هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

دخول

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyحقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz


﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾(النساء: 1) .

أولاً- هذه الآية الكريمة جاءت في مطلع سورة النساء ، وهي سورة اشتملت على أنواع كثيرة من التكاليف الشاقة على النفس البشرية ؛ ولهذا افتتحت بالعلة التي يجب لأجلها حمل الإنسان لهذه التكاليف . ومناسبة السورة لما قبلها أنه تعالى ، لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولي الألباب ، ونبَّه على مجازاتهم بقوله تعالى :﴿ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ﴾(آل عمران: 195) ، وأخبر أن بعضهم من بعض في أصل التوالد بقوله تعالى :﴿ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾(آل عمران: 195) ، نبَّه سبحانه في أول هذه السورة التي تلت سورة آل عمران على عظم القدرة بإيجاد الأصل الذي تفرَّع العالم الإنساني منه ، وحثَّ على التواصل والتراحم .

وقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ من الخطاب العام المراد به العموم ، يعم حكمه الناس كلهم ، باعتبارهم هم المكلفون من لدن نزل إلى يوم القيامة ، وهو خطاب تظهر فيه المناسبةُ بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد ، وبراعةُ استهلال مناسبةٌ لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية ، حيث تضمنت الآية المفتتح بها ما في أكثر السورة من أحكام : من نكاح النساء ومحرماته ، والمواريث المتعلقة بالأرحام .

وأعقب هذا الخطاب العام الأمر بتقوى الربوبية ﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ ، وتلاه الأمر بتقوى الألوهية ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ، والفرق بينهما : أن الأول عام في كل مؤمن وكافر ، وليس مقصورًا على أهل مكة . والثاني خاص بكل مؤمن يؤمن بالله تعالى . ولا يمنع من ذلك كون كلاً من الأمرين ورد متوجهًا إلى مخاطب واحد ؛ فالثابت في أصول الفقه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها . ثم إن الأغلب ، إذا كان الخطاب والنداء بـ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ ، وكان للكافرين فقط أو لهم مع غيرهم ، أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية لعدم معرفتهم بالله سبحانه . وإذا كان الخطاب للمؤمنين ، أعقب بذكر النعم لمعرفتهم بالربوبية .

وحقيقة التقوى هي الخشية ، والغرض الأصلي منها : الإيمان ، والتوبة ، والطاعة ، وترك المعصية ، والإخلاص . والفرق بين تقوى الربوبية ، وتقوى الألوهيَّة : أن الأولى : تقوى ( موضوعية غرائزية ) . وأن الثانية : تقوى ( ذاتية واعية ) ؛ ولهذا عللت الأولى بما يدل على المبدأ بخلق الناس من نفس واحدة ، فهي ( علة طبيعية ) . وعللت الثانية باتقاء الله في الأرحام ، فهي ( علة إيمانية ) .

وقدم الأمر بتقوى الربوبية ﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ على الأمر بتقوى الألوهية ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ؛ لأن لفظ ( الربَّ ) يدل على الإحسان والتربية ؛ إذ الربّ هو المالك الذي يَرِبُّ مملوكه ويحسن إليه . أي : يدبِّر أموره وشؤونه . وقولنا : ربٌّ ، يتضمن معنى الملك والتدبير ، ولا يكون إلا مطاعًا . قال موسى عليه السلام :﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾(طه: 84) . أما لفظ ( الله ) فيدل على القهر والهيبة ، وهو اسم علم لله المنعم على عباده بنعمه التي لا تعد ولا تحصى ، وهو المتفضل بها عليهم ، ولا يسمَّى به غير الله عز وجل ، بخلاف لفظ الرب . ولما كان المقام هنا مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة والجلالة والرهبة ، استعمل فيه اسم ( الله ) ، بخلاف مقام الربوبية الذي هو مقام ترغيب ، فبنى التقوى أولاً على الترغيب ، وثانيًا على الترهيب . ولا شك أن الأول يوجب التقوى مطلقًا حذرًا عن العقاب العظيم ، وأن الثاني يدعو إليها وفاءً بالشكر الواجب .

