زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
حاول أعداء الإسلام ( منذ بزوغ فجره وحتى اليوم ) باستماتة
النيل منه والطعن فيه باستغلال تعدد زوجات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ..
زعموا أن نبي الإسلام كان منصرفا إلى
إشباع شهوته بالتقلب في أحضان تسع نساء !! قالها يهود يثرب (1) ..
فرد عليهم القرآن الكريم ردا بليغا وبين أنهم فعلوا ذلك حسدا للرسول صلى الله عليه
وسلم ، على الرغم من أن داود وسليمان – عليهما السلام – آتاهما الله الملك وكان
لهما من الزوجات والجواري أضعاف ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم .
ومازال المستشرقون في الخارج
والعلمانيون واليساريون في الداخل يتطاولون بوقاحة على المقام الشريف والسنة
المطهرة ، كيدا منهم لهذا الدين ، والله يحفظه – رغم أنوفهم – إلى أن يرث الله
الأرض ومن عليها .
وهناك آخرون لا يعلمون بواعث تعدد
زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ..
ومن يطالع السيرة العطرة سوف يكتشف
بسهولة أن بعض هذه الزيجات كان في المقام الأول تلبية لدوافع إنسانية ، والبعض
الآخر كان لتأليف القلوب ، وتطييب النفوس ، وتمهيد الأرض للدعوة المباركة
بالمصاهرة وجبر الخاطر ..
ثم هناك حقه الطبيعي صلى الله عليه
وسلم في الزواج ، لأنه بشر ، وليس ملكاً ..
وقد أشرنا من قبل إلى أن الزواج هو
شريعة كل أنبياء الله ( حتى من لم يتزوج منهم مثل عيسى ويحيى عليهما السلام ) وأنه
لا يوجد نص في الأناجيل الأربعة يحظر تعدد الزوجات .(2)
ولنبدأ بأول زوجات المصطفى صلى الله
عليه وسلم ، وهى سيدتنا خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها وأرضاها – فقد تزوجت في
الجاهلية من هند بن النباش التميمى وكنيته أبو هالة .. وبعد موته تزوجت عتيق بن
عابد المخزومى (3) .. ثم مات عنها عتيق .. وكانت من
أرفع بيوت قريش وأوسطها نسبا وحسبا . وكان لها مال ترسل رجالا من قومها يتاجرون
لها فيه .. ولما سمعت بأمانة محمد عليه السلام أرسلت إليه ليتاجر لها في مالها في
رحلة الشام ، على أن تعطيه ضعف ما كانت تعطى غيره من الأجر .
ورحل صلى الله عليه وسلم بمالها مع
غلامها ميسرة إلى الشام ، فباع واشترى وعاد إلى مكة بأضعاف ما كانت خديجة تربحه من قبل .. وأعطته السيدة
خديجة ضعف الأجر المتفق عليه .. وحكى لها ميسرة ما كان من معجزاته عليه السلام
خلال الرحلة : أظلته غمامة ، وأخبر أحد
الرهبان ميسرة بأن رفيقه محمدا سيكون
النبي الخاتم الموجود في كتب السابقين ..
فازدادت إعجابا به ، وأرسلت إليه
صديقتها نفيسة بنت أمية تعرض عليه الزواج من خديجة التي كان عمرها في ذلك الوقت
أربعين سنة ..
فوافق عليه السلام ، وكان عمره وقت
أن تزوجها خمسا وعشرين سنة .
وولدت له السيدة خديجة كل أولاده
وبناته باستثناء إبراهيم ولده من مارية القبطية ( الجارية التي أهداها المقوقس إلى
النبي .. ) ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم أخرى حتى ماتت السيدة خديجة عن خمس وستين
سنة ، بينما كان عليه السلام قد تخطى الخمسين سنة ..
