عقبة بن نافع
كان والده من المسلمين الأوائل الذين
جاهدوا في سبيل الله، فلم يكن غريبًا أن يشب (عقبة بن نافع بن عبد القيس
الفهري) وحب الجهاد يجري في عروقه، وتمنى أن يكون أحد أبطال مكة وفرسانها،
تعلم المبارزة، وتدرب مع الشباب المسلم على حمل السلاح، وازداد عقبة حبًّا
واشتياقًا للجهاد من سماعه لقصص البطولة التي قام بها المسلمون أثناء
حروبهم ضد أعداء الإسلام، حكاها له ابن خالته
(عمرو بن العاص).
ولما
بلغ عقبة مبلغ الشباب أصبح يجيد المبارزة وكل فنون الحرب والقتال، منتظرًا
اللحظة المواتية ليدافع عن دين الله، وجاءت الفرصة عندما أسند الخليفة
العادل
(عمر بن الخطاب) فتح بعض بلاد الشام إلى عمرو بن العاص، وجعل عمرو
(عقبة
بن نافع) في مقدمة الجيش وهو لم يبلغ بعد سن العشرين، وكان عقبة عند حسن
ظن عمرو بن العاص، فقد أظهر مقدرة بطولية على اختراق صفوف
الأعداء، ونجح نجاحًا كبيرًا في أول امتحان له في الجهاد في سبيل الله.
وفي
أثناء فتح عمرو بن العاص لمصر أظهر عقبة تفوقًا ملحوظًا، واستطاع بمهارته
الحربية أن يساعد عمرو بن العاص في هزيمة الروم، وكان كل يوم يمر على عقبة
يزداد حبًّا للجهاد في سبيل الله، وشغفًا بنشر دين الإسلام في كل بقاع
الأرض؛ حتى ينعم الناس بالأمن والعدل والرخاء، وظل عقبة بن نافع جنديًّا في
صفوف المجاهدين دون تميز عن بقية الجنود، على الرغم من براعته في القتال
وشجاعته التي ليس لها حدود في مقاتلة أعدائه، إلى أن كلفه عمرو بن العاص
ذات يوم أن يتولى قيادة مجموعة محدودة من الجنود يسير بهم لفتح فزان
(مجموعة الواحات الواقعة في الصحراء الكبرى شمال إفريقيا) .
وانطلق عقبة
إلى (فزان) وكله أمل ورجاء في النصر على أعدائه، وعندما وصل عقبة إليها
دارت معارك عنيفة بين البربر والمسلمين أظهر فيها عقبة شجاعة نادرة حتى
فرَّ البربر من أمامه ورفعوا راية الاستسلام، وأراد عمرو بن العاص فتح
إفريقية
كلها، لكنه كان في حاجة إلى عدد كبير من الجنود، فبعث إلى الخليفة
عمر
بن الخطاب -رضي الله عنه- يستأذنه في فتحها، لكن الخليفة عمر -رضي الله
عنه- كان من رأيه الانتظار عدة سنوات حتى يرسخ المسلمون في مصر وتثبت
إمارتهم ويزداد جيش المسلمين ويقوى عدةً وعتادًا.
انتقل عقبة -رضي الله
عنه- إلى برقة (منطقة في ليبيا) بأمر من عمرو بن العاص رضي الله عنه ؛
لِيُعَلِّمَ المسلمين فيها أمور دينهم، وينشر الإسلام في هذه
المنطقة،
ومكث -رضي الله عنه- مخلصًا في نشر نور الإسلام، وتدعيم شعائره في نفوس
الذين أقبلوا على تعلم لغة القرآن .. فأسلم على يديه كثير منهم، وأحبوه حتى
استطاع عقبة أن يكتسب خبرة واسعة بكل أحوال البربر.
وتمر الأيام
والسنون وعقبة يواصل جهاده في سبيل الله، حتى كانت سنة (40هـ) وهي السنة
التي تولي فيها معاوية بن أبي سفيان الخلافة، وعاد عمرو بن العاص واليًا
على مصر، وحين أراد عمرو بن العاص أن يستكمل الفتوحات الإسلامية التي كان
قد بدأها في برقة رأى أن خير من يقوم بهذه الفتوحات عقبة بن نافع؛ لإقامته
بين البربر لسنوات عديدة، فأصبح من أكثر الناس معرفة بحياة البربر وعاداتهم
وتقاليدهم.
وبدأ
عقبة الجهاد في سبيل الله، ونشر الإسلام بين قبائل البربر، وكانت برقة
آنذاك قد تغيرت معالمها بعد أن اعتنق أهلها الدين الإسلامي، وانتشرت
المساجد في كل مكان فيها، وظل عقبة واليًا على برقة يدعو إلى الإسلام إلى
أن جاءته رسالة من الخليفة يخبره فيها بأنه قد اختاره لفتح إفريقية وأن
جيشًا كبيرًا في الطريق إليه، ووصل
الجيش الذي أرسله الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وكان يبلغ عدده عشرة آلاف
جندي، وكان في انتظاره جيش آخر من البربر الذين أسلموا
فحسن إسلامهم.