وقيل : جعل سبحانه هذا المطلع ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ مطلعًا لسورتين : إحداهما : هذه السورة ، وهي الرابعة من النصف الأول من المصحف . والثانية : سورة الحج ، وهي الرابعة من نصفه الثاني . وعُلِّل هنا الأمر بتقوى الرب جل وعلا بما يدل على معرفة المبدأ ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾(النساء: 1) ، وعُلِّل هناك بزلزلة الساعة بما يدل على معرفة المعاد ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾(الحج: 1 ) ، فكان ارتباط قوله تعالى :﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ بقوله :﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ من سورة النساء ، وبقوله سبحانه :﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ من سورة الحج ، في غاية الحسن والانتظام ؛ إذ جعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ، ثم قدم السورة الدالة على معرفة المبدأ على السورة الدالة على معرفة المعاد .. فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفية وحكم مطوية ، لا يعرفها إلا الخواصُّ من عباده .

ثانيًا- ويجمع المفسرون وعامة الناس على أن المراد بالنفس الواحدة وزوجها في قوله تعالى :﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ هو ( آدم وحوَّاء ) ، ومنهما بثَّ الله سبحانه ﴿ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ . وقالوا : إنما أُنِّثَ الوصف ﴿ وَاحِدَةٍ ﴾ مع أن الموصوف مذكر ، نظرًا إلى تأنيث لفظ ( نَفْسٍ ) ، وهي قراءة الجمهور ، ونظيرها قوله تعالى :﴿ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾(الكهف: 74) . وقرأ ابن أبي عبلة :﴿ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدٍ ﴾ ، بدون تاء ، على مراعاة المعنى ، أو على أن لفظ ( النفس ) يذكر ويؤنث ، فجاءت قراءته على تذكير النفس .

واحتجَّ المفسرون على أن المراد بالنفس الواحدة وزوجها هنا ( آدم وحواء ) بقوله تعالى في الأعراف :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾(الأعراف: 189) . ولدقة الهندسة القرآنية ، وبراعتها في اختيارها للألفاظ ، ووضع كل لفظ في مكانه المناسب ، لم ينتبه الجميع إلى وضع لفظي ( الرجال والنساء ) في قوله تعالى :﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ بين الأمر باتقاء الربوبية ، والأمر باتقاء الألوهية ، ولم يدركوا ارتباط ذلك بالأرحام ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ﴾ ؛ ولذلك لا نجد أحدًا منهم فسَّر لنا : كيف بثَّ الرب جل وعلا من آدم وحواء ﴿ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ ؟

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ، والذي لم يخطر على بال أحد : كيف يَبُثُّ الرب جل وعلا من النفس الواحدة وزوجها رجالاً كثيرًا ونساء ، إن كان المراد بهما هنا : آدم وحواء ؟ أين هم الأطفال الذين عبَّر الله تعالى عنهم بـ( البنين والحفدة ) في قوله سبحانه :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾(النحل: 72) ؟ فلفظ البنين والحفدة يحتمل كل واحد منهما تَصَوُّر الأطفال من الذكور والإناث ، فكان لفظهما هو المناسب للمقام ، بخلاف قوله سبحانه :﴿ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ ؛ إذ لا يحتمل اللفظ هنا إلا تَصَوُّر رجال ونساء بالغين ، ولا احتمال لتَصَوُّر معنى آخر . فكيف لنا أن نَتَصَوَّر رجالاً ونساء بالغين ، ينبثُّون حين الولادة مباشرة من رجل وامرأة ؟

لو كان التعبير في الآية هكذا :( وَبَثَّ مِنْهُمَا ذكورًا كثيرًا وإناثًا ) بدلاً من قوله تعالى :﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ ، لكان لهم العذر فيما ذهبوا إليه ؛ لأن لفظي ( الذكور والإناث ) يشمل الكبار والصغار ، بخلاف لفظي ( الرجال والنساء ) . ولا يعترض على ذلك بأن يقال : قال الله تعالى :﴿ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ ، وأراد :( ذكورًا كثيرًا وإناثًا )- كما يقولون- عند تأويل كل أمر يستعصي عليهم فهمه ، ويشكل عليهم تأويله ؛ فالقرآن دقيق في اختيار ألفاظه ، لا يستعمل لفظًا مكان لفظ ، والله تعالى لا يقول شيئًا ويريد شيئًا آخر ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا .

