في سياق حديث القرآن عن بني إسرائيل ، وتذكيرهم بأنعم الله عليهم، يخبرنا القرآن عن موقف من مواقفهم، وذلك قوله تعالى: {
وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا
وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا قولا غير
الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون } (البقرة:58-59).
وجاء الإخبار عن هذا الموقف في موضع آخر من القرآن الكريم، وذلك قوله سبحانه: {
وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا
الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا منهم قولا
غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون } (الأعراف:161-162).
وقد فارق كل موضع الآخر من أحد عشر نحواً، ونحن نذكر أهم الفوارق التي قيلت حول هذه الآيات:
أولاً: أنه سبحانه عَطَف فعل (الأكل) بالفاء في سورة البقرة: { فكلوا }، وبالواو في سورة الأعراف؛ لأنه تعالى أمرهم في سورة البقرة بـ (الدخول)، وهو سريع الانقضاء { ادخلوا هذه القرية فكلوا منها }،
فناسب اقتران الفعل بعد الأمر بالدخول بالفاء؛ لدلالتها على التعقيب وعدم
التراخي؛ فكأنه قيل: ادخلوا القرية فكلوا مما أنعم الله عليكم فيها. أما في
سورة الأعراف، فقد أُمروا بالسكنى، وهذا الفعل يفيد الاستقرار والتراخي،
فناسبه اقتران الفعل بعده بالواو: { اسكنوا هذه القرية وكلوا منها }، مما يدل على مطلق الجمع بين السكنى والتمتع بالأكل، بغض النظر عن مراعاة التعقيب والترتيب.
ثانياً: جاء الوصف: { رغدا } في سورة البقرة يحمل دلالة محددة؛ وذلك أنه سبحانه لما أسند القول إليه: { وإذ قلنا }، ناسبه أن يذكر معه ما يدل على إفاضة النعم، وما يدل على كرمه سبحانه على خلقه، فقال: { فكلوا منها حيث شئتم رغدا }. أما في سورة الأعراف، فإنه لما جاء الفعل على صيغة المبني للمجهول: { وإذ قيل }، لم يذكر معه ما ذكر من الإكرام الوافر؛ لأنه لم يسند الفعل إليه سبحانه.
ثالثاً: جاء الأمر بالدخول سجداً في سورة البقرة مقدماً على الأمر بالقول بحط الذنوب، { وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة }، بينما جاء الأمر بالقول بحط الذنوب في سورة الأعراف مقدماً على الأمر بالدخول سجداً، { وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا }؛
وذلك أنه لما كان منهم مذنبون وغير مذنبين، ذكر في كل موضع ما هو أليق
بهذين الفريقين؛ فذكر في سورة البقرة ما هو أليق بفريق المذنبين، فطلب
الدخول سجداً، تقديماً لأمر العبادة، إذ هو الأليق بحالهم، وأخَّر الأمر
بحط الذنوب على سبيل هضم النفس، وإزالة العجب؛ في حين أنه في سورة الأعراف
قدم ما هو الأليق بحال المذنبين، فأمرهم بطلب حط الذنوب وغفرانها؛ إذ هم
أحوج ما يكونون إليه، وأخَّر أمرهم بالدخول سجداً؛ لأن التوبة عن الذنب
مقدَّمة على الاشتغال بالعبادة، وبذلك يكون ذكر في كل موضع ما هو أليق بكل
فريق.
رابعاً: قال في سورة البقرة: { وسنزيد المحسنين }
عطفاً بـ (الواو)، وجعل (المغفرة) مع (الزيادة) جزاء واحداً لمجموع
الفعلين: (دخول الباب سجداً)، وقولهم: (حطة). أما في سورة الأعراف، فجعل
(المغفرة) جزاء لقولهم: (حطة)، وجعل (الزيادة) جزاء على (الدخول)، فَتْرك
(الواو) يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الفعلين.
