قال شيخ الاسلام " ... وكذلك قصة سجود الملائكة كلهم أجمعين لآدم ولعن الممتنع عن السجود له وهذا تشريف وتكريم له .
وقد قال بعض الأغبياء : إن السجود إنما كان لله وجعل آدم قبلة لهم يسجدون
إليه كما يسجد إلى الكعبة ؛ وليس في هذا تفضيل له عليهم ؛ كما أن السجود
إلى الكعبة ليس فيه تفضيل للكعبة على المؤمن عند الله بل حرمة المؤمن عند
الله أفضل من حرمتها وقالوا : السجود لغير الله محرم بل كفر .
والجواب : أن السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه بإجماع من يسمع قوله ويدل على ذلك وجوه : - أحدها : قوله لآدم : ولم يقل : إلى آدم وكل حرف له معنى ومن التمييز في اللسان أن يقال : سجدت له وسجدت إليه , كما قال تعالى : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون } وقال { ولله يسجد من في السماوات والأرض}
وأجمع المسلمون على : أن السجود لغير الله محرم وأما الكعبة فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ثم صلى إلى الكعبة وكان يصلي إلى
عنزة ولا يقال لعنزة وإلى عمود شجرة ولا يقال لعمود ولا لشجرة ؛ والساجد
للشيء يخضع له بقلبه ويخشع له بفؤاده ؛ وأما الساجد إليه فإنما يولي وجهه
وبدنه إليه ظاهرا كما يولي وجهه إلى بعض النواحي إذا أمه كما قال : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } .
والثاني : أن آدم لو كان قبلة لم
يمتنع إبليس من السجود أو يزعم أنه خير منه . فإن القبلة قد تكون أحجارا
وليس في ذلك تفضيل لها على المصلين إليها وقد يصلي الرجل إلى عنزة وبعير
وإلى رجل ولا يتوهم أنه مفضل بذلك فمن أي شيء فر الشيطان ؟ هذا هو العجب
العجيب
والثالث : أنه لو جعل آدم قبلة في سجدة
واحدة لكانت القبلة وبيت المقدس أفضل منه بآلاف كثيرة إذ جعلت قبلة دائمة
في جميع أنواع الصلوات ؛ فهذه القصة الطويلة التي قد جعلت علما له ومن أفضل
النعم عليه وجاءت إلى العالم بأن الله رفعه بها وامتن عليه ليس فيها أكثر
من أنه جعله كالكعبة في بعض الأوقات مع أن بعض ما أوتيه من الإيمان والعلم
والقرب من الرحمن أفضل بكثير من الكعبة ؛ والكعبة إنما وضعت له ولذريته ؛
أفيجعل من جسيم النعم عليه أو يشبه به في شيء نزرا قليلا جدا هذا ما لا
يقوله عاقل .
وأما قولهم : لا يجوز السجود لغير الله .
فيقال لهم : إن قيلت هذه الكلمة على الجملة فهي كلمة عامة تنفي بعمومها
جواز السجود لآدم وقد دل دليل خاص على أنهم سجدوا له والعام لا يعارض ما
قابله من الخاص .
وثانيها : أن السجود لغير الله حرام علينا وعلى الملائكة أما الأول فلا دليل وأما الثاني فما الحجة فيه ؟
وثالثها أنه حرام أمر الله به أو حرام لم يأمر به
والثاني حق ولا شفاء فيه وأما الأول فكيف يمكن أن يحرم بعد أن أمر الله تعالى به ؟
ورابعها : أبو يوسف وإخوته خروا له
سجدا ويقال : كانت تحيتهم ؛ فكيف يقال : إن السجود حرام مطلقا ؟ وقد كانت
البهائم تسجد للنبي صلى الله عليه وسلم والبهائم لا تعبد الله . فكيف يقال
يلزم من السجود لشيء عبادته ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم . { ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها } لعظم حقه عليها ومعلوم أنه لم يقل : لو كنت آمرا أحدا أن يعبد .
وسابعها : وفيه التفسير أن يقال : أما
الخضوع والقنوت بالقلوب والاعتراف بالربوبية والعبودية فهذا لا يكون على
الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى وحده وهو في غيره ممتنع باطل .
