عن عبد الله بن مسعود رضي الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
( للهُ أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن ، من رجل في أرض دَويّة مهلكة ، معه
راحلته ، عليها طعامه وشرابه ، فنام فاستيقظ وقد ذهبت ، فطلبها حتى أدركه
العطش ، ثم قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه ، فأنام حتى أموت ، فوضع
رأسه على ساعده ليموت ، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه ،
فاللهُ أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده ) رواه مسلم .
وجاء في رواية أخرى : ( فسعى شرفا فلم ير شيئا ثم سعى شرفا ثانيا فلم ير شيئا ثم سعى شرفا ثالثا فلم ير شيئا فأقبل حتى أتى مكانه الذي قال فيه )
وفي حديث النعمان بن بشير زيادة : ( ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ) رواه مسلم .
غريب الحديث
أرض دويّة مهلكة : هي الأرض القفر والفلاة الخالية ، والتي يُخشى الموت فيها .
قال فيه : أي نام القيلولة .
تفاصيل القصة
مع
كثرة الذنوب ، وتوالي الخطايا ، ومع الانسياق نحو الموبقات رغم تكرار
الوعود وقطع العهود ، يتنامى سؤال كبير يدور في نفوس العصاة من بني آدم : " أبعد كلّ هذا يغفر الله لي ؟ ، وهل عساني أظفر بالعفو وقبول التوبة " .
وقبل
أن تنقطع حبال الأمل من النفوس ، ويخيّم على أرجائها القنوط ، تأتي
الإجابة على لسان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مثلٍ مضروب ، يفتح
للمذنبين أبواب الرجاء ، ويخرجهم من دائرة اليأس .
ويسرد
النبي – صلى الله عليه وسلم – المثل الذي تدور أحداثه في صحراء مقفرة ،
شديدة القيظ ، لا ماء فيها ولا كلأ ، وفي هذا المشهد يظهر رجلٌ تبدو على
قسماته ملامح الإجهاد والتعب ، في سفرٍ طويل لا مؤنس له فيه سوى ما يسمعه
من صدى خطواته ، وما يبصره من ظلّ ناقته ، والتي جعل عليها طعامه وشراب .
ولم
تزُل الشمس عن كبد السماء حتى كان الإرهاق قد بلغ به أيما مبلغ ، فطاف
ببصره يبحث عن شجرة تظلّه ، حتى وجد واحدة على قارعة الطريق ، فاتّجه نحوها
وأناخ ناقته ثم استلقى تحتها ، وأغفى قليلاً ليستعيد نشاطه ويستردّ قواه ،
إلى حين تنكسر حدّة الشمس وتخفّ حرارة الجوّ .
ولأنّ
الرّجل لم يُحكم وثاق ناقته ، انسلّت عنه ومضت في سبيلها ، فلمّا استيقظ
من نومه لم يجدها ، ففزع فزعاً شديداً ، وانطلق يجري بين الشعاب وفوق
التلال دون جدوى .
ولما استيأس الرّجل وأيقن بالهلاك ، عاد إلى موضعه تحت الشجرة جائعاً عطشاً ، مرهق الجسد قانط النفس ، فنام في مكانه ينتظر الموت .
ولكن
يا للعجب ، لقد أيقظه صوت ناقته ، فوجدها فوق رأسه ، ففارقه اليأس ، وحلّ
بدلاً منه فرحٌ شديدٌ كاد يفقده صوابه ، إنّه فرح من عادت له الحياة بعد أن
أيقن بالموت والهلاك ، حتى أنّه أخطأ من شدّة الفرح فأبدل الألفاظ : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك ) .
ثم
يخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – من حوله أن فرح الله بتوبة عباده
وإقبالهم عليهم أشدّ وأعظم من هذه الفرحة التي طغت على مشاعر الرّجل : ( فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده ) .
وقفات مع المثل
إن
الغاية من المثل الذي ضربه النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث هي
دعوة المؤمنين إلى المبادرة بالتوبة ، حتى يطهّروا أنفسهم من أرجاس
المعاصي والذنوب ، كما قال الحقّ سبحانه وتعالى في محكم التنزيل : { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } ( النور : 31 ) ، وقال تعالى : { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } ( المائدة : 74 ) .
وقد
بيّن – صلى الله عليه وسلم – أن ربنا عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء
النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، وأن أبواب التوبة مفتوحة ،
لا تُغلق إلى قرب قيام الساعة ، وما أكثر الآيات والأحاديث التي جاءت تبيّن
ذلك وتفصّله .
وإذا
كانت المثل الذي بين أيدينا يعطينا لمحةً عن الرحمة الإلهيّة ، فهو يوقفنا
كذلك على صفة من صفاته سبحانه ، وهي المذكورة في قوله عليه الصلاة والسلام
: ( فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن ) ، وذلك إثباتُ أن الله تعالى يفرح فرحاً يليق بجلاله وكماله ، ولا يشبه فرح المخلوقين .
كما
يشير الحديث إلى أنّ الله سبحانه وتعالى لا يحاسب العبد على الألفاظ
والأقوال التي تصدر منه دون قصد ، فالرّجل قال من شدّة الفرح : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك ) فظاهر العبارة كفرٌ ، لكنّ العبرة بما وقر في قلبه وما أراده في نفسه .