يقول الشنقيطي رحمه في كتابه أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن عند قوله تعالى " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ"
الضمير في أنزلناه للقرآن قطعاً .
وحكى الألوسي عليه الإجماع ، وقال : ما يفيد أن هناك قولاً ضعيفاً لا يعتبر من أنه لجبريل .
وما قاله عن الضعف لهذا القول ، يشهد له السياق ، وهو قوله تعالى : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا } [ القدر : 4 ] .
والمشهور : أن الروح هنا هو جبريل عليه السلام ، فيكون الضمير في أنزلنا
لغيره ، وجيء بضمير الغيبة ، تعظيماً لشأن القرآن ، وإشعاراً بعلو قدره .
وقد يقال : ذكر سورة القدر قبلها مشعرة به في قوله : { اقرأ باسم رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] ، ثم جاءت { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ }
[ القدر : 1 ] ، أي القرآن المقروء ، والضمير المتصل في إنا أنزلناه
مستعمل للجمع وللتعظيم ، ومثلها نحن ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، والمراد بهما هنا التعظيم قطعاً لاستحالة التعدد أو إرادة معنى الجمع .
فقد صرح في موضع آخر باللفظ الصريح في قوله تعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] ، والمراد به القرآن قطعاً ، فدل على أن المراد بتلك الضمائر تعظيم الله تعالى .
وقد يشعر بذلك المعنى وبالاختصاص تقديم الضمير المتصل إنا ، وهذا المقام مقام تعظيم واختصاص لله تعالى سبحانه ، ومثله { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر } [ الكوثر : 1 ] ، وقوله : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً } [ نوح : 1 ] ، { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } [ ق : 43 ] ، وإنزال القرآن منه عظمى .
وقد دل تعظيم المنة وتعظيم الله سبحانه في قوله : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ } [ ص : 29 ] ، فقال : كتاب أنولناه بضمير التعظيم ، ثم قال في وصف الكتاب : مبارك .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنصيص على أنه للتعظيم عند
الكلام على آية ص هذه { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } [ ص :
29 ] .
والواقع أنه جاءت الضمائر بالنسبة إلى الله تعالى بصيغ الجمع للتعظيم وبصيغ
الإفراد ، فمن صيغ الجمع ما تقدم ، ومن صيغ الإفراد قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، وقوله : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] ، وقوله : { إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] .
ويلاحظ في صيغ الإفراد : أنها في مواضع التعظيم والإجلال ، كالأول في مقام خلق البشر من طين ، ولا يقدر عليه إلا الله .
والثاني : في مقام أنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة ، وهذا لا يكون إلا لله
سبحانه ، فسواء جيء بضمير بصيغة الجمع أو بالإفراد ، ففيها كلها تعظيم لله
سبحانه وتعالى سواء بنصها ، وأصل الوضع أو بالقرينة في السياق .
ثم اختلف في المُنزلِ ليلة القدر ، هل هو الكل أو البعض؟
فقيل : وهو رأي الجمهور أنه أوائل تلك السورة فقط أي بداية الوحي بالقرآن ، وهو مروي عن ابن عباس ، قال : « ثم تتالى نزول الوحي ، بعد ذلك وكان بين أوله وآخره عشرون سنة » .
وقيل : المنزل في تلك الليلة ، هو جميع القرآن
جملة واحدة ، وكله إلى سماء الدنيا ، ثم صار ينزل على رسول الله صلى الله
عليه وسلم منجماً حسب الوقائع .
وهذا الأخير هو رأي الجمهور كما قدمنا ، وقد اختاره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] ، وحكاه الألوسي وحكى عليه الإجماع .
وعن ابن حجر في فتح الباري ، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول يجمع
فيه بين القولين الأخيرين ، وهو أنه لا منافاة بين القولين ، ويمكن الجمع
بينهما ، بأن يكون نزل جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، وبدء نزول
أوله { اقرأ باسم رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] ، في ليلة القدر .