انطلق
عقبة بجيشه المكون من العرب والبربر يفتتح البلاد، ويقاتل القبائل التي
ارتدت عن الإسلام دون أن يقتل شيخًا كبيرًا، ولا طفلاً، ولا امرأة، بل كان
يعاملهم
معاملة طيبة، حسب تعاليم الإسلام في الحروب، واستطاع عقبة أن
يستولي على منطقة (ودان) وبعدها قام بالسيطرة على (فزان) ثم اتجه ناحية
مدينة (خاوار) التي كانت تقع على قمة جبل شديد الارتفاع، فكان من الصعب على
الجيش
أن يتسلقه، فوصل عقبة إلى أسوار المدينة، ولكن أهلها دخلوا حصونهم فحاصرها حصارًا شديدًا.
وهنا
تظهر عبقرية عقبة الحربية، فحين علم أن دخول المدينة أمر صعب، تراجع بجيشه
مبتعدًا عن المدينة، حتى ظن أهلها أن جيش المسلمين قد انسحب، ففتحوا أبواب
مدينتهم آمنين، ولم يكن تراجع عقبة إلا حيلة من حيله الحربية، فقد علم أن
هناك طريقًا آخر للوصول إلى هذه المدينة فسار عقبة فيه، ولكنه فوجيء بأن
هذا الطريق لم يسلكه أحد من قبل وليس فيه عشب ولا ماء، وكاد جيش عقبة يموت
عطشًا، فاتجه إلى الله يسأله ويدعوه أن يخرجه من هذا المأزق الخطير.
فما كاد ينتهي من دعائه حتى رأى فرسه يضرب الأرض برجليه بحثًا عن الماء من
شدة العطش، وحدث ما لم يكن في الحسبان، فقد استجاب الله دعاء عقبة وانفجر
الماء من تحت أقدام الفرس، وكبَّر عقبةُ ومعه المسلمون، وأخذوا يشربون من
هذا الماء العذب، ولما شرب الجيش وارتوى؛ أمر عقبة جنوده بأن يحفروا سبعين
حفرة في هذا المكان علَّهم يجدون ماء عذبًا، وتحققت قدرة الله وأخذ الماء
يتفجر من كل حفرة يحفرها المسلمون، ولما سمع البربر المقيمون بالقرب من هذه
المنطقة بقصة الماء أقبلوا من كل جهة يشاهدون ما حدث، واعتنق عدد كبير
منهم الإسلام.
وانطلق عقبة ومعه جنوده إلى مدينة (خاوار) ودخلوها ليلاً،
ولما عاد عقبة فكر في بناء مدينة يعسكر فيها المسلمون، فاختار مكانًا كثيف
الأشجار يسمي (قمونية)
جيد التربة، نقي الهواء ليبني فيه مدينته التي أسماها فيما بعد (القيروان) فقال لأصحابه: انزلوا بسم الله.
وانشغل
عقبة ببناء مدينة القيروان عن الفتح الإسلامي، وطلب (مسلمة بن مخلد
الأنصاري) وكان واليًا على مصر والمغرب من الخليفة معاوية بن أبي سفيان عزل
عقبة وتعيين (أبي المهاجر بن دينار) وبالفعل تمَّ عزله، وفي عهد الخليفة
يزيد بن
معاوية عاد عقبة إلى قيادة الجيش في إفريقية وأقام عقبة عدة
أيام في القيروان يعيد تنظيم الجيش حتى أصبح على أتم الاستعداد للغزو
والفتح، ثم انطلق إلى مدينة الزاب
(وهي المدينة التي يطلق عليها الآن اسم قسطنطينة بالجزائر) يسكنها الروم
والبربر،
والتحم الجيشان، وأظهر عقبة في هذه المعركة شجاعة نادرة، فكان يحصد رءوس
أعدائه حصدًا، أما الجنود المسلمون فقد استبسلوا في القتال حتى تم لهم
النصر بإذن الله تعالى، واستراح عقبة بن نافع وجيشه أيامًا قليلة، ثم أمر
الجيش بالانطلاق إلى (طنجة) في المغرب الأقصى فدخلوها دون قتال، حيث خرج
ملكها (يليان) لاستقبال جيش المسلمين وأكرمهم ووافق على كل مطالبهم.
وظل
عقبة يجاهد في سبيل الله يتنقل من غزو إلى غزو ومن فتح إلى فتح حتى وصل
إلى شاطئ المحيط الأطلنطي، فنزل بفرسه إلى الماء، وتطلع إلى السماء وقال:
يا رب .. لولا هذا المحيط لمضيت في البلاد مدافعًا عن دينك، ومقاتلاً من كفر بك وعَبَدَ غيرك..