والآن نتساءل : إذا كان نبي الرحمة
صلى الله عليه وسلم قد عاش بلا زواج حتى سن الخامسة والعشرين .. ولم يكن أهل مكة
يقولون عنه إلا كل الخير ، وكانوا يلقبونه بالصادق الأمين .. وكانت طهارته وعفته
مضرب الأمثال – باعتراف أعتى المشركين وأشدهم عداوة له وحقدا عليه ..
وإذا كان تزوج بعد ذلك من السيدة
خديجة وهى أكبر منه سنا بخمس عشرة سنة ، وظل مكتفيا بها زوجة وحيدة حتى بعد أن
تجاوزت الستين .. فأين ما يزعمون من حبه للشهوات واستكثاره من النساء ؟!!
لقد كان عليه السلام في تلك الفترة
في ريعان شبابه ، ولم يكن قد شغل بعد بأعباء الدعوة المباركة ، وتبعاتها الثقيلة ،
ولو كان – كما يزعم أعداء الإسلام – من ذوى الشهوة الطاغية لتزوج من شاء من النساء
، وقد كان تعدد الزوجات والجواري شائعا قبل الإسلام – كما ذكرنا (4) – بلا قيد أو عدد محدد .. وما كان
ذلك عيبا ولا محظورا .. فلماذا لم يفعل صلى الله عليه وسلم ؟!
أليس هذا دليلا على أنه صلى الله
عليه وسلم قد عدد زوجاته فيما بعد لأسباب أخرى أسمى وأرفع قدرا من مجرد إشباع
الشهوة ، رغم أن هذا الإشباع بالزواج ليس عيبا ولا شائنا للزوج ؟!
ثم هناك نقطة أخرى – قبل أن ننتقل
إلى باقي الزوجات – لقد كان عليه السلام يذكر السيدة خديجة بكل الخير والوفاء بعد
موتها .. وحتى بعد أن صار له تسع نسوة .. كان يغضب إذا أساء أحد إلى ذكراها العطرة ، ولو كانت
عائشة أحب زوجاته إليه – ويذكر عليه السلام – في كل مناسبة – معروف خديجة وفضلها
عليه وعلى الدعوة الغراء ، ولم ينسها رغم أنها كانت عجوزا ورزق بعدها بزوجات أصغر
سنا ، وربما أكثر جمالا ..
هل مثل هذا الزوج يقال عنه إنه يضع
الشهوة الجنسية في المقام الأول ؟!! هل يظن مثل هذا الظن المريض بمن وصفه رب العزة
بأنه { على خلق عظيم } ؟!
***
ونأتي الآن إلى ظروف زواجه صلى الله عليه وسلم بثانية زوجاته
السيدة سودة بنت زمعة – رضي الله عنها – فقد كانت متزوجة في الجاهلية بالسكران بن
عمرو بن عبد شمس ، وهو ابن عمها ، وأسلما بمكة وخرجا مهاجرين إلى أرض الحبشة في
الهجرة الثانية .. ثم قدما من الحبشة ، ومات السكران بمكة ، وترملت زوجته السيدة
سودة ، فلما انقضت عدتها أرسل لها النبي صلى الله عليه وسلم فخطبها وتزوجها بمكة ،
وهاجرت معه إلى المدينة .
وكانت – رضي الله عنها – قد كبرت
سنها ، وبعد فترة من زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بها تنازلت عن ليلتها للسيدة
عائشة ، وقالت كما جاء في إحدى الروايات : يا رسول الله ، والله ما بي حب الرجال –
تقصد أنها مسنة وليست بها حاجة إلى الرجال – ولكني أرجو أن أبعث في أزواجك يوم
القيامة . وقبل منها النبي صلى الله عليه وسلم تنازلها للسيدة عائشة ، وأبقى عليها
زوجة في عصمته حتى موته صلى الله عليه وسلم (5) ..
فهل يكون اقترانه – عليه الصلاة
والسلام – بعجوز أخرى دليلا على ما يذهب إليه أعداء الله ورسوله من أن تعدد زوجاته
صلى الله عليه وسلم كان للشهوة أو حب النساء ؟!! أو أنها مواساة منه – عليه السلام
– لأرملة مسلمة لم يعد لها عائل بعد موت رجلها ، وليس لها مال أو شباب أو جمال
يدفع غيره صلى الله عليه وسلم للزواج منها ؟!!
