بذل المحدثون جهوداً مضنية في مقاومة الوضع والافتراء على حديث رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من ثمار هذه الجهود نشوء مصطلح الحديث
وعلومه التي وضعت القواعد والأصول لتصحيح الأخبار ونقدها نقداً علمياً ،
حتى عُدّت هذه القواعد من أصح قواعد البحث العلمي المتعلق بتوثيق الأخبار
والنصوص ، وهي ميزة لا توجد في تراث أي أمة من أمم الأرض كلها ، بل حتى ولا
في كتبهم المقدسة .
إن منهج النقد عند المحدثين يعد بحق مفخرة من
مفاخر هذه الأمة من جهة السبق أولا ، ومن جهة الشمولية والموضوعية ودقة
النتائج ثانياً ، وهذا ما شهد به أهل الإنصاف من غير المسلمين حتى قال "
مرجليوث " : " ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم " ، وقد ألف أحد علماء
التاريخ في العصر الحاضر كتاباً في أصول الرواية التاريخية وهو كتاب مصطلح
التاريخ لمؤلفه النصراني " أسد رستم " ، اعتمد فيه على قواعد علم الحديث ،
واعترف بأنها طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات ، وقال بعد أن
ذكر وجوب التحقق من عدالة الراوي ، والأمانة في خبره : " ومما يذكر مع فريد
الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا الباب
، وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحرفه وحذافيره تنويهاً بتدقيقهم
العلمي ، اعترافاً بفضلهم على التاريخ " ثم أخذ ينقل نصوصاً عن بعض أئمة
هذا الشأن .
ومع ذلك وُجِد من المستشرقين - ممن لم يمعن النظر في
منهج النقد عند المحدثين ، ولم يقدر لهم جهودهم وأعمالهم - ، من حاول إظهار
هذا المنهج بصورة مشوهة مغلوطة، تقلب حقيقته ، وتغير واقعه ، وتدعو إلى
إعادة النظر فيه ، على اعتبار أنه الأساس الذي بني عليه تصحيح الأخبار
وردها ، وكان ممن حمل راية هذه الدعوة أحد كبرائهم وهو المستشرق المجري
اليهودي " جولد زيهر " ثم تلقف بعض الدارسين - مع الأسف - نتائجه التي توصل
إليها في هذا الصدد على أنها حقائق ومسلمات .
قال " جولد زيهر " : "
ولم يستطع المسلمون أنفسهم أن يخفوا هذا الخطر - أي خطر الوضع في الحديث -
، ومن أجل هذا وضع العلماء علماً خاصاً له قيمته وهو علم نقد الحديث ، لكي
يفرقوا بين الصحيح وغير الصحيح من الأحاديث ، إذا أعوزهم التوفيق بين
الأقوال المتناقضة .
ومن السهل أن يفهم أن وجهات نظرهم في النقد
ليست كوجهات النظر عندنا ، تلك التي نجد لها مجالاً كبيراً في النظر في تلك
الأحاديث التي اعتبرها النقد الإسلامي صحيحة غير مشكوك فيها ، ووقف حيالها
لا يحرك ساكناً .
ولقد كان من نتائج هذه الأعمال النقدية الاعتراف
بالكتب الستة أصولاً ، وكان ذلك في القرن السابع الهجري ، فقد جمع فيها
علماء من رجال القرن الثالث الهجري أنواعاً من الأحاديث كانت مبعثرة رأوها
أحاديث صحيحة .
وقد أصبحت هذه الكتب مراجع مجزوماً بها لسنة النبي ، ويعتبر في المقام الأول منها الصحيحان " أهـ .
