القرآن الكريم بألفاظه ومعانيه وأساليبه
ونظمه وإعجازه يسلب العقول والألباب, ويأسر القلوب والأبصار, ومن جملة بلاغته وروعة
بيانه, وأسلوبه الراقي الأمثال القرآنية, قال تعالى: [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ] العنكبوت:43 وقال
تعالى: [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] الزُّمر:27 ولأهمية موضوع الأمثال وما تشتمل عليه من
عبر ودروس وقيم تربوية, ومعاني مباركة, فهذا مقال أتناول فيه تعريف «المثل» ومعانيه
التي جاء بها.
معنى المَثَل: النظير (في الأصل), ثم
نُقل منه إلى القول السائر, أي: الفاشي الممثّل مضربُه بمورده(1).
وللمَثَل أهمية كبرى في إفهام الناس, وتأثير عجيب في الأسماع, وتقرير غريب في ترسيخ
المعاني في الأذهان.
قال ابن المقفع: إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق, وآنق للسمع, وأوسع لشعوب
الحديث(2).
وقال ابن القيم: إن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأُنس التام, وتنفر من الغُربة
والوحدة وعدم النظير, وبالأمثال يزداد المعنى ظهوراً ووضوحاً, فالأمثال شواهد
المعنى المراد, ومزكية له, فهي كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه, وهي
خاصة العقل ولُبّه وثمرته(3).
وإذا نظرنا إلى عيون البيان, وينابيع الفصاحة وجدنا أغزرها متمثلاً بالقرآن الكريم,
فإذا تقصينا أسراره غصنا منه في بحر عميق لا قرار له, وصدرنا عن صنوف الأدب, وأنواع
الحِكَم.
وبحُسن التلاوة, وكثرة الصقل لها تنهال علينا المعاني الثرة, وتنكشف لنا الفهوم
الدقيقة انكشافاً باهراً لا ينكشف لمن مَرَّ عليه مَرّاً خفيفاً.
فمن ألوان الفصاحة في القرآن الكريم (المَثَل القُرآني), فله في الأُذنِ نغمة لذيذة
كنغمة التسبيح وقت السحر, وله في الفم حلاوة كحلاوة العسل لمن لم يطْعَمْهُ من زمن
طويل, قال الشاعر:
لا يعرفُ الشوقَ إلَّا مَن يكابدُهُ ولا الصبابة إلَّا مَن يُعانيها
وهذا عِقد من جواهر كريمة قد نظم خمسة عشر مثلاً قرآنياً تخيّرتُها لنجيد حفظها,
ولتبتهج المجالس عند ذكرها في مناسباتها, وليفوح شَذا عرْفها طيباً وروحاً, ليعود
شبابنا وشيبُنا إلى ذلك الصرح الوطيد, والقرآن المجيد, والشجرة الباسقة, فيقطفون
منها نوادر الأمثال, وجواهر الحكم, وقلائد الأدب, كلٌ على قدر همّته وعزيمته, قال
(المتنبي):
عَلىَ قَدْرِ أهلِ العَزْم تأتي العزائمُ وتأتي على قَدْرِ الكِرَام المكارُ
(عقد) من أمثال (القرآن):
1- [فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ] الزُّخرف:56
- يُقال: للحث على اتخاذ العبرة والعظة من أحداث التاريخ, والاستفادة من أخبار
السالفين.
ومعنى كلمة (سَلَفاً) حجّة للهالكين, و (مَثَلاً) عبرة, و (الآخرين) الناجين.
2- [يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا
بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى] طه:63
- يقال في حكاية قول المبطلين لجماعتهم في عدم استماعهم لأهل الحق, وأن كل حزب بما
لديهم فرحون.. وكلمة (المثلى) تأنيث الأمثل.
3- [إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ
لَهَا عَاكِفُونَ] الأنبياء:52
- يقال لمن تعلق قلبه في الدنيا, وانهمك فيها, على سبيل التحقير, والتوبيخ, و
(التماثيل) بمعنى: الأصنام.
4- [كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ] البقرة:118
- يقال لمن يقلد غيره تقليداً أعمى, القول هو أرنا الله جهرة, وفي ذلك تسلية للنبي
صلى الله عليه وسلم بأنه قد تُعُنِّتْ عليه كما تُعُنِّت على مَن قبله.
5- [وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] فاطر:14, وورد في المثل العربي: «على الخبير
سقطت»(4) .
- يقال في العثور على الخبير بكنه الأمور دون سائر المخبرين.
6- [لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ] الصَّفات:61
- يقال للترغيب في نيل محبوب, أي: فليجدّ المجدّون.
7- [يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ] آل عمران:13
- يقال لمن يهاب غيره مع قلته .
8- [فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ
فَتَرَكَهُ] البقرة:264
- يقال لمن ينفق ماله رياء, ومعنى (صفوان): حجر أساس, و (وابل): مطر كثير,
و(صلداً): أجرد لا شيء عليه.
9- [وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا]
الفرقان:33
- يقال في دحض الباطل, وقمع الفساد, قال الله تعالى: [بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ
عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ] الأنبياء:18
- ومعنى (تفسيراً) بياناً وهداية.
10-[ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا] الإنسان:28
- يقال في الترهيب بإهمال فِئة, والإتيان بآخرين.
11- [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا
العَالِمُونَ] العنكبوت:43
الأمثال والتشبيهات طُرق تبرز فيها المعاني المحتجبة للأفهام, وكان «عمرو بن مرة»
يقول: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني, لأنني سمعت الله تعالى
يقول: [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا
العَالِمُونَ] العنكبوت:43
يفهم أن الآية تقول له حينئذٍ: «وأنت لست من العالمين».
12- [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ
العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ
العَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] العنكبوت:41
- يقال للضعيف يلجأ إلى ضعيف مثله فلا يستفيد منه شيئاً.
13- [وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا] النور:39
- يقال لمن يظن أنه على شيء, وهو عند انكشاف الحقائق على خلاف ما كان يظنه.
ومعنى (البقيعة) الأرض الخالية القفر من البناء والشجر والنبات, و (الظمآن) الذي
اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه, فلم يجده شيئاً بل خافه, وهو أحوج ما كان
إليه.
14- [فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ*كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ] *فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ] المدَّثر:49ـ51
- يقال لمن يعرض عن الخير وينفر منه.
ففي الآية شَبَّه الله الكافرين في إعراضهم ونفورهم عن القرآن الكريم بحُمر رأت
الأسد والرماة ففرَّت منه, وهذا من بديع التمثيل.
15- [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ
الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ* مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] الحج:73ـ74
- يقال لمن يلجأ إلى عاجز, وهذا العاجز لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الضر, ولا يجلب
لها النفع, مع وجود المعين القوي العزيز, وبذلك يكون ما قدر القوي حق قدره, ولا
عرفه حق معرفته.
ومعنى (الطالب) العبد, و (المطلوب) المعبود.