وأما السجود فشريعة من الشرائع إذ أمرنا الله تعالى أن نسجد له ولو أمرنا
أن نسجد لأحد من خلقه غيره لسجدنا لذلك الغير طاعة لله عز وجل إذ أحب أن
نعظم من سجدنا له ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب ألبتة فعله فسجود
الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له وقربة يتقربون بها إليه وهو لآدم تشريف
وتكريم وتعظيم وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام ألا ترى أن يوسف لو سجد
لأبويه تحية لم يكره له .
ولم يأت أن آدم سجد للملائكة بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إلا لله رب
العالمين ولعل ذلك - والله أعلم بحقائق الأمور - لأنهم أشرف الأنواع وهم
صالحو بني آدم ليس فوقهم أحد يحسن السجود له إلا لله رب العالمين وهم أكفاء
بعضهم لبعض فليس لبعضهم مزية بقدر ما يصلح له السجود ومن سواهم فقد سجد
لهم من الملائكة للأب الأقوم ومن البهائم للابن الأكرم .
وأما قولهم : لم يسبق لآدم ما يوجب الإكرام له بالسجود
فلغو من القول هذي به بعض من اعتزل الجماعة فإن نعم الله تعالى وأياديه
وآلائه على عباده ليست بسبب منهم ولو كانت بسبب منهم فهو المنعم بذلك السبب
فهو المنعم به ويشكرهم على نعمه ؛ وهو أيضا باطل على قاعدتهم لا حاجة لنا
إلى بيانه هاهنا .
وقوله : { وله يسجدون } فإنه إن سلم أنه يفيد الحصر فالقصد منه
- والله أعلم - الفضل بينهم وبين البشر الذين يشركون بربهم ويعبدون غيره
فأخبرهم أن الملائكة لا تعبد غيره ثم هذا عام وتلك الآية خاصة فيستثنى آدم
ثم يقال : السجود على ضربين سجود عبادة محضة وسجود تشريف فأما الأول فلا
يكون إلا لله وأما الثاني فلم قلت إنه كذلك ؟ والآية محمولة على الأول
توفيقا بين الدلائل
وقد قال بعض الأغبياء : إن السجود إنما كان لله وجعل آدم قبلة لهم يسجدون
إليه كما يسجد إلى الكعبة ؛ وليس في هذا تفضيل له عليهم ؛ كما أن السجود
إلى الكعبة ليس فيه تفضيل للكعبة على المؤمن عند الله بل حرمة المؤمن عند
الله أفضل من حرمتها وقالوا : السجود لغير الله محرم بل كفر .
والجواب : أن السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه بإجماع من يسمع قوله ويدل على ذلك وجوه : - أحدها : قوله لآدم : ولم يقل : إلى آدم وكل حرف له معنى ومن التمييز في اللسان أن يقال : سجدت له وسجدت إليه , كما قال تعالى : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون } وقال { ولله يسجد من في السماوات والأرض}
وأجمع المسلمون على : أن السجود لغير الله محرم وأما الكعبة فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ثم صلى إلى الكعبة وكان يصلي إلى
عنزة ولا يقال لعنزة وإلى عمود شجرة ولا يقال لعمود ولا لشجرة ؛ والساجد
للشيء يخضع له بقلبه ويخشع له بفؤاده ؛ وأما الساجد إليه فإنما يولي وجهه
وبدنه إليه ظاهرا كما يولي وجهه إلى بعض النواحي إذا أمه كما قال : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } .
والثاني : أن آدم لو كان قبلة لم
يمتنع إبليس من السجود أو يزعم أنه خير منه . فإن القبلة قد تكون أحجارا
وليس في ذلك تفضيل لها على المصلين إليها وقد يصلي الرجل إلى عنزة وبعير
وإلى رجل ولا يتوهم أنه مفضل بذلك فمن أي شيء فر الشيطان ؟ هذا هو العجب
العجيب
والثالث : أنه لو جعل آدم قبلة في سجدة
واحدة لكانت القبلة وبيت المقدس أفضل منه بآلاف كثيرة إذ جعلت قبلة دائمة
في جميع أنواع الصلوات ؛ فهذه القصة الطويلة التي قد جعلت علما له ومن أفضل
النعم عليه وجاءت إلى العالم بأن الله رفعه بها وامتن عليه ليس فيها أكثر
من أنه جعله كالكعبة في بعض الأوقات مع أن بعض ما أوتيه من الإيمان والعلم
والقرب من الرحمن أفضل بكثير من الكعبة ؛ والكعبة إنما وضعت له ولذريته ؛
أفيجعل من جسيم النعم عليه أو يشبه به في شيء نزرا قليلا جدا هذا ما لا
يقوله عاقل .
وأما قولهم : لا يجوز السجود لغير الله .
فيقال لهم : إن قيلت هذه الكلمة على الجملة فهي كلمة عامة تنفي بعمومها
جواز السجود لآدم وقد دل دليل خاص على أنهم سجدوا له والعام لا يعارض ما
قابله من الخاص .
وثانيها : أن السجود لغير الله حرام علينا وعلى الملائكة أما الأول فلا دليل وأما الثاني فما الحجة فيه ؟
وثالثها أنه حرام أمر الله به أو حرام لم يأمر به
والثاني حق ولا شفاء فيه وأما الأول فكيف يمكن أن يحرم بعد أن أمر الله تعالى به ؟
ورابعها : أبو يوسف وإخوته خروا له
سجدا ويقال : كانت تحيتهم ؛ فكيف يقال : إن السجود حرام مطلقا ؟ وقد كانت
البهائم تسجد للنبي صلى الله عليه وسلم والبهائم لا تعبد الله . فكيف يقال
يلزم من السجود لشيء عبادته ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم . { ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها } لعظم حقه عليها ومعلوم أنه لم يقل : لو كنت آمرا أحدا أن يعبد .
وسابعها : وفيه التفسير أن يقال : أما
الخضوع والقنوت بالقلوب والاعتراف بالربوبية والعبودية فهذا لا يكون على
الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى وحده وهو في غيره ممتنع باطل .
وأما السجود فشريعة من الشرائع إذ أمرنا الله تعالى أن نسجد له ولو أمرنا
أن نسجد لأحد من خلقه غيره لسجدنا لذلك الغير طاعة لله عز وجل إذ أحب أن
نعظم من سجدنا له ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب ألبتة فعله فسجود
الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له وقربة يتقربون بها إليه وهو لآدم تشريف
وتكريم وتعظيم وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام ألا ترى أن يوسف لو سجد
لأبويه تحية لم يكره له .
ولم يأت أن آدم سجد للملائكة بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إلا لله رب
العالمين ولعل ذلك - والله أعلم بحقائق الأمور - لأنهم أشرف الأنواع وهم
صالحو بني آدم ليس فوقهم أحد يحسن السجود له إلا لله رب العالمين وهم أكفاء
بعضهم لبعض فليس لبعضهم مزية بقدر ما يصلح له السجود ومن سواهم فقد سجد
لهم من الملائكة للأب الأقوم ومن البهائم للابن الأكرم .
وأما قولهم : لم يسبق لآدم ما يوجب الإكرام له بالسجود
فلغو من القول هذي به بعض من اعتزل الجماعة فإن نعم الله تعالى وأياديه
وآلائه على عباده ليست بسبب منهم ولو كانت بسبب منهم فهو المنعم بذلك السبب
فهو المنعم به ويشكرهم على نعمه ؛ وهو أيضا باطل على قاعدتهم لا حاجة لنا
إلى بيانه هاهنا .
وقوله : { وله يسجدون } فإنه إن سلم أنه يفيد الحصر فالقصد منه
- والله أعلم - الفضل بينهم وبين البشر الذين يشركون بربهم ويعبدون غيره
فأخبرهم أن الملائكة لا تعبد غيره ثم هذا عام وتلك الآية خاصة فيستثنى آدم
ثم يقال : السجود على ضربين سجود عبادة محضة وسجود تشريف فأما الأول فلا
يكون إلا لله وأما الثاني فلم قلت إنه كذلك ؟ والآية محمولة على الأول
توفيقا بين الدلائل