والله .. إن مثل هذه الزيجة التي لا
يطمع فيها أحد لهي بعض أعبائه عليه السلام ، وواجب
ثقيل ألزم به نفسه الشريفة النبيلة صلى الله عليه وسلم .
ومن سواه يواسى الأرملة المحزونة ؟
من سواه يجبر المكسور ، ويفك الأسير ، ويعين على شدائد الدهر ، وهو الذي أرسله ربه
رحمة للعالمين ؟!!
***
وأما السيدة عائشة بنت الصديق أبى
بكر – رضي الله عنهما – فهي الزوجة الثالثة لنبي الهدى صلى الله عليه وسلم .. ومن
الطبيعي أن يرتبط الداعية بالرجال الذين يقوم على أكتافهم البناء الشاهق ، وتنتشر
الدعوة بهم ، ومن خلالهم إلى سائر إرجاء المعمورة .. وخير الروابط بين النبي وكبار
أصحابه هو الرباط المقدس ( الزواج ) .. ولهذا تزوج عليه السلام من السيدة عائشة ،
وكانت صغيرة السن .. كما تزوج أيضا لذات السبب من السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب –
رضي الله عنهما ..
وهناك سبب ثان لزواجه صلى الله عليه
وسلم من السيدة حفصة ، فقد كانت متزوجة قبله من خنيس بن حذافة السهمي الذي أسلم
معها وهاجر بها إلى المدينة فمات عنها ( عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من
غزوة أحد ) متأثرا بإصابته في الغزوة (6) ، وعندما انقضت عدتها عرض عمر على
أبى بكر الصديق أن يزوجه ابنته حفصة ، فسكت أبو بكر ، مما أغضب عمر – رضي الله
عنهم أجمعين – وكان عمر قد عرضها قبل ذلك على عثمان بن عفان فلم يوافق كذلك ، مما
أسخط الفاروق عليه كما سخط على صاحبه ، فجاء عمر يشكوهما إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ..
وطيب صلى الله عليه وسلم خاطره
وتزوجها تكريما لعمر ، كما كرم أبا بكر من قبل وتزوج بابنته عائشة .. وكان الباعث
لأبى بكر على عدم قبول الزواج من حفصة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها
لنفسه ، وما كان الصديق ليفشى سر رسول الله ، أو يتزوج بمن عزم صلى الله عليه وسلم
على الزواج منها ..
ومن المعروف أن السيدة حفصة
– رضي الله عنها – لم تكن جميلة مثل عائشة أو صفية ،
لكنها كانت صوامة قوامة (7) تحب الله ورسوله (8)
فهل يكون الزواج في حالة السيدة
عائشة والسيدة حفصة استكثارا من النساء ، أو جريا وراء الشهوات ؟!! أم هي ضرورات
الدعوة ، وجبر الخاطر ، وتوكيد الروابط بين المصطفى صلى الله عليه وسلم وكبار رجال
الدعوة الوليدة والرأفة بزوجة شهيد – مثل حفصة – لم يكن لها من الجمال أو المال ما
يغرى غيره عليه السلام بالزواج منها ؟!!
إنه الرحمة المهداة ، والنعمة
المسداة – عليه الصلاة والسلام ..
***
هناك أيضا ظروف زواج الرسول الأمين
من السيدة زينب بنت خزيمة الملقبة بأم المساكين – رضي الله عنها – فقد كانت زوجة لابن عمه عبيدة بن الحارث بن عبد
المطلب بن عبد مناف – رضي الله عنه – الذي استشهد في يوم بدر وتركها وحيدة لا عائل لها ..