وهذا الفهم للآية قد قاد أكثرهم إلى تَصَوُّر الفهم الكهنوتي التوراتي أن حوَّاء خلقت من أحد أضلاع آدم ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ ، ونسبوا ذلك إلى كبار الصحابة رضي الله عنهم ، وهم براء من ذلك . قال أبو حيَّان في البحر المحيط عند تفسير الآية :« وظاهر ﴿ مِنْهَا ﴾ ابتداء خلق حوَّاء من نفس آدم ، وأنه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه ، وبه قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدّي ، وقتادة ، قالوا : إن الله تعالى خلق آدم وحشًا في الجنة وحده ، ثم نام ، فانتزع الله تعالى أحد أضلاعه القصرى من شماله . وقيل : من يمينه ، فخلق منها حواء . قال ابن عطية : ويعضد هذا القول الحديثُ الصحيحُ في قوله عليه الصلاة والسلام :« إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وكسرها طلاقها » ؛ ولهذا يقول العلماء : كانت المرأة عوجاء ؛ لأنها خلقت من ضلع عوجاء . وقال بعضهم : نبَّه سبحانه بقوله :﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ على نقصها وكمالها ، لكونها بعضه .

ثم فهموا على ضوء ذلك أن من آدم وحوَّاء التي خلقت من ضلعه الأعوج بثَّ الله سبحانه :﴿ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ كثيرًا . وهذا قادهم مرة ثانية إلى الخطأ الثاني ، وهو أن أبناء آدم الذكور تزوجوا من أخواتهم الإناث فانبثقت البشرية ، وكان الأمر– حسب منظورهم- مقبولاً في البداية اضطرارًا ؛ ليبقى النسل البشري مستمرًا دون انقطاع ، ثم حرَّمته الشريعة ، متأثرين في ذلك ببعض الآثار المدسوسة التي تقول :« إن حوَّاء ولدت عشرين بطنًا ، أو أربعين بطنًا ، وكانت تلد في كل بطن ذكرًا وأنثى ، وكان آدم يزوِّج ذكر كل بطن بأنثى من بطن آخر » .

وهكذا ، خطأ واحد استتبع عدة أخطاء على مستوى العقيدة والتشريع ، ناهيك عن الأخطاء على مستوى العلم والحقيقة التاريخية . ولولا زعمهم المأخوذ عن التصور الكهنوتي التوراتي من أن آدم هو أول كائن بشري جبل كالتمثال الأجوف من التراب ، ثم سوِّيَ ونُفِخ فيه الروح ، لما وقعوا في تلك الأخطاء القاتلة ؛ وإلا فكيف لنا أن نفهم أن النفس الواحدة وزوجها في آية النساء هي النفس الواحدة وزوجها في آية الأعراف ، وزوج الأولى مخلوق ، وزوج الثانية مجعول ؟ فالأولى :

﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾(النساء: 1) ، والثانية :

﴿ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾(الأعراف: 189) ، والمخلوق غير المجعول .

وإذا كانوا قد فهموا أن المراد بالنفس الواحدة وزوجها في آية الأعراف : آدم وحوَّاء ، فهو صحيح ؛ ولكن على مستوى الوجود الإنساني ، لا البشري ، وهو صحيح أيضًا على معنى :﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾- كما قال تعالى- لا على معنى :﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾- كما توهموا وأوهموا- وذلك لما بين الخلْق ، والجعْل من فرق في المعنى ، وبيانه :

أن الخَلْقَ- في اللغة- هو الإيجاد المبدأي ، وهو فعل الشيء بتقدير ورفق ، وترتيب وإحكام . وبعبارة أخرى هو الإيجاد الفعلي وفق خصائص معينة تتطابق مع إرادة قاضية قاصدة ؛ ولهذا فهو يباشر مفعوله دفعة واحدة . وأصلُه : التقديرُ المستقيمُ . والتقديرُ هو تحديد كل مخلوق بحدِّه الذي يوجد به ، ولا يُسَمَّى خَلْقًا إلا بعد التنفيذ ، فلا يقال : خلقتُ كذا ، إلا إذا كنت قد أوجدته فعلاً بعد تقديره .

