من
الشبه التي يطالعنا بها المشككون في هذا الدين بين الحين والآخر، شبهة حول
النسخ في القرآن الكريم. وصورة هذه الشبهة كما يصورها أصحابها تقول: ( إن
القرآن وحده - من دون سائر الكتب - يتميز بوجود الناسخ والمنسوخ فيه، مع
أن كلام الله الحقيقي لا يجوز فيه النسخ؛ لأن الناسخ والمنسوخ في كلام الله
ينافي حكمته وصدقه وعلمه، فالإنسان القصير النظر هو الذي يضع قوانين تناسب
وضعًا ما، ثم يغيرها وفق ما يبدو له من أحوال وظروف ) ويضيف أصحاب هذه
الشبهة إلى هذا فيقولون: ( ما دام أن الله يعلم بكل شيء قبل حدوثه ووقوعه،
فكيف يقال: إن الله يغير كلامه ويبدله وينسخه !!! أو ليس في هذا ما ينافي
الكمال الإلهي ؟؟ ) .
هذه خلاصة هذه الشبهة المثارة حول القرآن الكريم، ولتفنيد هذه الشبهة، والرد عليها نخصص مقالنا هذا، فنقول:
أولاً:
إن النسخ في القرآن الكريم أمر ثابت بإجماع المسلمين، ولكن هل في هذا ما
يعيب القرآن، ويقلل من شأنه، وأنه كلام الله الخالد خلود الدهر، والمحفوظ
بحفظه ؟
وجوابًا
على هذا نقول: إن النسخ الواقع في القرآن الكريم، لا يُفهم حق الفهم إلا
إذا فُهمت طبيعة النسخ، وعُرفت الحكمة التي شُرع من أجلها. وبيان ذلك: أن
النسخ الواقع في القرآن لم يتجاوز بضع آيات أحصاها العلماء، وميزوها عن
غيرها. وهذا يفيدنا أن النسخ في القرآن كان على قلة وندرة، وليس على كثرة
وشهرة .
ثم
نقول أيضًا، وهو الأهم: إن النسخ في القرآن خصوصًا، وفي الشريعة الإسلامية
عمومًا، كان إحدى السمات التربوية والتشريعية، فترة نزول القرآن، الذي ظل
يربى الناس، ويهذب سلوكهم مرحلة إثر أخرى، وَفْقَ إرادة الله الحكيم
الخبير، الذي يعلم ما يصلح لعباده، وما لا يصلح لهم { صنع الله الذي أتقن كل شيء } (النمل:88) .
ثم نقول ثانيًا: إن بعض الآيات التي يُظَنُّ فيها النسخ، لا نسخ فيها عند التحقيق والتدقيق، وذلك كقوله تعالى: { لا إكراه في الدين } (البقرة:256) فقد ظن بعضهم، أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } (التوبة:29) .
والحق،
أنه لا نسخ بين هاتين الآيتين، فالآية الأولى موضوعها مختلف تمامًا، إذ
إنها تقرر مبدًأ إسلاميًا عظيمًا، وهو منع الإكراه على الدين؛ في حين أن
الآية الثانية موضوعها خاص، يتعلق بالصادِّين عن سبيل الله، والمانعين
لغيرهم من قبول دعوة الإسلام...فلا تعارض حقيقي بين الآيتين، لاختلاف
موضوعهما .
ثم نقول ثالثًا: إن الآيات التي وقع النسخ فيها فعلاً، لا بد أن تُفْهَم وَفْق ظروفها التي نزلت فيها؛ ونُمثّل لهذا بقوله تعالى: {
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا
فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفَّاهنَّ الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً }
(النساء:15) فحكم الزنى في هذه الآية - وهو الإمساك في البيوت في حق
الزانيات - اقتضته مرحلة التشريع الأولى؛ من أجل تطهير المجتمع وتنظيفه،
وقد اختار الشرع الحنيف - في أول الأمر - عزل الفاحشات من النساء، وإبعادهن
عن المجتمع، متى ثبت عليهن ارتكاب الفاحشة. ثم جاء في الآية نفسها،
وتحديدًا قوله تعالى: { أو يجعل الله لهن سبيلاً }
ما يشعر أن هذا الحكم ليس هو الحكم النهائي الدائم، وإنما هو حكم لفترة
معينة، وحسب ملابسات خاصة في المجتمع. وأنه يُتوقع صدور حكم آخر ثابت دائم.
وهذا هو الذي وقع بالفعل، إذ تغير الحكم إلى الجَلْد أو الرجم، كما ورد في
القرآن، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وليس
في هذا غرابة تُستنكر، ولا أمر يُستهجن؛ فتطور الأحكام التشريعية، ووقف
العمل بحكم سابق، وإحلال حكم آخر لاحق محله، أمر معهود ومألوف في بداية
التشريع الإسلامي، ولا نكران في شيء من ذلك؛ مراعاة - كما أشرنا - لأحوال
المكلفين، وتحقيقًا لمصلحة المجتمع؛ ففي مثالنا السابق، لا نشك أن حكم
الرجم للزناة المحصنين، هو أحسم للأمر، وأقطع لمادة الفساد، وأحفظ لتماسك
المجتمع وصيانته، لكنه لم يكن مناسبًا في بداية التشريع، إذ إن الناس كانوا
حديثي عهد بكفر، ثم بعد أن تمكن الإيمان من قلوبهم، ووقر أمر الدين في
نفوسهم، نزل التشريع الإلهي المناسب لتلك الفترة، وما بعدها إلى يوم
القيامة، ونسخ التشريع السابق الذي كان ملائمًا لفترة معينة .