فهل يكون جزاء الصحابي وابن العم
الشهيد أن تترك أرملته وحدها ؟!! ومن يصل الرحم ، ويجازى الشهيد ، ويخلفه في أهله
بكل البر والخير والرحمة سوى الصادق الأمين خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ؟!!
وهل مثل هذه الزيجة يكمن خلفها
أي مطمع حسي أو غيره ؟! أو أنها واجب وعبء إضافي على عاتق المصطفى صلى الله عليه
وسلم ؟!! وقد ماتت – رضي الله عنها – بعد زواجها من الرسول بعدة أشهر .
***
وكذلك جاء زواجه صلى الله عليه وسلم
من السيدة أم سلمة – رضي الله عنها – واسمها (( هند بنت سهيل بن المغيرة المخزومى
.. وقد أصيب – رضي الله عنه – يوم أحد ، ثم برئ الجرح بعدها بشهر .. وخرج – رضي
الله عنه – في (( سرية قطن )) ثم رجع منها بعد شهر آخر ، وانتقض الجرح عليه فتسبب
في استشهاده – رضي الله عنه – وخلف وراءه السيدة أم سلمة وكثرة من الأطفال ..
فلما انقضت عدتها أرسل إليها النبي
صلى الله عليه وسلم يخطبها ، فاعتذرت بأنها تقدمت في السن ، وأنها ذات أطفال ،
وأنها شديدة الغيرة ، فرد عليه البشير النذير : (( أما ما ذكرت من غيرتك فيذهبها
الله .. وأما ما ذكرت من سنك فأنا أكبر منك سنا ... وأما ما ذكرت من أيتامك فعلى
الله وعلى رسوله )) . (9) [أي أن عيالها سوف يرعاهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم] ، وهذا أهم أهداف هذه الزيجة المباركة
، أي كفالة هؤلاء الأيتام ، فضلا عن رعاية الصحابية الجليلة بعد أن أصبحت أرملة ..
وأخيرا جاءت هذه الزيجة تكريما للزوج
أبى سلمة نفسه بعه استشهاده ، برعاية أرملته وأطفاله ، وصلة لرحمه ، فهو ابن عمة
الرسول صلى الله عليه وسلم .. فأين اتباع الشهوة في مثل هذا الارتباط بأرملة تجاوزت الخمسين وذات أطفال
؟!!
وأما زواجه صلى الله عليه وسلم
بالسيدة أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان بن حرب – رضي الله عنها – فله قصة توضح الهدف
منه ، والمقصد النبيل الذي تحقق به .. فقد كانت أم حبيبة زوجة لعبيد الله بن جحش
بن خزيمة ، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية .. وهناك فتن عبيد الله
وارتد عن الإسلام – والعياذ بالله – وثبتت السيدة أم حبيبة – رضي الله عنها – على
دينها رغم الغربة والوحشة والوحدة .. ولم تكن تستطيع الرجوع إلى مكة حيث كان أبوها
أبو سفيان أحد زعماء قريش يضطهد الرسول وأصحابه أشد الاضطهاد ، فلو رجعت أم حبيبة
لتعرضت للفتنة في دينها بدورها .. وكان لا بد من تكريمها وتعويضها عن الزوج الذي
ارتد ، ثم مات بالحبشة ..
وهكذا أرسل جابر المكسورين ، ومؤنس
المتوحشين إلى النجاشي ملك الحبشة – وكان قد أسلم – طالبا منه أن يعقد له على أم
حبيبة .. وبالفعل زوجه النجاشي إياها ، وأرسلها إليه بالمدينة بعد هجرته صلى الله
عليه وسلم معززة مكرمة ..
ولما بلغ أبا سفيان خبر زواج النبي
صلى الله عليه وسلم من ابنته أم حبيبة شعر بالسعادة ، وقال عن زوج ابنته مبتهجا ، والذي كان
ما يزال عدوا له ولدينه : (( هو الفحل لا يقرع أنفه )) (10) .. أي أن مثل النبي صلى الله عليه
وسلم لا يرد صهره ، فهو كفء كريم تفخر كل قبيلة بمصاهرته وتزويجه بناتها .