لقد
قرر " جولد زيهر " هذا الكلام المتهافت مع أن كل دارس منصف يعلم أن منهج
المحدثين النقدي قد شمل كل أوجه الاحتمالات في جوانب الحديث المختلفة ،
سنداً ومتناً ، فالأساس الأول هو أداء الراوي للحديث كما سمعه ، وهذا يقتضي
أولاً دراسة الراوي ، وقد حقق المحدثون ذلك بدراسات مستفيضة متنوعة ،
وضعوا فيها شروط الراوي الثقة وهي العدالة والضبط ، ثم وضعوا العلوم التي
تكشف أمور الرواة وأحوالهم ، فبحثوا في أسمائهم ، وتواريخهم ، وأماكنهم ،
وشيوخهم وتلامذتهم ، وما يتصل بذلك من فروع ومسائل في ثلاثين نوعاً من
أنواع علوم الحديث .
ثم إن للحديث جوانب أخرى غير شخص الراوي ، قد
تدل على الضعف أو السلامة في النقل ، وهي إما أن تكون من أخذ الراوي أو
أدائه للحديث ، أو في سلسلة السند ، أو في عين المتن ، أو تكون أمراً
مشتركاً بين السند والمتن ، وقد استوفى المحدثون بحث ذلك كله ، وتتبعوا كل
احتمال للقوة والضعف ، فدرسوا صيغ الاتصال بين الرواة في حال الأخذ والأداء
، وما دل منها على الاتصال وما لم يدل ، وجعلوا لكل حالة تسمية وحكماً
خاصاً ، وتناولوا متون الأحاديث بالفحص والتدقيق وتتبعوا ما بها من علل
وشذوذ وغير ذلك بقواعد رصينة محكمة .
ولم يكتفوا بمجرد اختبار السند
والمتن بل قاموا بموازنة ضخمة بين الأحاديث سنداً ومتناً، استخرجوا بها
أنواعاً كثيرة من علوم الحديث ، ولم يكتفوا في هذه المقارنة بعرض الحديث
على أشباهه من الروايات الأخرى ، بل عرضوه أيضاً على كل الدلائل العقلية
والشرعية ، مما نتج عنه نشوء أنواع كالمعلل ، والموضوع ، والمدرج ،
والمقلوب ، والمنكر ، والمضطرب ، والمصحف ، وغيرها من الأنواع الناشئة
نتيجة مقارنة المرويات وسبرها .
ولعل هذه الحادثة التي رواها
العقيلي في كتاب الضعفاء تبين مدى ما كان يتمتع به الناقدون من المحدثين من
فطنة وبراعة في النقد ، فقد ذكر أن أبا داود
الإمام الجهبذ جعل أحاديث " يعقوب بن كاسب " على ظهور كتبه ، ولم يضمنها
تلك الأحاديث ، فلما سئل عن ذلك قال : رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها
فطالبناه بالأصول فدافعها - أي حال دون دفعها إليهم - ثم أخرجها بعد فوجدنا
الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري ، كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها " .
ولذا
جاءت أحكامهم في القبول والرد متدرجة متلائمة شاملة لجميع الحالات
والاحتمالات ، بدءاً من قمة الصحة فيما سموه بأصح الأسانيد وما يحفه من
قرائن أخرى ، ثم باقي مراتب الصحيح ، فالحسن لذاته ، فالحسن لغيره ، إلى
الضعف اليسير الذي قد يُعمل به بشروط تقوي احتمال سلامته ، ثم الضعف الشديد
، وهو الناشئ عن فحش الغلط أو الغفلة ، أو كون الراوي متهماً بمفسق ، ثم
ما هو شر من ذلك كله وهو الكذب المختلق ، الذي لا تجوز روايته إلا على سبيل
التحذير منه والتنبيه على كذبه ، فكانت هذه الأحكام سُلَّماً دقيقاً
للقبول والرد ، أخذت كل درجة منه شروطها وحكمها الملائم تماماً بكل وضوح
ودقة .
كل ذلك يثبت أن منهجهم في النقد كان شاملاً لجميع جوانب
الحديث ، ولكل الاحتمالات والدلائل التي تشير إلى معرفة قوته من ضعفة ، مما
يجعل كل مطلع منصف يقطع بسلامة أحكامهم على الأحاديث ، وأن منهجهم في
النقد كان هو السبيل الوحيد المتكامل للوصول إلى تمييز المقبول من المردود
من المرويات .
الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من ثمار هذه الجهود نشوء مصطلح الحديث
وعلومه التي وضعت القواعد والأصول لتصحيح الأخبار ونقدها نقداً علمياً ،
حتى عُدّت هذه القواعد من أصح قواعد البحث العلمي المتعلق بتوثيق الأخبار
والنصوص ، وهي ميزة لا توجد في تراث أي أمة من أمم الأرض كلها ، بل حتى ولا
في كتبهم المقدسة .
إن منهج النقد عند المحدثين يعد بحق مفخرة من
مفاخر هذه الأمة من جهة السبق أولا ، ومن جهة الشمولية والموضوعية ودقة
النتائج ثانياً ، وهذا ما شهد به أهل الإنصاف من غير المسلمين حتى قال "
مرجليوث " : " ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم " ، وقد ألف أحد علماء
التاريخ في العصر الحاضر كتاباً في أصول الرواية التاريخية وهو كتاب مصطلح
التاريخ لمؤلفه النصراني " أسد رستم " ، اعتمد فيه على قواعد علم الحديث ،
واعترف بأنها طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات ، وقال بعد أن
ذكر وجوب التحقق من عدالة الراوي ، والأمانة في خبره : " ومما يذكر مع فريد
الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا الباب
، وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحرفه وحذافيره تنويهاً بتدقيقهم
العلمي ، اعترافاً بفضلهم على التاريخ " ثم أخذ ينقل نصوصاً عن بعض أئمة
هذا الشأن .
ومع ذلك وُجِد من المستشرقين - ممن لم يمعن النظر في
منهج النقد عند المحدثين ، ولم يقدر لهم جهودهم وأعمالهم - ، من حاول إظهار
هذا المنهج بصورة مشوهة مغلوطة، تقلب حقيقته ، وتغير واقعه ، وتدعو إلى
إعادة النظر فيه ، على اعتبار أنه الأساس الذي بني عليه تصحيح الأخبار
وردها ، وكان ممن حمل راية هذه الدعوة أحد كبرائهم وهو المستشرق المجري
اليهودي " جولد زيهر " ثم تلقف بعض الدارسين - مع الأسف - نتائجه التي توصل
إليها في هذا الصدد على أنها حقائق ومسلمات .
قال " جولد زيهر " : "
ولم يستطع المسلمون أنفسهم أن يخفوا هذا الخطر - أي خطر الوضع في الحديث -
، ومن أجل هذا وضع العلماء علماً خاصاً له قيمته وهو علم نقد الحديث ، لكي
يفرقوا بين الصحيح وغير الصحيح من الأحاديث ، إذا أعوزهم التوفيق بين
الأقوال المتناقضة .
ومن السهل أن يفهم أن وجهات نظرهم في النقد
ليست كوجهات النظر عندنا ، تلك التي نجد لها مجالاً كبيراً في النظر في تلك
الأحاديث التي اعتبرها النقد الإسلامي صحيحة غير مشكوك فيها ، ووقف حيالها
لا يحرك ساكناً .
ولقد كان من نتائج هذه الأعمال النقدية الاعتراف
بالكتب الستة أصولاً ، وكان ذلك في القرن السابع الهجري ، فقد جمع فيها
علماء من رجال القرن الثالث الهجري أنواعاً من الأحاديث كانت مبعثرة رأوها
أحاديث صحيحة .
وقد أصبحت هذه الكتب مراجع مجزوماً بها لسنة النبي ، ويعتبر في المقام الأول منها الصحيحان " أهـ .