أما الجَعْلُ- في اللغة- فهو التغيُّر في الصَّيْرورَة ، ويعني إضفاء هيئة ، أو حالة ، أو صيرورة معينة على شيء قد تمَّ خلقه فعلاً ، وتصييره شيئًا آخر ؛ ولهذا فهو يباشر مفعوله حالاً بعد حال ، فيتعدد فيه المفعول ، وتتدرج فيه الأطوار ؛ كما في قول الله عز وجل :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾(النحل: 72) . فالأزواج في هذه الآية مجعولة من الأنفس ، والبنون والحفدة مجعولان من الأزواج ، والمجعول منه مخلوق ، وهو سابق للمجعول . وهذا يعني أن الخلق والجعل عمليتان متلازمتان ، لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى ، فليس هناك شيء بدون خلق ، ولا جعل بدون خلق .

ومن هنا نرى أن عملية الجعل هي مرحلة اعتبارية تابعة لمرحلة الخلق ؛ ولهذا إذا اجتمع الفعلان :( خلق ) و( جعل ) في آية واحدة ، فإنه لا بدَّ أن يَعْقُبَ الثاني الأوَّلَ ؛ كما في قوله تعالى :

﴿ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً ﴾(النحل: 81) .

﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ﴾(الفرقان: 54) .

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾(الروم: 54) .

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾(الحجرات: 13) .

﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾(الروم: 21) .

تأمل ، كيف اختلف التعبير في هذه الآيات باختلاف معنى الفعلين ( خلق ) و( جعل ) ، فدل كل واحد منهما على مرحلة غير المرحلة التي دل عليها الآخر ، وأن مرحلة الخلق هي البداية ، وأن مرحلة الجعل تابعة لها ومترتبة عليها . وهذا واضح حسًّا من هذه الآيات وغيرها ، فما من عملية خلق إلا وأتت بعدها عملية جعل ، ولا تتحقق الثانية إلا بوجود الأولى . أما قولهم : إن كان الفعل ( جعل ) متعدِّيًا لمفعول واحد كان بمعنى ( خلق ) ، وإن كان متعدِّيًا لمفعولين كان بمعنى ( صيَّر ) أو ( حوَّل ) فهو قول مبنيٌّ على فهم غير صحيح لمعنى التعدية .. ( انظر معنى التعدية في مقال : من أسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم ) .

فإذا عرفت هذا ، تبيَّن لك أن الخلق في آية الأعراف غير الجعل فيها ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾(الأعراف: 189) . وكونُ الجَعْل غير الخَلْق دليلٌ على أن حوَّاء لم تخلق من آدم ، أو من أحد أضلاعه ؛ لأنها كانت مخلوقًا حيًّا ؛ ولكنها لم تكن زوجَا ، فصيِّرت زوجًا . ولو لم يكن كذلك ، لكان ينبغي أن يكون نظم الكلام- حسب تأويلهم- هكذا :﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ بدلاً من قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ ؛ وكأنهم بتأويلهم هذا يصححون كلام الباري سبحانه وتعالى . ولو أنهم تأملوا الآية أدنى تأمُّل ، لرأوا أنها لا تتحدث عن خلق حوَّاء ؛ وإنما تتحدَّث عن جعل حوَّاء زوجًا لآدم .

ثالثًا- نخلص مما تقدم إلى أن المراد بـ( النفس الواحدة وزجها ) في آية الأعراف :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾(الأعراف: 189) هو : آدم ، أول نفس إنسانية وجدت على الأرض ، وحواء زوجه التي جعلت منه ، لا خلقت منه . أي : جعلت من جنس نفسه ؛ ﴿ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ ؛ لأن الجنس إلى الجنس أميَل ، وبه آنس . وإذا كان منها على حقيقته ، فالسكون والمحبة أبلغ ؛ كما يسكن الإنسان إلى ولده ، ويحبه محبة نفسه أو أكثر ؛ لكونه بعضًا منه ؛ كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاريٌّ :« فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي » . ونظير الآية قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾(النحل: 72) . أي : من جنسها . وأما خلق حوَّاء فمفهوم من جعلها زوجًا لآدم ؛ لأن الجعل- على ما تقدم- لا يكون إلا لشيء مخلوق .

