إذا
كانت بعض شرائع الأرض تسوغ كل الوسائل - أيًا كانت، وكيفما كانت - للوصول
إلى غاياتها وأهدافها، فإن شرائع السماء كلها توجب سلامة الوسيلة، وتؤكد
على شرعيتها للوصول إلى غايتها؛ فالإسلام يرفض رفضًا قاطعًا ذلك المبدأ
الذي يقول: إن الغاية تسوغ الوسيلة؛ إذ كما أن الغاية مشروعة ونبيلة في
الإسلام، فإن الوسيلة لتحقيقها، ينبغي أن تكون كذلك .
وقد ورد في القرآن ما يفيد النهي عن سب المشركين، وذلك في قوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } (الأنعام:108) .
وتنقل
كتب التفسير وأسباب النـزول أكثر من رواية في سبب نزول هذه الآية، غير أن
أصح الروايات الواردة في سبب نزولها، وأقربها لسياق الآية الكريمة، ما روي
عن قتادة ، قال: ( كان المسلمون يسبون أوثان
الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم، فإنهم قوم جهلة،
لا علم لهم بالله ) رواه الطبري ؛ ومعنى (استسب له)، أي: عرضه للسب، وجره إليه .
وثمة رواية ثانية نقلها الطبري عن السدي ، حاصلها أن قريشًا عزمت أمرها على مقابلة أبي طالب عم
النبي صلى الله عليه وسلم، لتطلب منه إقناع ابن أخيه محمدًا صلى الله عليه
وسلم أن يكف عن التعرض لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، فلما
دخلوا على أبي طالب ، وطلبوا منه ما اتفقوا عليه، كلَّم أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وطلب منه أن يكف عن التعرض لآلهتهم، وأن يدعهم وآلهتهم، كي يدعونه، فقال صلى الله عليه وسلم: ( يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها، حتى يأتوني بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي، ما قلت غيرها )؛ فغضبوا، وقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا، أو لنشتمنك، ولنشتمن من يأمرك. فذلك قوله سبحانه: { فيسبوا الله عدوا بغير علم }؛ ومعنى قوله سبحانه: { عَدْوا }، أي: ظلمًا، وهو مأخوذ من التعدي .
و(السب)
في أصل كلام العرب، يدل على تحقير أحد، أو نسبته إلى نقيصة أو مذمة،
بالباطل أو بالحق، وهو بمعنى الشتم. والمراد بالسب في الآية ما يصدر من بعض
المسلمين من كلمات الذم والقدح في حق آلهة المشركين .
بعد الوقوف على أسباب نزول هذه الآية، يحسن بنا ذكر بعض الفوائد التي تضمنتها الآية الكريمة:
الفائدة
الأولى: أن سب الكافرين لله سبحانه، ليس بالضرورة أن يكون سبًا بالمعنى
المتعارف عليه بين الناس، بل قد يكون السب أيضًا بوصف الله سبحانه بما هو
منـزه عنه من الأوصاف؛ كوصفه سبحانه بالظلم، أو وصفه بأن له ولدًا، أو أنه
بحاجة لمعونة أحد من المخلوقين، ونحو ذلك من الأوصاف التي يتصف بها البشر.
وقد يأخذ السب صورة الفعل والسلوك، كأن يصرَّ الكافر على كفره وعناده، فهذا
أيضًا مما يدخل في باب السب لله .
الفائدة
الثانية: أنه ليس من السب، النسبة إلى خطأ في الرأي أو العمل، ولا النسبة
إلى ضلال في الدين، إن كان صدر من مخالف في الدين؛ كقوله تعالى في وصف أهل
الشرك والضلال: { أولئك كالأنعام بل هم أضل } (الأعراف:179) .
الفائدة
الثالثة: أنه ليس المراد بالسب المنهي عنه في الآية، ما جاء في القرآن من
إثبات نقائص آلهة أهل الكفر والضلال، مما يدل على انتفاء إلهيتها، كقوله
تعالى: { ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها } (الأعراف:195)؛ وقوله سبحانه: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم }
(الأنبياء:98، )، فليس هذا ونحوه من الشتم ولا من السب؛ بل هو من باب
المحاجة، وإقامة البرهان؛ فإن إبطال عقائد أهل الشرك والكفر بالدليل
والبرهان، ووصفهم بما هم عليه من الضلال والفساد أمر مطلوب شرعًا، ولا
يعتبر من السب المنهي عنه؛ إذ إن السب والشتم شيء، ووصف أهل الباطل والضلال
بما هم عليه شيء آخر، وشتان ما بينهما .