قال أبو سفيان بن حرب ذلك على الرغم
من أنه كان ما يزال مشركا عدوا للإسلام ، ولكنه لا يخدع نفسه كأب تزوجت ابنته بأعظم وأشرف الرجال ..
وشاء الله جلت قدرته أن تدور الأيام
، ويأتي أبو سفيان إلى المدينة محاولا إثناء النبي صلى الله عليه وسلم عن غزو مكة
بعد أن نقض المشركين عهودهم معه ، واعتدوا على حلفائه من قبيلة خزاعة ، وقتلوهم في
البلد الحرام في الشهر الحرام .
ولم يجد أبو سفيان ملجأ بعد أن رفض
كبار الصحابة التوسط له عند النبي صلى الله عليه وسلم سوى بيت ابنته وفوجئ أبو سفيان بابنته تطوى
عنه الفراش في ضيق واشمئزاز .. فسألها : والله يا بنية ما أدرى هل رغبت بالفراش
عنى أم رغبت بي عنه ؟!! فردت عليه بحسم : (( بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأنت رجل مشرك )) ..
يا الله .. إنها العقيدة الراسخة
كالجبال في قلب زوجة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، تواجه بها أباها الذي خرجت من
صلبه .. وذلك هو الإيمان الحق الذي يجعل الله ورسوله أحب إلى المسلم الصادق من أمه
وأبيه وابنه وأخيه .
هل كان من المطلوب من الرسول أن يترك
مثل هذه السيدة العظيمة للضياع بين زوج مرتد وأب كان كافراً ؟!! ومن سواه صلى الله عليه وسلم أولى بأن يكرم مثواها ، ويجزيها
على ثباتها وصبرها وجهادها في سبيل عقيدتها ورسالتها ؟!! ومن يكون مناسبا لابنة
سيد قريش سوى سيد الأولين والآخرين ؟!!
***
ونأتي إلى قصة زواجه صلى الله عليه
وسلم من السيدة زينب بنت جحش الأسدى – رضي الله عنها – وهى ابنة عمته أميمة بنت
عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف .. أي أنها من أعرق وأشرف بيوت قريش وأرفعها نسبا
وأما .. وكانت فيما يروون فائقة الجمال ..
وعندما أرسل النبي صلى الله عليه
وسلم يخطبها ظن أهلها أنه يريدها لنفسه ، ثم فوجئوا به يطلبها لزيد بن حارثة ..
كان زيد – رضي الله عنه – عبدا في الجاهلية ، وانتهي به المطاف عند الصادق الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه
وسلم الذي أكرم مثواه ، وبلغ من تأثير عطفه وحنانه على زيد أن فضله زيد على أبيه وعمه
( لما خيره بين البقاء معه أو اللحاق بأبيه وعمه عندما عثرا عليه ، وجاءا من ديارهما
في طلبه .. وهنا أشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم أن زيد ابني أرثه ويرثني ... وذلك
قبل تحريم التبني ) فرضي أبوه الصلبى بذلك .
وعلى الرغم من أن الرسول صلى الله
عليه وسلم أعتق زيدا وتبناه ، ثم أبطل الإسلام التبني فاسترد زيد اسمه الأول (
وحريته من قبل ) ، فإن آل جحش رفضوا أن يزوجوه ابنتهم وهى من فتيات قريش المعدودات
اللاتي يتنافس خيرة شباب العرب للفوز بهن ..
ولكن الله تعالى شاء أن يمضى هذا
الزواج لحكمة كبرى ، بل لعدة مقاصد : أولها أن يهدم التفاخر بالأنساب ، ويثبت
القاعدة الخالدة الراشدة ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وليس أغناكم أو أعرقكم
نسبا أو أفضلكم حسبا ..
***
ولهذا نزل قول الله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى
الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا
مبينا } (11) ..