وظن
القائد البطل عقبة بن نافع أن البربر مالوا إلى الاستسلام وأنهم ليس لديهم
استعداد للحرب مرة أخرى، فسبقه جيشه إلى القيروان، وبقي هو مع ثلاثمائة
مقاتل في مدينة طنجة ليتم فتح عدد من الحاميات الرومية، ولما علم بعض أعداء
الإسلام من البربر أن عقبة ليس معه إلا عدد قليل من رجاله، وجدوا الفرصة
ملائمة للهجوم عليه، وكان على رأس هؤلاء البربر (الكاهنة) ملكة جبال أوراس
(سلسلة جبال بالجزائر) وفوجئ البطل عقبة بن نافع عند بلدة (تهودة) بآلاف
الجنود من البربر يهجمون عليه فاندفع بفرسه متقدمًا جنوده يضرب الأعداء
بسيفه، متمنيًا الشهادة في سبيل الله، حتى أحاط البربر به وجنوده من كل
جانب، فاستشهدوا جميعًا، واستشهد معهم (عقبة بن نافع) فرحمه الله رحمة
واسعة، جزاء ما قدم للإسلام
والمسلمين.
وكان استشهاد عقبة في مدينة
تهودة سنة 64هـ (من أرض الزاب) بعد أن خاض كثيرًا من المعارك، وذاق حلاوة
النصر، ورفع راية الإسلام، ويُعَد استشهاد عقبة هزيمة عسكرية لكنه كان
نصرًا رائعًا للإيمان، وتناقلت الألسن ملحمة عقبة بن نافع الفارس المؤمن
الذي حمل رسالة دينه إلى أقصى المعمورة، وأبى إلا أن يستشهد بعد أن حمل
راية دينه فوق الثمانية آلاف كيلو متر.
كان والده من المسلمين الأوائل الذين
جاهدوا في سبيل الله، فلم يكن غريبًا أن يشب (عقبة بن نافع بن عبد القيس
الفهري) وحب الجهاد يجري في عروقه، وتمنى أن يكون أحد أبطال مكة وفرسانها،
تعلم المبارزة، وتدرب مع الشباب المسلم على حمل السلاح، وازداد عقبة حبًّا
واشتياقًا للجهاد من سماعه لقصص البطولة التي قام بها المسلمون أثناء
حروبهم ضد أعداء الإسلام، حكاها له ابن خالته
(عمرو بن العاص).
ولما
بلغ عقبة مبلغ الشباب أصبح يجيد المبارزة وكل فنون الحرب والقتال، منتظرًا
اللحظة المواتية ليدافع عن دين الله، وجاءت الفرصة عندما أسند الخليفة
العادل
(عمر بن الخطاب) فتح بعض بلاد الشام إلى عمرو بن العاص، وجعل عمرو
(عقبة
بن نافع) في مقدمة الجيش وهو لم يبلغ بعد سن العشرين، وكان عقبة عند حسن
ظن عمرو بن العاص، فقد أظهر مقدرة بطولية على اختراق صفوف
الأعداء، ونجح نجاحًا كبيرًا في أول امتحان له في الجهاد في سبيل الله.
وفي
أثناء فتح عمرو بن العاص لمصر أظهر عقبة تفوقًا ملحوظًا، واستطاع بمهارته
الحربية أن يساعد عمرو بن العاص في هزيمة الروم، وكان كل يوم يمر على عقبة
يزداد حبًّا للجهاد في سبيل الله، وشغفًا بنشر دين الإسلام في كل بقاع
الأرض؛ حتى ينعم الناس بالأمن والعدل والرخاء، وظل عقبة بن نافع جنديًّا في
صفوف المجاهدين دون تميز عن بقية الجنود، على الرغم من براعته في القتال
وشجاعته التي ليس لها حدود في مقاتلة أعدائه، إلى أن كلفه عمرو بن العاص
ذات يوم أن يتولى قيادة مجموعة محدودة من الجنود يسير بهم لفتح فزان
(مجموعة الواحات الواقعة في الصحراء الكبرى شمال إفريقيا) .
وانطلق عقبة
إلى (فزان) وكله أمل ورجاء في النصر على أعدائه، وعندما وصل عقبة إليها
دارت معارك عنيفة بين البربر والمسلمين أظهر فيها عقبة شجاعة نادرة حتى
فرَّ البربر من أمامه ورفعوا راية الاستسلام، وأراد عمرو بن العاص فتح
إفريقية
كلها، لكنه كان في حاجة إلى عدد كبير من الجنود، فبعث إلى الخليفة
عمر
بن الخطاب -رضي الله عنه- يستأذنه في فتحها، لكن الخليفة عمر -رضي الله
عنه- كان من رأيه الانتظار عدة سنوات حتى يرسخ المسلمون في مصر وتثبت
إمارتهم ويزداد جيش المسلمين ويقوى عدةً وعتادًا.