وكذلك،
فإن الرد على شبهات أهل الضلال وتفنيدها، والتصدي للمفترين على الله
كذبًا، غير داخل في النهي الوارد في الآية، بل على العكس من ذلك، فإن
التصدي لشبه المضلين، والرد على افتراءات المفترين، أمر مطلوب شرعًا،
ومقصود ديانة. وهل قامت شرائع السماء إلا لأجل ذلك ؟
الفائدة
الخامسة: قال بعض أهل العلم: "لا يجوز أن يُفعل بالكفار ما يزدادون به
بعدًا عن الحق ونفورًا"؛ فكل ما من شأنه - قولاً كان أو فعلاً - أن يُبغِّض
الكفار بدين الإسلام، وينفرهم منه، ويبعدهم عن قبوله، ينبغي على المسلم أن
يتجنبه، ويتحرز من الوقوع فيه؛ حفاظًا على نفسه ودينه؛ يرشد لصحة هذا
المسلك، قوله صلى الله عليه وسلم ل عائشة رضي الله عنها: ( لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، أو قال بكفر، لأنفقت كنـز الكعبة في سبيل الله )، رواه مسلم ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم ل عمر رضي الله عنه، وقد استأذنه في ضرب عنق بعض المنافقين: ( لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه )، متفق عليه .
الفائدة
السادسة: قال أهل العلم: حكم هذه الآية " باق في هذه الأمة على كل حال،
فمتى كان الكافر في مَنَعَة ( قوة )، وخيف أن يسب الإسلام أو النبي عليه
السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم، ولا دينهم، ولا
كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك، لأنه بمنـزلة البعث على المعصية
"؛ والظاهر، أن النهي عن السب عام، سواء أكان الكافر قويًا عزيزًا، أم كان
ضعيفًا ذليلاً؛ لأنه إن كان قويًا عزيزًا، حمله السب على التعرض لدين
الإسلام بكل أنواع التعرض من سب وشتم وغير ذلك؛ وإن كان ضعيفًا ذليلاً،
حمله السب على كراهة دين الإسلام، والنفور منه، والبعد عنه .
الفائدة
السابعة: أن النهي عن سب المشركين، إنما كان لأنه يخالف ويناقض المقصود من
دعوة الإسلام؛ إذ المقصود من دعوة الإسلام الاستدلال على وحدانية الله،
وإبطال شرك المشركين، وهذا لا يُتوصل إليه إلا عن طريق المحاجة العقلية،
القائمة على الدليل والبرهان، والحجة والاستدلال؛ وهذا الذي يميز الحق من
الباطل، ويبين الخبيث من الطيب؛ أما السب والشتم فليس طريقًا لإقامة الحجة
على المشركين؛ ناهيك أن السباب والشتم يجيده كل أحد، العالم والجاهل، أما
الاستدلال وإقامة البرهان فلا يقدر عليه إلا من رزقه الله عقلاً راجحًا،
وحجة بالغة .
الفائدة
الثامنة: أن أسلوب السباب والشتم، يخالف أصول الدعوة التي جاءت بها شريعة
الإسلام؛ فقد أمر سبحانه نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بمجادلة الكافرين
بالتي هي أحسن، فقال تعالى: { وجادلهم بالتي هي أحسن } (النحل:125)، وقال سبحانه مخاطبًا نبيه موسى ونبيه هارون عليهما السلام، وقد أرسلهما إلى فرعون : { فقولا له قولا لينا } (طه:44)؛ فلما كان السب مفسدة، تناقض وتخالف مقصود الشرائع، جاء النهي عنها، لمخالفتها لذلك المقصود .
أخيرًا،
فقد ذكر العلماء أن الآية التي بين أيدينا هي أصل قوي في قاعدة سد
الذرائع، وهي قاعدة أصولية بنى عليها الفقهاء والأصوليون العديد من الفروع
الفقهية، وحاصل هذه القاعدة: أن كل أمر مشروع، إذا ترتب على فعله مفسدة
راجحة على مصلحة القيام به، فإن تلك المشروعية تنتفي، ويصبح ذلك المشروع
ممنوعًا، للمفسدة المترتبة عليه .
وحاصل
القول: إن الخطاب في الآية الكريمة خطاب للمسلمين كافة، ينهاهم فيها
سبحانه عن سب المشركين والكافرين؛ لما يترتب عن سبهم من عواقب ونتائج غير
محمودة؛ ناهيك أن السباب والشتم ليست من أخلاق الإسلام، وليست كذلك وسيلة
من وسائل الإقناع والبلاغ .