وفور نزول هذه الآية الكريمة عرف عبد
الله بن جحش وأخته زينب – رضي الله عنهما – أنه لا محيد لهم عن طاعة الله ورسوله ،
فقال عبد الله لابن خاله محمد صلى الله عليه وسلم : (( مرني بما شئت )) فزوجها صلى
الله عليه وسلم من زيد بن حارثة ..
وعلى الرغم من إتمام الزواج ظلت زينب
تستعصي على زيد ، وتشمخ عليه بنسبها وحسبها ، حتى ضاق – رضي الله عنه – بها ذرعا ،
وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في تطليقها لاستحالة العشرة بينهما ،
فأمره النبي أن يتقى الله ويمسك عليه زوجه فلا يطلقها ..
في ذلك الوقت أطلع الله تعالى رسوله
على ما سوف يحدث ، وهو أن زيد سيطلق زينب ، ثم يزوجها الله من رسوله الأمين ،
ليهدم بذلك قاعدة التبني التي سادت في الجاهلية ، إذ الأعدل والأصوب هو أن يُـدعى كل ابن لأبيه الحقيقي ، وليس
لذلك الذي تبناه .. وإذا كان الإسلام يحرم إلى الأبد زواج الأب من امرأة ابنه ،
فالأمر ليس كذلك في حالة الابن بالتبني إذ هو ليس ابنا حقيقيا ، وما ينبغي أن يكون
.
ونزل قول الله تعالى : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه و
أنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتقِ الله وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه
فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم
إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا } (12) .
وأفضل تفسير لهذه الآية الكريمة
وأقربه إلى ما يليق بمقام النبوة الشريف النبيل ، وما هو مقطوع به من عصمة
الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – ما قاله الإمام على بن الحسين بن على بن أبى
طالب ، الملقب يزين العابدين – رضي الله عنه ..
روى على بن الحسين : (( أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان قد أُوحي إليه أن زيدا سوف يطلق زينب ، وأن الله سيزوج رسوله إياها .. فلما
شكا زيد للنبي صلى الله عليه وسلم ما يلقى من أذى زوجته ، وأنها لا تطيعه ، وأعلمه
أنه يريد طلاقها ، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية : ( اتق الله وأمسك عليك زوجك ) .. وهو صلى الله عليه وسلم يعلم
أنه سيفارقها ، ثم يتزوجها هو من بعده ، وهذا ( العلم ) هو ما أخفاه صلى الله عليه
وسلم في نفسه ، ولم يرد أن يأمره بطلاقها .. فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من
خشية الناس في شيء قد أباحه الله له ، وقوله لزيد (( أمسك عليك زوجك )) ، مع علمه بأنه يطلقها ، وأعلمه سبحانه أن الله أحق بالخشية في كل
حال )) .
قال علماؤنا رحمهم الله : (( وهذا
القول أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية ، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين و
العلماء الراسخين ، مثل الزهري وبكر بن علاء القشيرى وأبو بكر بن العربي وغيرهم (13) . ورفض الإمام ابن كثير – رضي الله
عنه – كل رواية أخرى لا تناسب عصمة الرسول و مقام النبوة الرفيع ، إذ هي من الموضوع وما لا يصح سنده ولا
معناه . (14)
ويعلق الإمام القرطبى على تلك الرواية
الجاهلية التي تفسر قوله تعالى للرسول : { وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } . بأنه صلى الله عليه وسلم أخفى في نفسه هوى لزينب ، بقوله (( هذا
القول يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا ، أو مستخف بحرمته
صلى الله عليه وسلم ..
وقال الحكيم الترمذي في (( نوادر
الأصول )) : (( على بن الحسين جاء بهذا ( التفسير السليم للآية ) من خزانة العلم
جوهرة من الجواهر ، ودرا من الدرر ، فإنه إنما عتب الله عليه أنه أعلمك أن هذه
ستكون من أزواجك ، فكيف قال بعد ذلك لزيد ( أمسك عليك زوجك ) ، وأخذتك خشية الناس
أن يقولوا : تزوج امرأة ابنه ، و ( والله أحق أن تخشاه ) ..
