.. ثم هو سؤال من لا يرجو لله وقارًا، ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب جل وعلا. يقولونها في جهل وقصور، في صيغة الاعتراض والاستنكار، أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله سبحانه وتعالى!
والفاء في قوله تعالى:﴿ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾، وقوله:﴿ فَيَقُولُونَ ﴾، لربط ما بعدها بما قبلها، وللدلالة على أن ما بعدها محقق الوقوع. و{ الْحَقُّ } هو الثابت، الذي يحِقُّ ثبوته لا مَحالةَ، بحيث لا سبيل للعقل إلى إنكاره. وتعريفه للدلالة على أنه مشهود له بالحَقيِّة. ويقال: حَقَّ الأمرُ، إذا ثبت ووجب. وثوب مُحَقَّقٌ: مُحكَمُ النسج. ومن المعروف في علم البيان أن الخبر قد يؤتَى به مُعرَّفًا بأل، للدلالة على أن المخبر عنه بالغٌ في الوصف الذي أخبر به عنه مرتبةَ الكمال.
وقوله تعالى:﴿ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾، حال من الحق. و{ مِنْ } ابتدائية. أي: إن هذا الكلام وارد من الله تعالى، لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب. فهو مؤذن بأنه من كلام ربهم، الذي لا يقع منه الخطأ، وجيء بلفظ { الرب } مضافًا إلى ضمير المؤمنين، تشريفًا لهم، وإيذانًا بأن ضرب المثل تربيةٌ لهم، وإرشادٌ إلى ما يوصلهم إلى كمالهم، اللائق بهم.
وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يقال:{ وأما الذين كفروا فلا يعلمون }؛ ليطابق قرينه، ويقابل قسيمه، وهو قوله تعالى:﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ ﴾. ولكن أوثر عليه قوله تعالى:﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ﴾، لمَا في هذا من المبالغة في ذمِّهم، والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم، وتمام غلوِّهم في الكفر؛ لأن الاستفهام بقولهم:﴿ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾ ؟ إما لعدم العلم، أو للإنكار. وكلٌّ منهما يدل على الجهل، والغلوِّ في الكفر دلالة واضحة. ومن قال للمسك: أين الشذا ؟ يكذبه ريحه الطيب. وقيل: إن﴿ يَقُولُونَ ﴾ لا يدل صريحًا على العلم- وهو المقصود- كما يدل عليه:﴿ يَعْلَمُونَ ﴾. وأما الكافرون فكان منهم الجاهل، الذي لا يعلم، والمعاند، الذي يعلم، فكان يقول ما يقول مكابرة وعنادًا، وهو يعلم أن ذلك تمثيل أصاب المِحَزَّ؛ ولهذا كان قوله تعالى في حقهم:﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ﴾ أشملَ وأجمعَ من قول:{ وأما الذين كفروا فلا يعلمون }.. فتأمل ذلك !
واختلف النحاة في:{ مَاذَا } من قوله تعالى:﴿ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾ ؟ فقيل: هي بمنزلة اسم واحد، بمعنى: أيَّ شيء أراد الله بهذا مثلاً ؟ فيكون في موضع نصب بـ{ أَرَادَ }. وقيل:{ مَا } اسم تام في موضع رفع بالابتداء، و{ ذَا } بمعنى: الذي، وهو خبر الابتداء. أي: ما الذي أراد الله بهذا مثلاً ؟ والجيِّد هو القول الأول. والإِرادة في أصل اللغة: نزوع النفس إلى الفعل، وإذا أسندت إلى الله تعالى دلت على صفة له، تتعلق بالممكنات، فيترجح بها أحد وجهي المقدور، وقد كان جائز الوقوع، وعدم الوقوع. وفي الإشارة بـ{ هذا } استحقارٌ منهم للمشار إليه، واسترذالٌ له؛ كقولهم:﴿ أهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ﴾(الفرقان:41). و{ مَثَلاً } منصوب على التمييز، الذي وقع موقع الحال.
خامسًا- وهنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير؛ وذلك قوله تعالى:﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ﴾، وهو عبارة عن جملتين جاريتين مجرى البيان والتفسير للجملتين المصدرتين بـ{ أَمَّا }؛ إذ تشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة، وعلى أن العلم بكونه حقًا من الهدى، الذي يزداد به المؤمنون نورًا إلى نورهم، والجهل بموقعه من الضلالة، التي يزداد بها الجهال خبطًا في ظلمتهم. وهاتان تزيدان ما تضمنتاه وضوحًا. أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات، ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة، هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية، وإضلال المنهمكين في الغواية. وصرح بعضهم بأنهما جواب لـ{ مَاذا }.