وأما ( النفس الواحدة ) في آية النساء التي نحن بصدد الحديث عنها :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾(النساء:1) فالمراد بها : النفس البشرية ، وقد تكرر ذكرها في الأنعام في قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾(الأنعام: 98) ، وفي الزُّمَر في قوله سبحانه :﴿ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾(الزمر: 6) ، هذه ( النفس الواحدة ) هي النفس البشرية ، وهي ( الخلية الحيَّة الأولى ) التي تحمل الصبغتين : الذكرية والأنثوية ، فهي عديمة الجنس . أي :( خنثى ) ، وهذه ﴿ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجُهَا ﴾ ، لا ﴿ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ ؛ وذلك بانقسامها إلى خلايا ذكرية مخصَّبة ، وأنثوية مخصَّبة . ثم نمت هذه الخلايا في رحم الأرض الطينية وفي المستنقعات ؛ كما تنمو الخلية الملقحة تمامًا في الرحم ، وانبثقت عن رجال ونساء بالغين ﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ ، حيث نظام الربوبية ﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ الذي هو رب لكل الكائنات . ثم بعد أحقاب من تواجد أجيال مديدة من أولئك البشر جاء طور التزاوج بين الرجال والنساء ، والاستيلاد من الأرحام بدلاً من الرحم الأول ، وهو الأرض الطينية .

وإلى هذا الطور الثاني أشار الله تعالى بقوله :﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾(الزمر: 6) ؛ وذلك عقِب قوله تعالى :﴿ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾(الزمر: 6) . فقوله :﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ يشير إلى هذا الطور الثاني الذي انتقل فيه الخلُق البشريُّ إلى مرحلة الأرحام . ففي هذه الآية لم يفصِّل سبحانه قضية الخلق الأول كما فصَّلها في آية النساء ؛ ولذلك لم يذكر خلق الزوج من النفس الواحدة ، كما ذكره في آية النساء ، وانتقل مباشرة إلى الحديث عن الطور الثاني الذي تم فيه التزاوج بين الرجال والنساء . وهذا ما يفيده الفعل ( جعل ) الذي يدل على التغيُّر في الصيرورة ، وتفيده ( ثمَّ ) قبله التي تدل على الترتيب والمهلة .

هذا الطور الثاني هو الذي خرج منه الإنسان الأول بعد أحقاب وعاصره . وبعد أن أعطِيَ الروح الربَّانيَّة ، وَعَى معنى الألوهيَّة التي خُوطِب بها في الشق الثاني من الآية :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ... اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ، فجُعِل ( الله ) هنا رقيبًا ، لدخول التصرف الإنساني الحر ، ولحصول الوعي عنده بـ( الألوهية ) ؛ كما يشير إلى ذلك قوله سبحانه :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾(النساء: 1) ، ولم يكن ( الله ) هو الرقيب في المرحلة الأولى ؛ ولهذا خوطب الإنسان بمعنى الربوبية التي تدعو الناس جميعًا بمن فيهم آدم وحوَّاء إلى التذكر بأنهم متفرعون من أصل واحد ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾ الذي هو رب لكل كائن حي .

ومن المدهش أن القرآن قد كرَّر أن النشأة الأولى هي تمامًا كالنشأة الآخرة ﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾(الأعراف: 29) ، فكما بدأ تخلُّق البشر في حواضن الطين ، ونموا فيها حتى فقَّسَت بعد أطوار طويلة الآماد عن أفراد ناضجين جنسيًّا ، فكذلك يجب أن يدفنوا بعد موتهم ؛ ليعاد تصنيعهم من جديد بالكيفية نفسها التي تمَّ تصنيعهم فيها أول مرة ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾(طه: 55) ، فمن الأرض خرجوا ، وفيها يعادون ، ومنها يخرجون تارة أخرى ، حيث تفقس القبور الطينية عن أفراد ناضجين بالغين يوم البعث ﴿ وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ﴾(نوح17) .

هذه النهاية المشابهة للبداية والمحاكية لها ، هي مغزى آخر ووجه آخر لقوله سبحانه :﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾(الأنبياء: 104) ، لمكان كاف تشبيه الكيفية الموصولة بما هكذا :﴿ كَمَا ﴾ . فهذه المشابهة والمحاكاة بين البداية ، والنهاية لا تعطي في اللغة والقرآن إلا الكيفية نفسها .. وهذه هي الصورة نفسها التي أخبر سبحانه عنها بقوله :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ﴾(الروم: 20) ، حيث جاء الخروج والانتشار مباشرة لكائنات بشرية بالغة خرجت مخلوقة للتو من التراب ، وهي الصورة نفسها ، والخروج والانتشار نفسه الذي سيعاد في البعث يوم الإعادة ﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴾(القمر: 7) .

