نصّ الحديث
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
( عُذّبت امرأة في هرّة ، سجنتها حتى ماتت ، فدخلت فيها النار ؛ لا هي
أطعمتها ، ولا سقتها إذ حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ) متفق عليه.
وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى تلك المرأة في صلاة الكسوف حيث قال :
(.. ودنت مني النار ، فإذا امرأة تخدشها هرّة ، قلت : ما شأن هذه ؟ ،
قالوا : حبستها حتى ماتت جوعا ، لا أطعمتها ، ولا أرسلتها تأكل ) .
وجاء في رواية النسائي : ( حتى رأيت فيها امرأة من حمير تعذب في هرّة... فلقد رأيتها تنهشها إذا أقبلت وإذا ولت تنهش أليتها ) .
معاني المفردات
في هرّة : بسبب قطّة
خشاش الأرض : حشرات الأرض ، وما يدبّ عليها من العقارب والحيات ونحوهما
تخدشها هرّة : تجرحها بمخالبها
تنهش أليتها : تجرحها في مؤخرّتها
تفاصيل القصّة
المرأة
هي منبع الحنان وموطن الرفق ، خلقها الله سبحانه وتعالى وجعل من عاطفتها
الفيّاضة جزءاً لا يتجزّأ من تكوينها ، فتراها تنطلق من مشاعرها المرهفة
وأحاسيسها الرقيقة لتحنو على من حولها وتغمره بهذه العاطفة .
ولكن
ماذا إذا نُزعت الرحمة من قلب أنثى وأجدبت فيها معاني الشفقة لتفقد
إنسانيّتها وفطرتها وأبرز صفاتها ؟ ، وكيف يكون الحال إذا وجدت القسوة
طريقها إلى نفسها لتدفعها إلى الإضرار والإفساد والتعذيب ، في خلق معوج
وسلوك منحرف ؟
لا
شكّ حينها أن النتائج ستختلف ، والموازين ستنقلب ، والقيم ستتبدّل ، فإذا
بنا نرى الرحمة على الآخرين تنقلب شدّة عليهم ، وإذا التوجّع من أصوات
الأنين يحلّ محلّه الأنس بذلك الصوت والراحة لسماعه .
وبين
يدينا صورةٌ مخالفةٌ للأصل ، ومناقضةٌ للفطرة الأنثويّة ، أخبر عنها رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – ، جرت وقائعها أيّام الجاهليّة ، والقصّة أن
امرأة من "حمير " كانت تملك هرّة ، فبدلاً من رعايتها والاعتناء بها ،
وبدلاً من إطعامها والإحسان إليها ، إذا بها تحبسها وتمنعها من الخروج ،
وليت الأمر اقتصر على ذلك فحسب ولكنها منعت عنها الطعام والشراب ، دون أن
تُلقي بالاً إلى أصوات الاستغاثة التي كانت تصدر من الهرّة .
وظلّت
الهرّة تعاني من الجوع والعطش أياما وليالي ، لم تجد فيها شيئاً من طعام
يشبع جوعتها ، أو قطرة ماءٍ يطفيء ظمأها ، ولم يُسمح لها بمغادرة البيت
علّها تظفر بشيء تأكله ولو كان من هوام الأرض وحشراتها ، حتى فارقت الحياة ،
والمرأة تنظر إلى ذلك كلّه دون أن تحرّكها يقظة من ضميرٍ أو وازعٌ من خير .
ولكنّ
ربّك بالمرصاد ، حرّم الظلم على نفسه ولا يرضى وقوعه على أحد ، فكان
عقابها الإلهيّ الذي رآه النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم كُسفت الشمس أن
الله سلّط عليها هرّة تجرحها بمخالبها مُقبلةً مُدبرة حتى يوم القيامة ، ثم
يكون مصيرها نار جهنّم والعياذ بالله .
وقفات مع القصّة
في
التحذير - الذي ورد في الحديث – من تعذيب الحيوانات وأذيّتها ، دعوةٌ إلى
الإحسان والرّحمة بالآخرين ، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلّق بالحيوانات ،
والإسلام قائم على مبدأ الإحسان في معاملة الخالق والمخلوق .
ولنتأمل
كيف وجّه الله سبحانه وتعالى النظر إلى الحيوانات ، باعتبارها نعمةً
عظيمةً سُخّرت للبشر كي ينتفعوا بلحومها وأشعارها وأوبارها ، ثم كيف جاء
الحثّ على الرفق بتلك المخلوقات ، ذلك الرفق الذي يمنع من تعذيب الحيوان أو
ضربه ووسمه بالنار ، ويأمر بإحسان قتله ، وينهى عن حدّ الشفرة أمامه حتى
لا تتأذّى من النظر إليها .
وقد عاب القرآن الكريم ما كان عليه أهل الجاهليّة من تعذيب الحيوانات بشقّ آذانها ، قال تعالى : {
إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا * لعنه الله وقال
لأتخذنَّ من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنّهم فليبتكن آذان
الأنعام ولآمرنّهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله
فقد خسر خسراناً مبيناً } ( النساء : 117-119 ) ، وصحّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله :
( لا تقصوا نواصي الخيل – مقدّم رأسها - ولا معارفها – شعر الرّقبة -ولا
أذنابها ؛ فإن أذنابها مذابّها – أي تدفع عنها الهوام - ، ومعارفها دفاؤها -
أي كساؤها الذي تدفأ به - ، ونواصيها معقودٌ فيها الخير ) رواه أبو داود ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته ) رواه النسائي ، ونهى عليه الصلاة والسلام : " أن يُقتل شيء من الدواب صبرا " رواه مسلم ، وهو حبس الحيوان دون طعام أو شراب حتى الموت ، أو أن يُتّخذ الحيوان هدفاً للرماية .
وعندما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حماراً قد ُوسم في وجهه ، غضب لذلك وقال : ( لعن الله الذي وسمه ) رواه مسلم .
وفي مجال الاهتمام بغذاء الحيوان يقول النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض ) رواه مسلم
كما يدلّ الحديث أيضا أن الجزاء من جنس العمل ، فالمرأة عُوقبت بعد مماتها بهرّة تُعذّبها وتخدش جسدها كما جاء في سياق النصّ .
وبهذا
تكون القصّة قد جسّدت اهتمام الإسلام بالحيوانات والدعوة إلى الإحسان
إليها ، وإعطائها حقوقاً في كلّ ما يجلب لها النفع أو يدفع عنها الضرّ ،
وما يكفل لها العيش والحياة ، مما يثبت أسبقيّة هذا الدين العظيم لكلّ
المنظمات الحقوقيّة المعنيّة بالحيوانات والرفق بها.