لقد
قرر " جولد زيهر " هذا الكلام المتهافت مع أن كل دارس منصف يعلم أن منهج
المحدثين النقدي قد شمل كل أوجه الاحتمالات في جوانب الحديث المختلفة ،
سنداً ومتناً ، فالأساس الأول هو أداء الراوي للحديث كما سمعه ، وهذا يقتضي
أولاً دراسة الراوي ، وقد حقق المحدثون ذلك بدراسات مستفيضة متنوعة ،
وضعوا فيها شروط الراوي الثقة وهي العدالة والضبط ، ثم وضعوا العلوم التي
تكشف أمور الرواة وأحوالهم ، فبحثوا في أسمائهم ، وتواريخهم ، وأماكنهم ،
وشيوخهم وتلامذتهم ، وما يتصل بذلك من فروع ومسائل في ثلاثين نوعاً من
أنواع علوم الحديث .
ثم إن للحديث جوانب أخرى غير شخص الراوي ، قد
تدل على الضعف أو السلامة في النقل ، وهي إما أن تكون من أخذ الراوي أو
أدائه للحديث ، أو في سلسلة السند ، أو في عين المتن ، أو تكون أمراً
مشتركاً بين السند والمتن ، وقد استوفى المحدثون بحث ذلك كله ، وتتبعوا كل
احتمال للقوة والضعف ، فدرسوا صيغ الاتصال بين الرواة في حال الأخذ والأداء
، وما دل منها على الاتصال وما لم يدل ، وجعلوا لكل حالة تسمية وحكماً
خاصاً ، وتناولوا متون الأحاديث بالفحص والتدقيق وتتبعوا ما بها من علل
وشذوذ وغير ذلك بقواعد رصينة محكمة .
ولم يكتفوا بمجرد اختبار السند
والمتن بل قاموا بموازنة ضخمة بين الأحاديث سنداً ومتناً، استخرجوا بها
أنواعاً كثيرة من علوم الحديث ، ولم يكتفوا في هذه المقارنة بعرض الحديث
على أشباهه من الروايات الأخرى ، بل عرضوه أيضاً على كل الدلائل العقلية
والشرعية ، مما نتج عنه نشوء أنواع كالمعلل ، والموضوع ، والمدرج ،
والمقلوب ، والمنكر ، والمضطرب ، والمصحف ، وغيرها من الأنواع الناشئة
نتيجة مقارنة المرويات وسبرها .
ولعل هذه الحادثة التي رواها
العقيلي في كتاب الضعفاء تبين مدى ما كان يتمتع به الناقدون من المحدثين من
فطنة وبراعة في النقد ، فقد ذكر أن أبا داود
الإمام الجهبذ جعل أحاديث " يعقوب بن كاسب " على ظهور كتبه ، ولم يضمنها
تلك الأحاديث ، فلما سئل عن ذلك قال : رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها
فطالبناه بالأصول فدافعها - أي حال دون دفعها إليهم - ثم أخرجها بعد فوجدنا
الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري ، كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها " .
ولذا
جاءت أحكامهم في القبول والرد متدرجة متلائمة شاملة لجميع الحالات
والاحتمالات ، بدءاً من قمة الصحة فيما سموه بأصح الأسانيد وما يحفه من
قرائن أخرى ، ثم باقي مراتب الصحيح ، فالحسن لذاته ، فالحسن لغيره ، إلى
الضعف اليسير الذي قد يُعمل به بشروط تقوي احتمال سلامته ، ثم الضعف الشديد
، وهو الناشئ عن فحش الغلط أو الغفلة ، أو كون الراوي متهماً بمفسق ، ثم
ما هو شر من ذلك كله وهو الكذب المختلق ، الذي لا تجوز روايته إلا على سبيل
التحذير منه والتنبيه على كذبه ، فكانت هذه الأحكام سُلَّماً دقيقاً
للقبول والرد ، أخذت كل درجة منه شروطها وحكمها الملائم تماماً بكل وضوح
ودقة .
كل ذلك يثبت أن منهجهم في النقد كان شاملاً لجميع جوانب
الحديث ، ولكل الاحتمالات والدلائل التي تشير إلى معرفة قوته من ضعفة ، مما
يجعل كل مطلع منصف يقطع بسلامة أحكامهم على الأحاديث ، وأن منهجهم في
النقد كان هو السبيل الوحيد المتكامل للوصول إلى تمييز المقبول من المردود
من المرويات .