ففي البداية خروج وانتشار ، وفي النهاية خروج وانتشار ؛ ولأن البداية هي نفسها النهاية قدم سبحانه قوله :﴿ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾(الروم: 11) ، ثم عقب عليه بقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾(الروم: 27) ، ووسَّط بينهما قوله تعالى :﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ﴾(الروم: 19- 20) بدقة حسابية منقطعة النظير .

بقي أن نشير إلى أن البشر القائم قبل وجود الإنسان الأول ( آدم ) كان يتبع ( النظام الأموميّ ) . أي : نظام الطبيعة ، وحسب الفكر السومري والبابلي كان يدعى بـ( النظام الأمومي العشوائي والإخصاب لبقاء النوع ) ، وهو ( أموميٌّ ) لأنه لا وجود فيه إلا لأم ترعى حياة الأولاد . أما الرجل فما هو إلا فحل للإخصاب فقط ؛ كممالك الحيوان تمامًا . وبخلق الإنسان الواعي انتقل النظام الأمويّ إلى ( نظام الأبويَّة ) ، وحسب المدونات القديمة كان يدعى بـ( نظام إيل ) ، ويعني : نظام الأسرة التي فيها آباء وأمهات يرعون أبناء تُسَمَّى الذرية الإنسانية ، يبسط لها في الجسم والعلم ؛ لتكون ذرية ربانية تستعمر الأرض بالخير ، تعرف ربَّها وخالقها والغاية من تخليقها الإنساني ، لا نسلاً حيوانيًّا غرائزيَّا ماديًّا ، بلا روح ربَّانيَّة فيه . فلو أراد الله سبحانه ذلك ، لأبقى ( الشريعة الأموميَّة ) فقط ، ولم يرفع البشر من حضيضهم إلى الإنسانيَّة بالعقل والروح ، والتخليق الجينيِّ المُمَيَّز . فخلقنا سبحانه بهذه المواصفات من ( نفس واحدة- آدم ) مخلَّقة بهذه الفُرَادَى ؛ لتنهض بدورها ( الذكر الآدميّ آدم ) ، وجعل من النسخة نفسها تمامًا زوجها ( الأنثى الآدمية حواء ) ، فصارت النفس الإنسانية ( ذكرًا وأنثى ) ؛ لتنبثق الإنسانيَّة ، وتنسل منهما ، ويكون هناك دائمًا أب وأم . أي : إنسانان معًا ؛ ليقوما شراكة بتعَهُّد المشروع الإنسانيِّ الإلهيِّ المتولِّد . جُعِلا من الشفرة نفسها ، والمكوّن ذاته ؛ ليسكن الزوج إلى زوجه فكريًا ونفسيًّا وروحيًّا ، فيقع الانسجام ؛ لتأتي الذريَّة صالحة في هذا الجو الطيب المُنبِت المتناغم السَّويّ . وهذا ما نصَّت عليه آية الأعراف في شقها الثاني :﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾(الأعراف: 189) .

ولعّلنا ندرك الآن سرَّ وضع هذه الآية الكريمة :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ على رأس سورة النساء ، حيث كانت المرحلة الأولى الغرائزية في حفظ النوع البشري مرحلة متأخرة وأمومية بحتة ، لا دور للرجل فيها إلا كفحل إخصاب ، وفي المرحلة الثانية التي بدأت بـ( آدم وحواء ) حين أُنيط بالرجل الآدمي دور الالتزام بالأسرة ، جاءت الوصية باتِّقاء الله في الأرحام ، وصيانة المرأة ، وحفظ النسل والأسرة . وهذا ما أفضى بالمجتمع ؛ ليكون مجتمعًا ذُكورِيًّا ، سواء بشكلٍ صحيح ، أو باستبداد .