وقد أثير حول هذه المسألة جدال ونقاش كلامي حول كيفية نزول القرآن ،
وأدخلوا فيها القول بخلق القرآن ، وأن جبريل نقله من اللوح المحفوظ ، وأن
الله لم يتكلم به ، عند نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد سئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ذلك ، وكتب جوابه وطبع ،
فكان كافياً . وقد نقل فيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبين أن الله
تعالى تكلم به عند وحيه ، ورد على كل شبهة في ذلك .
والواقع أنه لا تعارض كما تقدم ، بين كوه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى
السماء الدنيا جملة ، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً ، لأن
كونه في اللوح المحفوظ ، فإن اللوح فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم
القيامة ، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه
وسلم .
ونزوله جملة إلى سماء الدنيا ، فهو بمثالة نقل جزء مما في اللوح وهو جملة
القرآن ، فأصبح القرآن موجوداً في كل من اللوح المحفوظ كغيره مما هو فيه ،
وموجوداً في سماء الدنيا ثم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً .
ومعلوم أنه الآن هو أيضاً موجود في اللوح المحفوظ ، لم يخل منه اللوح ، وقد يستدل لإنزاله جملة ثم تنزيله منجماً بقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] لأن نزل بالتضعيف تدل على التكرار كقوله : { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] ، أي في كل ليلة قدر .
وقد جاء { أَنزَلْنَاهُ } ، فتدل على الجملة .
وقد بينت السنة تفصيل تنزيله مفرقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حديث أبي هريرة وغيره أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا
قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله : كأنه
سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم . قالوا : ماذا قال
ربكم؟ قالوا : الحق ، وهو العلي الكبير » الحديث في صحيح البخاري .
وفي أبي داود وغيره « إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان » .
وكلما أراد الله إنزال شيء منه تكلم سبحانه بما أراد أن ينزله ، فيسمعه
جبريل عليه السلام عن الله تعالى . ولا منافاة بين تلك الحالات الثلاث .
والله تعالى أعلم .
وقد قدمنا الكلام على صور كيفية نزول وتلقي الرسول صلى الله عليه وسلم للوحي .
وقيل : معنى { أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } ، أي أنزلنا القرآن في شأن ليلة القدر تعظيماً لها ، فلم تكن ظرفاً على هذا الوجه .
والواقع : أن هذا القول وإن كان من حيث الأسلوب ممكناً إلا أن ما بعده يغني
عنه ، لأن عظام ليلة القدر وبيان منزلتها قد نزل فيها قرآن فعلاً ، وهو ما
بعدها مباشرة في قوله : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [ القدر : 2-3 ] ، إلى آخر السورة .
وعليه ، فيكون أول السورة في شأن إنزال القرآن وبيان ظرف إنزاله ، وآخر السورة في ليلة القدر وبيان منزلتها .
وقد ذكرت ليلة القدر مبهمة ، ولكن جاء في القرآن ما يعين الشهر التي هي فيه ، وهو شهر رمضان لقوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان بيان ذلك ، وأنها
الليلة التي فيها يبرم كل أمر حكيم ، وليست ليلة النصف من شعبان كما يزعم
بعض الناس .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان الحكمة من إنزاله مفرقاً عند قوله تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب } [ ص : 29 ] .
القدر : الرفعة ، والقدر : بمعنى المقدار .
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء ووجه تسميتها ليلة القدر فيه وجهان :
أحدهما : أن معنى القدر الشرف والرفعة ، كما تقول العرب : فلان ذو قدر ، أي رفعة وشرف .
الوجع الثاني : أنها سميت ليلة القدر ، لأن الله تعالى يقدر فيها وقائع السنة ، ويدل لهذا التفسير الأخير قوله تعالى : { إِنَّآ
أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ } [ الدخان : 3-5 ] .
وهذا المعنى قد ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان من الأضواء
وعلى هذا يكون القرآن موجوداً في اللوح المحفوظ حينما جرى القلم بما هو
كائن وما سيكون ، ثم جرى نقله إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر ، ثم نزل
منجماً في عشرين سنة .