وقال النحاس : قال بعض العلماء : ليس
هذا خطيئة من النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يؤمر بالتوبة أو بالاستغفار منه
، وقد يكون الشئ ليس خطيئة ، ولكن غيره أحسن منه ، وقد أخفى الرسول صلى الله عليه
وسلم ذلك في نفسه خشية أن يفتن الناس )) . (15)
والخلاصة أنه عليه الصلاة والسلام تزوج السيدة زينب بنت جحش
بعد طلاقها من زيد بن حارثة بأمر من الله الذي تولى سبحانه تزويجها له مباشرة ،
ليهدم بذلك قاعدة التبني إلى الأبد ، وحتى لا يكون هناك حرج على الآباء في الزواج
من مطلقات الأدعياء ، لأنهم ليسوا أبناءهم .. وقد كانت السيدة زينب ابنة عمة
الرسول صلى الله عليه وسلم ، وربيت تحت رعايته ، ولو كان له فيها مأرب لتزوجها منذ
البداية ، ولم يزوجها بنفسه لزيد من قبل ..
ومن أقوى ما قيل في تفنيد مزاعم
المنافقين حول هذه الآية ما قاله فضيلة الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – قال : ((
إنهم يقولون إن الذي يخفيه النبي في نفسه ويخشى فيه الناس دون الناس هو ميله إلى
زينب . أي أن الله – بزعمهم – يعتب عليه عدم التصريح بهذا الميل !! ونقول : هل
الأصل الأخلاقي أن الرجل إذا أحب امرأة أن يشهر بها بين الناس ؟ وخاصة إذا كان ذا
عاطفة منحرفة جعلته يحب امرأة رجل آخر ؟!!
هل يلوم الله رجلا لأنه أحب امرأة
آخر فكتم هذا الحب في نفسه ؟! وهل كان يرفع درجته لو أنه صاغ فيها قصائد غزل ؟!!
هذا والله هو السفه ! وهذا السفه هو ما يريد بعض المغفلين أن يفسر به القرآن !!
إن الله لا يعاتب أحداً على كتمان حب طائش .. والذي أخفاه
النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه تأذيه من هذا الزواج المفروض ، وتراخيه في تنفيذ
أمر الله به ، وخوفه من كلام الناس عندما يجدون نظام التبني – كما ألفوه – قد
انهار .
وقد أفهم الله رسوله أن أمره سبحانه
لا يجوز أن يعطله توهم شيء ما ، وأنه – إزاء التكليف الأعلى – لا مفر له من السمع والطاعة ،
شأن من سبقه من المرسلين ، وأعقب الآية السابعة والثلاثين هذه بآيات أخرى تؤكد هذا
المعنى :
{ ما كان على النبي من حرج فيما فرض
الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا . الذين يبلغون
رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا } (16)
ويضيف الشيخ الغزالي : (( إنك حين
تثبت قلب رجل تقول له : لا تخش إلا الله ، إنك لا تقول له ذلك وهو بصدد ارتكاب
معصية .. إنما تقول له ذلك وهو يبدأ القيام بعمل فاضل كبير يخالف التقاليد
الموروثة ، وظاهر في هذه الآيات كلها أن الله لا يجرئ نبيه على حب امرأة ، إنما
يجرئه على إبطال عادة سيئة يتمسك الناس بها ، عادة التبني ، ويراد منه كذلك أن
ينزل على حكمها ، لذلك يقول الله تعالى بعد ذلك مباشرة ، وهو يهدم نظام التبني : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن
رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيءٍ عليما } (17) و (18)
أما السيدة صفية بنت حيى بن أخطب
زعيم اليهود ، فقد وقعت في الأسر بعد فتح خيبر ، وكان أبوها وأخوها وزوجها قد قتلوا في المعركة
.. ورفقا ورحمة بها خيرها الرسول صلى الله عليه وسلم بين إطلاق سراحها وإلحاقها
بقومها إن أرادت البقاء على يهوديتها ، وبين الزواج منه إن أسلمت ، فقالت له : ((
يا رسول الله ، لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعوني .. و خيرتني بين الكفر
والإسلام ، فالله ورسوله أحب إلى من العتق ومن الرجوع إلى قومي .. فتزوجها الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وجعل تحريرها من الأسر هو مهرها . (19)
ومن الواضح أنه كان من الضروري ألا
يتزوج ابنة ملك اليهود سوى من يفوق أباها منزلة ومكانة ، وهو سيد ولد آدم صلى الله
عليه وسلم .. وليس معقولا و لا مقبولا أن تترك هذه المسكينة بعد ما كانت فيه من عز
ورفاهية ورفعة لمن قد يسئ معاملتها ، أو يضرب وجهها ..