رابعًا- والخلاصة التي ننتهي إليها أن الآيات القرآنية التي استعرضنا بعضًا منها تصرح بدقتها أن الأصل الذي خلق منه الإنسان هو الطين ﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ﴾(السجدة: 7) .. الطين الذي هو مزيج من الماء والتراب وعناصره ، والذي تحول مع مرور الزمن إلى حمأ مسنون ، ويقرر العلم الحديث أن الحياة ظهرت على الأرض أول ما ظهرت على ضفاف المسطحات المائية ، حيث يتكون بجوارها طمي الطين الذي ينشأ منه الزبد والحمأ المسنون على مر السنين ، فنبتت في ذلك الظرف وتلك البيئة أول الكائنات المجهرية البسيطة ، ثم تعقد الخلق فجاءت الطحالب ، فالنبات ، فالحيوان ، فالبشر ، وأن هذا التطور في حالات الطين وأشكاله السالفة الذكر والظروف قد حدثت عبْر مئات الملايين من السنين حتى أثمرت شجرتها الأولى ، وكان أعقد وأكمل وآخر ثمرة من ثمارها وختامها هو البشر الذي منه بعد مدة صنع الإنسان بروحه المتطور إلى وعْيِ الألوهية .

ويؤكد العلماء أن الكائنات الحية كلها ( بما فيها الإنسان كجنس بشري ) بدأت من ( خليَّة حيَّة أولى . أي : نطفة ) قابلة للإخصاب والتكاثر ، كيفما كانت الطريقة الحاضنة خارج الرحم ، أو داخله . والإشكال الواقع اليوم في تساؤلات رجال علم ( البيولوجيا ) هو في ماهية القفزة النوعية من بشر همج إلى إنسان واع عاقل ، ولا شك أن الداروينية تجاوزها العلم باكتشافه للجينات المميزة للكائنات الحية . وأغرب نتائج البيولوجيا الجزيئية الحديثة أن الكائنات الحيَّة لم تنشأ وفق ترتيب عمودي ؛ وإنما نشأت منذ البداية من خلايا مختلفة تحمل رموزها الجينية من أوّل لحظة ، وما قرَّره ( فرنسوا جاكوب ) عالم البيولوجيا الجزيئية الفرنسي هو انتماء هذه الخلايا إلى خلية أمٍّ فرضيَّة .

فعندما نتأمل عائلة الثدييات ( الإنسان والشمبونزي والفرس والكلب وسمك العنبر والأرنب ... )- كما يقول عالم البيولوجيا الجزيئية ( دانتون ) في كتابه ( نظرية التطور في مأزق )- نجد أن الفروق الجينية بين كل فردين من هذه العائلة متساوية ، وعددها ( 65 ) خمسة وستون فرقًا تقريبًا ، والنتيجة هي : استحالة اعتبار فرد من هذه الأفراد منبثقا من آخر ؛ بل هذا الفرق الثابت بين الأفراد يجعلنا نثبت أن هذه العائلة تنزل من فرد واحد فرضِيّ . وكذلك الأمر في عائلات ( الطيور والحشرات وغيرهما ) ، ممّا يثبت أن كل عائلة تنحدر من خليَّة أمٍّ ، وأنّ مجموع الخلايا الأمّ تنحدر من أمٍّ أولية .

وهذا ما أثبته القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ، ففي قول الحق تبارك وتعالى :﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(الذاريات: 49) يؤكِّد سبحانه أنه خلق من كل شيء زوجين ، لا أنه خلق الأزواج كلها من شيء واحد ( سوى من الماء وهو ظرف التكوين الأول ) ، وهذا يعني أن كل جنس خرج كجنسه ، متميِّزًا بشفرته الجينيَّة ، فكل أصل وفرع وشجرة خرجت من بذرة مختلفة بتركيبة جينية ، وتكوين متميِّز عن البذرة الأخرى ، فأخرجت فصائل من المخلوقات لا تخرج منها إلى غيرها . فالبعوضة لن تتحول إلى فيل ، والقرد لن يتطور إلى إنسان .. وهكذا . فـ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾(يس: 36) .

وفي قول الحق سبحانه :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾(النساء:1) ، ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾(الأعراف: 189) يؤكِّد سبحانه أنه خلق الناس من نفس واحد ة : الأولى هي النفس البشريَّة الأولى ، وهي ( الخليَّة الحيَّة الأولى ) . والثانية : هي النفس الإنسانيَّة الأولى ، وهي ( آدم ) .