الضمير في أنزلناه للقرآن قطعاً .
وحكى الألوسي عليه الإجماع ، وقال : ما يفيد أن هناك قولاً ضعيفاً لا يعتبر من أنه لجبريل .
وما قاله عن الضعف لهذا القول ، يشهد له السياق ، وهو قوله تعالى : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا } [ القدر : 4 ] .
والمشهور : أن الروح هنا هو جبريل عليه السلام ، فيكون الضمير في أنزلنا
لغيره ، وجيء بضمير الغيبة ، تعظيماً لشأن القرآن ، وإشعاراً بعلو قدره .
وقد يقال : ذكر سورة القدر قبلها مشعرة به في قوله : { اقرأ باسم رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] ، ثم جاءت { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ }
[ القدر : 1 ] ، أي القرآن المقروء ، والضمير المتصل في إنا أنزلناه
مستعمل للجمع وللتعظيم ، ومثلها نحن ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، والمراد بهما هنا التعظيم قطعاً لاستحالة التعدد أو إرادة معنى الجمع .
فقد صرح في موضع آخر باللفظ الصريح في قوله تعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] ، والمراد به القرآن قطعاً ، فدل على أن المراد بتلك الضمائر تعظيم الله تعالى .
وقد يشعر بذلك المعنى وبالاختصاص تقديم الضمير المتصل إنا ، وهذا المقام مقام تعظيم واختصاص لله تعالى سبحانه ، ومثله { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر } [ الكوثر : 1 ] ، وقوله : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً } [ نوح : 1 ] ، { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } [ ق : 43 ] ، وإنزال القرآن منه عظمى .
وقد دل تعظيم المنة وتعظيم الله سبحانه في قوله : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ } [ ص : 29 ] ، فقال : كتاب أنولناه بضمير التعظيم ، ثم قال في وصف الكتاب : مبارك .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنصيص على أنه للتعظيم عند
الكلام على آية ص هذه { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } [ ص :
29 ] .
والواقع أنه جاءت الضمائر بالنسبة إلى الله تعالى بصيغ الجمع للتعظيم وبصيغ
الإفراد ، فمن صيغ الجمع ما تقدم ، ومن صيغ الإفراد قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، وقوله : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] ، وقوله : { إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] .
ويلاحظ في صيغ الإفراد : أنها في مواضع التعظيم والإجلال ، كالأول في مقام خلق البشر من طين ، ولا يقدر عليه إلا الله .
والثاني : في مقام أنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة ، وهذا لا يكون إلا لله
سبحانه ، فسواء جيء بضمير بصيغة الجمع أو بالإفراد ، ففيها كلها تعظيم لله
سبحانه وتعالى سواء بنصها ، وأصل الوضع أو بالقرينة في السياق .
ثم اختلف في المُنزلِ ليلة القدر ، هل هو الكل أو البعض؟
فقيل : وهو رأي الجمهور أنه أوائل تلك السورة فقط أي بداية الوحي بالقرآن ، وهو مروي عن ابن عباس ، قال : « ثم تتالى نزول الوحي ، بعد ذلك وكان بين أوله وآخره عشرون سنة » .
وقيل : المنزل في تلك الليلة ، هو جميع القرآن
جملة واحدة ، وكله إلى سماء الدنيا ، ثم صار ينزل على رسول الله صلى الله
عليه وسلم منجماً حسب الوقائع .
وهذا الأخير هو رأي الجمهور كما قدمنا ، وقد اختاره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] ، وحكاه الألوسي وحكى عليه الإجماع .
وعن ابن حجر في فتح الباري ، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول يجمع
فيه بين القولين الأخيرين ، وهو أنه لا منافاة بين القولين ، ويمكن الجمع
بينهما ، بأن يكون نزل جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، وبدء نزول
أوله { اقرأ باسم رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] ، في ليلة القدر .