خامساً: قوله سبحانه: { فبدل الذين ظلموا منهم }، جاء في سورة الأعراف بزيادة: { منهم }؛ لأن أول قصة أصحاب موسى عليه السلام في سورة الأعراف مبني على التخصيص والتمييز؛ إذ قال: { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } (الأعراف:159)، فذكر منهم من يفعل ذلك، ثم عدَّد صنوف إنعامه عليهم، وأوامره لهم، فلما انتهى الإخبار عن ذلك، قال: { فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم }،
فأتى في آخرها ما أخبر عنهم بلفظ: (من)، التي تفيد التخصيص والتمييز؛
ليكون آخر القصة متوافقاً مع أولها. أما في سورة البقرة، فإنه لما لم يذكر
في الآيات التي قبل قوله: { فبدل الذين ظلموا } تمييزاً وتخصيصاً، لم يعد لازماً ذكر ما يفيد التخصيص والتمييز.
سادساً: في سورة البقرة قال سبحانه: { نغفر لكم خطاياكم }، وفي سورة الأعراف، قال تعالى: { نغفر لكم خطيئاتكم }،
و(الخطايا) جمع تكسير، يدل على الكثرة، و(الخطيئات) جَمْعٌ ملحق بجمع
المؤنث السالم، وهو يدل على القلة؛ وتعليل هذا الاختلاف: أنه لما جاء إسناد
الفعل في سورة البقرة إليه سبحانه: { وإذ قلنا }،
ناسب تكثير النعم والفضائل، فأتى بما يدل على الكثير الجم؛ لأن وزن
(فعالى) = (خطايا) من أوزان جمع الكثرة؛ وذلك ليدل على كرمه وجوده وعظيم
امتنانه، فكأنه قال: نغفر لكم خطاياكم كلها جمعاء. أما في سورة الأعراف،
لما كان الفعل غير مسند لله سبحانه، بل جاء بالبناء للمجهول، جاءت الصيغة
بما تدل على جمع القلة.
سابعاً: جاء فعل العاقبة والجزاء في سورة البقرة معبَّراً عنه بـ (الإنزال) { فأنزلنا }، بينما جاء في سورة الأعراف معبَّراً عنه بـ (الإرسال) { فأرسلنا }؛
والفرق بين الفعلين: أن فعل (الإنزال) يفيد حدوث الأمر بداية، في حين أن
فعل (الإرسال) يفيد حدوث الأمر على وجه كلي ونهائي؛ فذكر في البقرة ما يدل
على بداية نزول الرجز عليهم، وذكر في الأعراف ما يدل على أخذهم بالكلية
واستئصالهم، وبذلك تكون صورة عذابهم في الموضعين، قد جاءت على أتم وصف.
هذا
بعض ما ذُكر من فوارق بين آيتي سورة البقرة وآيتي سورة الأعراف، وهي فوارق
تقريبية احتمالية، لا يمكن الجزم بها، قد يقبلها البعض، وقد يرفضها آخرون،
ولا حرج في ذلك.
فمن قَبِلَها، فقد وافق الإمام الرازي فيما ذهب إليه بخصوص هذه الفوارق؛ حيث ذكر عشرة فوارق بين موضعي البقرة والأعراف. ومن رفضها، فقد وافق الآلوسي فيما ذهب إليه، حيث رفض ما ذكره الإمام الرازي ، وتعقبه فيما ذكره من فوارق، وخَلَص إلى أن تلك الفوارق المذكورة لا تخلو من نظر.
وقد سكت كثير من المفسرين عن ذكر تلك الفوارق، ولم يتعرضوا لها - فيما رجعنا إليه - بإثبات أو نفي.
وعلى
الجملة، فإن ما قيل من نكت وفوارق بين آيتي سورة البقرة وآيتي سورة
الأعراف، وإن لم يكن القول به على سبيل اليقين، فإن ما هو متيقن - بهذا
الصدد - أن التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء، وفيه من الدلالة على
رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى، والقرآن الكريم مملوء من ذلك.