وفي وضع الفعلين{ يُضِلُّ }, و{ يَهْدِي } موضع المصدر إشعارٌ بالاستمرار التجددي. والمضارع يستعمل له كثيرًا؛ ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان. وقدِّم في النظم الإضلال على الهداية، مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله؛ ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرًا فظيعًا يسوؤهم، ويفت في أعضادهم، وهو السر في تخصيص هذه الفائدة بالذكر. ووصْفُ كلِّ فريق منهما بالكثرة؛ إنما هو بالنظر إلى أنفسهم، لا بالقياس إلى مقابلهم؛ وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال، كما يشير إليه قوله تعالى:﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾(سبأ:13)، فعبَّر عن عدد المهتدين تارة بالكثرة، نظرًا إلى ذواتهم, وتارة بالقلة، نظرًا إلى غيرهم.
ثم ختمت الآية الكريمة بقوله تعالى:﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾. أي: الذين فسقت قلوبهم من قبلُ، وخرجت عن الهدى والحق. فهؤلاء جزاؤهم أن يزيدهم كفرًا وضلالاً. وهو تذييل، أو اعتراض في آخر الكلام، بناء على قول من جوَّزه. ومنع بعضهم عطفه على ما قبله؛ لأنه لا يصح كونه جوابًا وبيانًا. وأجازه بعضهم، تكملة للجواب، وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم، ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له، وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالاً ابتدائيًا؛ بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه.و{ الفاسقون } هم الخارجون عن حدود الإيمان، وهو جمع فاسق، من الفسق، وهو الخروج عن الشيء، يقال: فسق الرُّطَب، إذا خرج من قشره. والفسق في استعمال الشرع هو خروج العقلاء عن الطاعة، فيشمل الكفر، ودونه من الكبيرة والصغيرة. واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة، فلا يطلق على ارتكاب غيرها إلا نادرًا بقرينة، وهو أعم من الكفر. قال تعالى:﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ ﴾(السجدة: 18)، فقابل به الإيمان. أما قوله تعالى:﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾(النور: 55) فعنى بالكافر: الساتر للحق؛ فلذلك جعله فاسقًا. ومعلوم أن الكفر المطلق هو أعم من الفسق. وإذا قيل للكافر: فاسق، فلأنه أخلَّ بحكم ما ألزمه العقل، واقتضته الفطرة.
وتخصيص الإضلال بهم مرتبًا على صفة الفسق، وما أجرى عليهم من القبائح، للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال، وأدى بهم إلى الضلال؛ فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل، صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل، حتى رسَخَت جهالتهم، وازدادت ضلالتهم، فأنكروا، وقالوا ما قالوا.
سادسًا- ويأتي بعد ذلك تفصيل صفة الفاسقين هؤلاء؛ كما فصِّلت من قبلُ في أول السورة صفة المتقين. فالمجال ما يزال- في السورة- هو مجال الحديث عن تلك الطوائف، التي تتمثل فيها البشرية في شتى العصور، فيقول سبحانه:
﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾.
فأيُّ عهد من عهود الله هو الذي ينقضون ؟ وأيُّ أمر ممَّا أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون ؟ وأيُّ لون من ألوان الفساد في الأرض هو الذي يفسدون ؟ لقد جاء السياق- هنا- بهذا الإجمال؛ لأن المجال مجال تشخيص طبيعة، وتصوير نماذج، لا مجال تسجيل حادثة، أو تفصيل واقعة.. إن الصورة هنا هي المطلوبة في عمومها، فكل عهد بين الله، وبين هذا النموذج من الخلق هو عهد منقوض. وكل ما أمر الله به أن يوصل هو بينهم مقطوع. وكل فساد في الأرض هو منهم مصنوع.. إن صلة هذا النمط من البشر بالله مقطوعة، وإن فطرتهم المنحرفة لا تستقيم على عهد، ولا تستمسك بعروة، ولا تتورع عن فساد.. إنهم كالثمرة الفجَّة، التي انفصلت من شجرة الحياة، فتعفَّنت وفسدت، ونبذتها الحياة، ومن ثمَّ يكون ضلالهم بالمَثل، الذي يهدي المؤمنين، وتجيء غوايتهم بالسبب، الذي يهتدي به المتقون.
وننظر في الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر، الذي كانت الدعوة تواجهه في المدينة في صورة اليهود والمنافقين والمشركين، والذي ظلت تواجهه، وما تزال تواجهه اليوم في الأرض مع اختلاف سطحي في الأسماء والعناوين !
