من
أساليب القرآن لإيصال الأفكار، وتبليغ المعتقدات، تمثيل المعقول بالمحسوس،
وتشبيه المجرد بالمجرب، وقياس الغائب على الشاهد، ونحو ذلك من الأساليب؛
فأنت واجد في القرآن مثل الأعمى والبصير، ومثل الشجرة الطيبة والشجرة
الخبيثة، ومثل الزرع المثمر والزرع المصفر، ومثل الحمار والكلب والذبابة
والعنكبوت، ونحو ذلك من الأمثلة المحسوسة والمشاهدة .
ومن
قبيل التمثيل بالمحسوس، ما ضربه الله مثلاً للذين لا يعملون بعلمهم،
والذين يُعرضون عن الهدى الذي جاءهم من ربهم؛ يقول تعالى في معرض ذم
اليهود: { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل
الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي
القوم الظالمين } (الجمعة:5) .
فبعد
أن بيَّن سبحانه وتعالى ما امتنَّ به على عباده المؤمنين، من بعثة نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم، وتعليمهم الكتاب والحكمة، ضرب مثلاً لليهود الذين
أوتوا التوراة فيها هدى ونور، إلا أنهم لم ينتفعوا بها، واقتنعوا من العلم
بأن يأخذوا منها ظاهرها دون حقيقتها، وأن يقرؤوها من غير أن يفهموها، وأن
يحفظوها من غير أن يعملوا بما فيها، وهم في كل ذلك يحسبون أنهم يُحسنون
صنعاً، وهم في واقع الأمر وحقيقته، ليسوا على شيء، فهم يأخذون من التوراة
ظاهرها، وهم عن حقيقتها غافلون .
وقد
شبه سبحانه فعل اليهود، وموقفهم من التوراة، بحال حمار يحمل كتباً كثيرة،
فيها من العلم النافع الكثير الكثير، غير أن هذا الحمار لا حظ له من هذا
العلم الذي يحمله على ظهره، وهو شاق عليه لثقل وزنه، ولا يناله من هذا
الحِمل إلا التعب والمشقة .
ومع
أن هذا الحمار الذي يحمل من الأسفار ما يشق عليه، غير ملوم على عدم علمه
بمضمون ما يحمل؛ لأنه حمار؛ فإن اليهود بما أوَّلوا من التوراة، وبما حرفوا
منها وبدلوا، أسوأ حالاً من الحمير؛ لأن الحمار لا فهم له في أصل خلقته،
ولا يعرف من الدنيا إلا أنه وسيلة لحمل الأثقال ونقلها، وهؤلاء اليهود على
الرغم مما آتهم الله من العقول، إلا أنهم لم يستعملوها فيما يرضي الله، بل
استعملوها فيما يغضبه؛ لذلك كانوا { كالأنعام بل هم أضل } (الأعراف:179) فهم أسوأ حالاً من الأنعام، ولا شك أنهم أسوأ مآلاً .
وهذا
المثل القرآني وإن كان مضروباً لتمثيل حال اليهود وبيان موقفهم من
التوراة، إلا أنه أيضاً صالح لكل من يقف من القرآن هذا الموقف السلبي،
فيكتفي منه أن يجعل منه زينة في بيته، أو سيارته، أو مكتبه، أو متجره، من
غير أن يعمل به في حياته؛ أو يكتفي منه بالحفظ والتلاوة دون أن يُحكِّمه في
تصرفاته وأفعاله .
روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا }، قال: فجعل الله مثل الذي يقرأ الكتاب، ولا يتبع ما فيه، كمثل الحمار يحمل كتاب الله الثقيل، لا يدري ما فيه .
قال
القرطبي: وفي هذا المثل تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم
معانيه، ويعلم ما فيه؛ لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء. وينطبق عليه قول
مروان بن أبي حفصة:
زوامل للأشعار لا علم عندهم بجيِّدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر
وقال
ابن القيم: " فهذا المثل وإن كان قد ضُرب لليهود، فهو متناول من حيث
المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به، ولم يؤد حقه، ولم يرعه حق رعايته " .
فمن
كان حاله كذلك، انطبق عليه المثل انطباقه على اليهود، وربما كان وجه
الانطباق على المسلم أشد وأقوى؛ لأن القرآن هو آخر الكتب السماوية، فهو
أولى بالاتباع، وأحق بالتمسك به؛ لأنه ناسخ لما سبقه من الكتب، ومهيمن
عليها .
ثم إن مضمون هذا المثل وفحواه ذو صلة وثيقة بشكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله: { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا }
(الفرقان:30)؛ فعدم الأخذ بالقرآن منهج عمل ودستور حياة، صورة من صور
هجرانه، وحفظ القرآن من غير العمل بما فيه، صورة أخرى من صور هجرانه، وكل
هذا يصدق عليه، ما جاء في هذا المثل القرآني .
فلا
ينبغي للمسلم ولا يليق به بحال، أن يكون كاليهود الذي قرؤوا التوراة ولم
يعملوا بما فيها، بل عملوا بخلاف ما فيها، فضُربت عليهم الذلة والمسكنة،
وباؤوا بغضب من الله، وخسروا في الدنيا قبل الآخرة، وحق عليهم قوله سبحانه:
{ بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله } (الجمعة:5)؛ فذمهم الله على موقفهم ذلك، وجزاهم بما عملوا أن أبعدهم عن سابغ رحمته، وجميل فضله .