وقد أثير حول هذه المسألة جدال ونقاش كلامي حول كيفية نزول القرآن ،
وأدخلوا فيها القول بخلق القرآن ، وأن جبريل نقله من اللوح المحفوظ ، وأن
الله لم يتكلم به ، عند نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد سئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ذلك ، وكتب جوابه وطبع ،
فكان كافياً . وقد نقل فيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبين أن الله
تعالى تكلم به عند وحيه ، ورد على كل شبهة في ذلك .
والواقع أنه لا تعارض كما تقدم ، بين كوه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى
السماء الدنيا جملة ، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً ، لأن
كونه في اللوح المحفوظ ، فإن اللوح فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم
القيامة ، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه
وسلم .
ونزوله جملة إلى سماء الدنيا ، فهو بمثالة نقل جزء مما في اللوح وهو جملة
القرآن ، فأصبح القرآن موجوداً في كل من اللوح المحفوظ كغيره مما هو فيه ،
وموجوداً في سماء الدنيا ثم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً .
ومعلوم أنه الآن هو أيضاً موجود في اللوح المحفوظ ، لم يخل منه اللوح ، وقد يستدل لإنزاله جملة ثم تنزيله منجماً بقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] لأن نزل بالتضعيف تدل على التكرار كقوله : { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] ، أي في كل ليلة قدر .
وقد جاء { أَنزَلْنَاهُ } ، فتدل على الجملة .
وقد بينت السنة تفصيل تنزيله مفرقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حديث أبي هريرة وغيره أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا
قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله : كأنه
سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم . قالوا : ماذا قال
ربكم؟ قالوا : الحق ، وهو العلي الكبير » الحديث في صحيح البخاري .
وفي أبي داود وغيره « إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان » .
وكلما أراد الله إنزال شيء منه تكلم سبحانه بما أراد أن ينزله ، فيسمعه
جبريل عليه السلام عن الله تعالى . ولا منافاة بين تلك الحالات الثلاث .
والله تعالى أعلم .
وقد قدمنا الكلام على صور كيفية نزول وتلقي الرسول صلى الله عليه وسلم للوحي .
وقيل : معنى { أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } ، أي أنزلنا القرآن في شأن ليلة القدر تعظيماً لها ، فلم تكن ظرفاً على هذا الوجه .
والواقع : أن هذا القول وإن كان من حيث الأسلوب ممكناً إلا أن ما بعده يغني
عنه ، لأن عظام ليلة القدر وبيان منزلتها قد نزل فيها قرآن فعلاً ، وهو ما
بعدها مباشرة في قوله : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [ القدر : 2-3 ] ، إلى آخر السورة .
وعليه ، فيكون أول السورة في شأن إنزال القرآن وبيان ظرف إنزاله ، وآخر السورة في ليلة القدر وبيان منزلتها .
وقد ذكرت ليلة القدر مبهمة ، ولكن جاء في القرآن ما يعين الشهر التي هي فيه ، وهو شهر رمضان لقوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان بيان ذلك ، وأنها
الليلة التي فيها يبرم كل أمر حكيم ، وليست ليلة النصف من شعبان كما يزعم
بعض الناس .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان الحكمة من إنزاله مفرقاً عند قوله تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب } [ ص : 29 ] .
القدر : الرفعة ، والقدر : بمعنى المقدار .
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء ووجه تسميتها ليلة القدر فيه وجهان :
أحدهما : أن معنى القدر الشرف والرفعة ، كما تقول العرب : فلان ذو قدر ، أي رفعة وشرف .
الوجع الثاني : أنها سميت ليلة القدر ، لأن الله تعالى يقدر فيها وقائع السنة ، ويدل لهذا التفسير الأخير قوله تعالى : { إِنَّآ
أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ } [ الدخان : 3-5 ] .
وهذا المعنى قد ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان من الأضواء
وعلى هذا يكون القرآن موجوداً في اللوح المحفوظ حينما جرى القلم بما هو
كائن وما سيكون ، ثم جرى نقله إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر ، ثم نزل
منجماً في عشرين سنة .