وأول هذه الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر هو نقض عهد الله تعالى من بعد ميثاقه:﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾، وعهد الله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة، ترجع في حقيقتها إلى عهد واحد، وهو أن يعبدوا الله وحده، وأن يحكِّموا في حياتهم منهجه وشريعته، إنه عهد الفطرة المركوز في طبيعة كل حي أن يعرف خالقه، وأن يتجه إليه بالعبادة، وألا يتخذ من دونه سبحانه أنداداً وشركاء. ونقض العهد يعني: فسخه وإبطاله. وأصله يكون في الحبل، ونقيضه: الإبرام. ويكون في الحائط، ونحوه، ونقيضه: البناء. وشاع استعمال النقض في إبطال العهد، من حيث تسميتهم العهد بالحبل، على سبيل الاستعارة، لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين. ومنه قول ابن التيهان في بيعة العقبة:” يا رسول الله إن بيننا، وبين الله حبالاً، ونحن قاطعوها “. وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها، أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار، ثم يرمزوا بذكر شيء من روادفه، فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه؛ نحو قولك: شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس. والعهد: هو حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال. وسمِّي المَوْثِق، الذي يلزم مراعاته: عهدًا. قال تعالى:﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾(الإسراء:34). أي: أوفوا بحفظ الأيْمان. ويقال: عهد إليه في كذا، إذا أوصاه ووثقه عليه. واستعهد منه، إذا اشترط عليه واستوثق منه. فالوفاء بالعهد من الإيمان، والالتزام بالميثاق إيمان، ونقض العهد والميثاق كفر. وإذا نقِض عهدُ الله من بعد ميثاقه، فكل عهد دون الله منقوض. فالذي يجرؤ على عهد الله، لا يحترم بعده عهدًا من العهود. و{ من } في قوله تعالى:﴿ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ للابتداء، وتدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل. و{ مِيثَاق } على وزن: مفعال، وهو اسم في موضع المصدر.
وثاني هذه الآثار الهدامة قطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل:﴿ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ﴾. والله تعالى أمر بصلات كثيرة: أمر بصلة الرحم والقربى، وأمر بصلة الإنسانية الكبرى، وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية، التي لا تقوم صلة، ولا وشيجة إلا معها.. وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل، فقد تفككت العرى، وانحلت الروابط، ووقع الفساد في الأرض، وعمت الفوضى. فالآية عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل دون تخصيص؛ ولهذا ناسب أن يؤتى بـ{ مَا } الموصولة، دون{ الذي }؛ وذلك لِمَا في{ مَا } من الإبهام والشيوع، ووقوعها على الجنس العام. و{ أن يوصل } يحتمل النصب، والخفض على أنه بدل من{ مَا }، أو من ضميره. والثاني أولى للقرب؛ ولأن قطع ما أمر الله تعالى بوصله أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه.
وثالث هذه الآثار الهدامة الإفساد في الأرض:﴿ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾ . والفساد في الأرض ألوان شتى، تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله تعالى، ونقض عهده سبحانه، وقطع ما أمر به أن يوصل. ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه، الذي اختاره؛ ليحكم حياة البشر ويصرِّفها. هذا مفرق الطريق، الذي ينتهي إلى الفساد حتمًا، فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض، ومنهج الله تعالى بعيد عن تصريفها، وشريعة الله مقصاة عن حياتها. وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو، فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال، وللحياة والمعاش، وللأرض كلها، وما عليها من ناس وأشياء.
وفي تقييد فسادهم بقوله تعالى:﴿ فِي الْأَرْضِ ﴾ إشارة إلى أن المراد: يفسدون فسادًا يتعدى ضرره، ويطير في الآفاق شرره. وهذا يعني: أن فسادهم لا يقتصر عليهم، وإنما هو يتعداهم إلى غيرهم. ثم بين الله تعالى- بعد أن دمغهم بتلك الصفات المرذولة- عاقبة أمرهم، فقال سبحانه:﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾، الذين خسروا كل شيء، نتيجة أعمالهم الفاسدة؛ فكان جزاؤهم النار خالدين فيها أبدًا. و{ أولئك } إشارة إلى الفاسقين، باعتبار ما فُصِّل من صفاتهم القبيحة. وفيه رمزٌ إلى أنهم في أعلى مرتبة من الذم. والخاسرُ الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز. والخسران: النقص كان في ميزان، أو غيره. وحَصْرُ{ الخاسرين } على{ الفاسقين } باعتبار كمالهم في الخسران؛ حيث أهملوا العقل عن النظر، ولم يقتنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرَّة السَّرْمديَّة، واشتروا نقض العهد بالوفاء به، والفساد في الأرض بالصلاح فيها، وقطيعة كل ما أمر الله به أن يوصل بالصلة، والثواب بالعقاب؛ فضاع منهم الطلبتان: رأس المال والربح، وحصل لهم الضرر الجسيم. وهذا هو الخسران العظيم؛ كما قال تعالى:﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ﴾(الكهف: 103- 106)