وفي قول الحق سبحانه :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾(الإنسان: 2) ، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾(الحج: 5) تأكيد على أن الإنسان خلق من نطفة : الأولى : هي النطفة الأمشاج التي خلق منها ( آدم ) . والثانية هي النطفة الذكرية التي خلقنا نحن منها .

والنطفة هي ( خلية حيَّة أولى ) ، تنقسم إلى خلايا ذكرية ، وأنثويَّة . وهذه الخلايا هي الأولى المعبَّر عنها علميًّا بـ( الخلايا الجذعية ) كاملة القدرة ، أو القوة ، أو هي النسخة الأولى من الـ( دي ، إن ، إيه ) الذي يحتوي على كروموسومات الكائن الوراثية ، حية وسليمة ، وهذه الكروموسومات هي التي تمثل كتاب الحياة ، والمكتبة الرقمية التي تحتوي على كل أسرار وخصائص هذا الكائن ، ومنها سيعاد تصنيعه يوم البعث .

ومن المؤسف والمؤلم بعد هذا كله أن نرى الكثيرين لا يهمهم إلا القدسيَّات الزائفة لغير كتاب الله سبحانه ، ويلقون وراء ظهورهم كل هذا الكم المتواتر والهائل من الحقائق العلمية ، ومن آيات الحق التي ترسم كل واحدة منها منفردة ، ثم مع بعضها خارطة الخلق البشري بدقة متناهية ، ووضوح لا يرتاب فيه إلا من حجب الله عن بصيرته النور .. نسأله سبحانه أن ينوِّر بصائرنا ، ونعوذ بنور وجهه الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علينا غضبه ، أو ينزل بنا سخطه ، لا إله إلا هو ﴿ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ .. والحمد لله رب العالمين !

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
حقيقة النفس الواحدة وزوجها 783937

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
جزاكم الله خيرا شكرا على المرور الحلو
*****
******
*******
النجم الثاقب يرحب بكم
http://altarekk.ahladalil.com :cheers: ::ss554dd::

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
شكــرا لكـ يا أخــى الغالــى ؛؛ باركـ الله فيكـ gg444g


::ss554dd::

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
باركـ الله فيكـ

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
بارك الله لنا ولكم يا أخي في القرآن العظيم

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
شكرا وبارك الله فيك
مجهود رائع

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
شكرا لك أخي على المرور بارك الله لي ولك

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
باركـ الله فيكـ

::ss554dd::

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
جزاك الله كل الخير...

وان شاء الله الى الامام....

دمت بكل ود ..

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
نورتم الموضوع بطيب مروركم وأحلى ردكم

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
جزاك الله خيرا وجعله في ميزان حسناتك شكرا لك على الموضوع المميز
تقبل تحياتي islamic designer
حقيقة النفس الواحدة وزوجها 886773 حقيقة النفس الواحدة وزوجها 886773 حقيقة النفس الواحدة وزوجها 886773 حقيقة النفس الواحدة وزوجها 886773 حقيقة النفس الواحدة وزوجها 886773 حقيقة النفس الواحدة وزوجها 886773 حقيقة النفس الواحدة وزوجها 886773

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتُهُ

بِسْمِ الْلَّهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيْمِ وَبِهِ نَسْتَعِيْنُ عَلَىَ الْشَّيْطَانِ الْرَّجِيْمِ

أَمَّا بَعْدُ ,, أشكرك على الموضوع الرائع والمميز سلمت اناملك

وننتظر باقي إبداعاتك

اعذب التحايا لك

لما خطته لنا من تميز و ابداع

تقبل مروري العطر


وَالْسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتُهُ

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
...نفعنا الله بما علمنا وزادنا علما جزاكم الله خيرا على المرور ا

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
جزاكـ الله خيرآآ اخى الغالى ،،، تحياتى حقيقة النفس الواحدة وزوجها 886773

descriptionحقيقة النفس الواحدة وزوجها Emptyرد: حقيقة النفس الواحدة وزوجها

more_horiz
شكــرا لكـ يا أخــى الغالــى ؛؛ باركـ الله فيكـ حقيقة النفس الواحدة وزوجها 886773



privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى

جميع الحقوق محفوظة لدليل الاشهار العربي