ويؤيد هذه الرؤية رواية دحية الكلبي
– رضي الله عنه – فقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أعطني جارية من سبى يهود .
فقال عليه السلام له : (( اذهب فخذ جارية )) ، فذهب دحية فأخذ صفية .. فرآها الصحابة فقالوا : (( يا رسول
الله ، إنها سيدة بنى قريظة وبنى النضير ، ما تصلح إلا لك )) (20) .. فتزوجها صلى الله عليه وسلم لذلك
السبب .
***
وذات الأمر كان دافعا للنبي صلى الله
عليه وسلم للزواج من السيدة جويرية بنت الحارث بن ضرار زعيم بنى المصطلق .. فقد
حارب أبوها المسلمين ، ولحقت به هزيمة منكرة كادت تتسبب في فناء قبيلته أو إذلالهم
أبد الدهر .. فقد سقط المئات من بنى المصطلق أسرى ، ومنهم السيدة جويرية بنت
الحارث .. وجاءت إليه فقالت : (( يا رسول الله ، أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه
.. وقد أصابني من الأمر ما قد علمت [ تقصد الأسر والذل ] فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبني على تسع أواق ، فأعِنى في فكاكي [ تطلب معاونته صلى الله عليه وسلم في
دفع المتفق عليه لتحريرها من الأسر ] فقال لها صلى الله عليه وسلم : أو خير من ذلك ؟ فسألته : ما هو ؟
فقال صلى الله عليه وسلم أؤدي عنك كتابك وأتزوجك ..فقالت : نعم يا رسول الله ، قال صلى الله
عليه وسلم : (( قد فعلت ))
.. وخرج الخبر إلى الصحابة فقالوا :
أصهار رسول الله – يقصدون بنى المصطلق – في الأسر .. فجعل الناس يطلقون سراح من
عندهم من أسرى بنى المصطلق ، حتى تحرروا جميعا .
تقول السيدة عائشة – رضي الله عنها –
(( أعتق بتزويج جويرية من النبي أهل مائة بيت ، فلا أعلم امرأة أعظم بركة على
قومها منها . (21) و (22) .. وقد أسلم قومها جميعا بعد ذلك
وحسن إسلامهم .
وهكذا كانت هذه الزيجة بركة وخيرا
للإسلام والمسلمين من كل الوجوه ، ولم تكن للاستكثار من النساء كما يظن الجهلة
ويشيع المنافقون و المستشرقون !!
ولو كان الأمر حبا للنساء استكثاراً من الحسناوات لما نزل بعد ذلك أمر من الله له يحظر عليه الزواج بعد
من ذكرنا ، ولظل الرسول صلى الله عليه وسلم حرا يتزوج من شاء ، ويطلق من لا يريد
.. ومات صلى الله عليه وسلم عن تسع زوجات ( وكانت السيدتان خديجة وزينب بنت خزيمة
قد توفيتا في حياته ) وكان لهن نعم الزوج والعشير .. وصدق فيه قول رب العزة : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } . (23)
........................................................................................................................