وليس
معنى هذا، أن الله جلت حكمته حين أنزل عقوبة حبس الزانيات في البيوت، لم
يكن يعلم - حاشاه ذلك - أنه سيُنـزل حكمًا آخر يحل محله!؟ وهو الجلد أو
الرجم.
على
أن من المفيد - ونحن بصدد تفنيد هذه الشبهة - أن نقول: إن مُسمَّى النسخ
قد يُطلق أحيانًا على ما يُسمى عند علماء الأصول التخصيص، فيقولون مثلاً:
هذه الآية منسوخة بتلك الآية، وهم يريدون بذلك، أنها مخصَّصَة بها، ولا
يريدون النسخ بمعناه اللغوي والاصطلاحي، وهذا أمر معهود في كُتب بعض
المتقدمين .
ثم
نقول أيضًا: إن النسخ كان واقعًا ومعمولاً به في الشرائع السابقة لشريعة
الإسلام؛ يدل على هذا، ما حكاه القرآن الكريم مخاطبًا بني إسرائيل : { كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة } (آل عمران:93) فتضمنت هذه الآية بيان كذبهم صريحًا في إبطال النسخ، فإنه سبحانه أخبر أن الطعام كله كان حلالاً لبني اسرائيل ، قبل نزول التوراة، سوى ما حرَّم إسرائيل على نفسه منه .
ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا
على شريعة أبيهم إسرائيل وملته، وأن الذي كان لهم حلالاً، إنما هو بإحلال
الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة، ثم
جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم، التي كانت حلالاً لبني إسرائيل.
وهل هذا إلا محض النسخ، الذي ينفونه ويستغربونه في شريعة الإسلام، وقد قال
تعالى: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } (النساء:160) والآية صريحة في وقوع النسخ في شريعة اليهود .
ثم
يقال لأصحاب هذه الشبهة: هل تقرِّون أنه كان قبل الإنجيل شريعة التوارة أم
لا ؟ وبالطبع، هم لا ينكرون أن يكون قبل الإنجيل شريعة .
فيقال لهم: فهل نسخت الإنجيل شيئًا من أحكام ما جاء في التوارة أم لا ؟
فإن
قالوا: لم ترفع شيئًا من أحكام تلك الشريعة، فقد جاهروا بالكذب والبهتان؛
وإن قالوا: قد رفعت بعض أحكام التوراة، فقد أقروا بالنسخ قطعًا .
وقد
جاءت نصوص في التوراة والإنجيل تتضمن النسخ، ورفع ما هو ثابت في نفس
الشريعة، أو في غيرها من الشرائع السابقة؛ وأصحاب هذه الشبهة هم أدرى من
غيرهم بوقوع النسخ في مسائل العهد القديم والعهد الجديد، ومع هذا فإنهم
يستنكرون ما هم فيه واقعون. ونحن نذكر أمثلة على وقوع النسخ في الشرائع
السابقة، فمن ذلك:
-
تحريم العمل يوم السبت، مع الاعتراف بأن هذا الحكم لم يكن ثابتًا في
الشرائع السابقة، وإنما كان العمل في يوم السبت جائزًا كغيره من أيام
الأسبوع .
- أمر الله سبحانه بني إسرائيل قتل أنفسهم بعد عبادتهم العجل، ثم رفع هذا الحكم عنهم بعد ذلك .
-
النهي عن الحلف بالله في الشريعة المسيحية، مع ثبوته في الشريعة الموسوية،
والإلزام بما التزم به الناذر في النذر، والحالف في اليمين .
-
الأمر بالقصاص في الشريعة الموسوية. ثم نسخ هذا الحكم في الشريعة
المسيحية، ونُهي عن القصاص؛ ففي سفر التثنية 19:21 ( نفس بنفس. عين بعين.
سن بسن. يد بيد. رِجْل برِجْل ) .
ثم جاء المسيح عليه السلام ونسخها في العهد الجديد؛ ففي إنجيل متى 5:38
( سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر.
بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا. ومن أراد أن يخاصمك،
ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا. ومن سخرك ميلاً واحدًا فاذهب معه اثنين )
.
- تحليل الطلاق في شريعة موسى عليه السلام؛ ونسخ هذا الحكم في شريعة عيسى عليه السلام، ثم أباحته أخيرًا بعض المجامع الكنسية .
فإذا
جاز أن تأتي شريعة الإنجيل بتحليل أو تحريم ما كان مباحًا أو محرمًا في
التوارة. فلِمَ لا يكون من الجائز أيضًا أن تأتي شريعة الإسلام بتحريم أو
تحليل ما كان مباحًا أو محرمًا في الشرائع السابقة، أو في شريعة الإسلام
نفسها ؟!
ولا
ريب، فإن الشيء قد يكون مصلحة في وقت دون وقت، وفي شريعة دون أخرى؛ كما
كان تزويج الأخ بالأخت مصلحة في شريعة آدم عليه السلام، ثم صار مفسدة في
سائر الشرائع؛ وكذلك إباحة العمل يوم السبت، كان مصلحة في شريعة إبراهيم
عليه السلام، ومن قبله وفي سائر الشرائع، ثم صار مفسدة في شريعة موسى عليه السلام، وأمثال هذا كثير .
فأي
شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك في الشريعة الواحدة في وقتين مختلفين، بحسب
المصلحة؛ إذ عموم قدرته سبحانه وملكه وتصرفه في ملكه وخلقه لا يمنعه أن
ينسخ ما يشاء، ويثبت ما يشاء .
هذا
ما تيسر لنا قوله في تفنيد هذه الشبهة، والرد عليها، ويبقى الأمر مفتوحًا
لمزيد من القول والتفصيل، نحيل طالبه إلى مظانه من كلام أهل العلم .