انتقل عقبة -رضي الله
عنه- إلى برقة (منطقة في ليبيا) بأمر من عمرو بن العاص رضي الله عنه ؛
لِيُعَلِّمَ المسلمين فيها أمور دينهم، وينشر الإسلام في هذه
المنطقة،
ومكث -رضي الله عنه- مخلصًا في نشر نور الإسلام، وتدعيم شعائره في نفوس
الذين أقبلوا على تعلم لغة القرآن .. فأسلم على يديه كثير منهم، وأحبوه حتى
استطاع عقبة أن يكتسب خبرة واسعة بكل أحوال البربر.
وتمر الأيام
والسنون وعقبة يواصل جهاده في سبيل الله، حتى كانت سنة (40هـ) وهي السنة
التي تولي فيها معاوية بن أبي سفيان الخلافة، وعاد عمرو بن العاص واليًا
على مصر، وحين أراد عمرو بن العاص أن يستكمل الفتوحات الإسلامية التي كان
قد بدأها في برقة رأى أن خير من يقوم بهذه الفتوحات عقبة بن نافع؛ لإقامته
بين البربر لسنوات عديدة، فأصبح من أكثر الناس معرفة بحياة البربر وعاداتهم
وتقاليدهم.
وبدأ
عقبة الجهاد في سبيل الله، ونشر الإسلام بين قبائل البربر، وكانت برقة
آنذاك قد تغيرت معالمها بعد أن اعتنق أهلها الدين الإسلامي، وانتشرت
المساجد في كل مكان فيها، وظل عقبة واليًا على برقة يدعو إلى الإسلام إلى
أن جاءته رسالة من الخليفة يخبره فيها بأنه قد اختاره لفتح إفريقية وأن
جيشًا كبيرًا في الطريق إليه، ووصل
الجيش الذي أرسله الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وكان يبلغ عدده عشرة آلاف
جندي، وكان في انتظاره جيش آخر من البربر الذين أسلموا
فحسن إسلامهم.
انطلق
عقبة بجيشه المكون من العرب والبربر يفتتح البلاد، ويقاتل القبائل التي
ارتدت عن الإسلام دون أن يقتل شيخًا كبيرًا، ولا طفلاً، ولا امرأة، بل كان
يعاملهم
معاملة طيبة، حسب تعاليم الإسلام في الحروب، واستطاع عقبة أن
يستولي على منطقة (ودان) وبعدها قام بالسيطرة على (فزان) ثم اتجه ناحية
مدينة (خاوار) التي كانت تقع على قمة جبل شديد الارتفاع، فكان من الصعب على
الجيش
أن يتسلقه، فوصل عقبة إلى أسوار المدينة، ولكن أهلها دخلوا حصونهم فحاصرها حصارًا شديدًا.
وهنا
تظهر عبقرية عقبة الحربية، فحين علم أن دخول المدينة أمر صعب، تراجع بجيشه
مبتعدًا عن المدينة، حتى ظن أهلها أن جيش المسلمين قد انسحب، ففتحوا أبواب
مدينتهم آمنين، ولم يكن تراجع عقبة إلا حيلة من حيله الحربية، فقد علم أن
هناك طريقًا آخر للوصول إلى هذه المدينة فسار عقبة فيه، ولكنه فوجيء بأن
هذا الطريق لم يسلكه أحد من قبل وليس فيه عشب ولا ماء، وكاد جيش عقبة يموت
عطشًا، فاتجه إلى الله يسأله ويدعوه أن يخرجه من هذا المأزق الخطير.
فما كاد ينتهي من دعائه حتى رأى فرسه يضرب الأرض برجليه بحثًا عن الماء من
شدة العطش، وحدث ما لم يكن في الحسبان، فقد استجاب الله دعاء عقبة وانفجر
الماء من تحت أقدام الفرس، وكبَّر عقبةُ ومعه المسلمون، وأخذوا يشربون من
هذا الماء العذب، ولما شرب الجيش وارتوى؛ أمر عقبة جنوده بأن يحفروا سبعين
حفرة في هذا المكان علَّهم يجدون ماء عذبًا، وتحققت قدرة الله وأخذ الماء
يتفجر من كل حفرة يحفرها المسلمون، ولما سمع البربر المقيمون بالقرب من هذه
المنطقة بقصة الماء أقبلوا من كل جهة يشاهدون ما حدث، واعتنق عدد كبير
منهم الإسلام.
وانطلق عقبة ومعه جنوده إلى مدينة (خاوار) ودخلوها ليلاً،
ولما عاد عقبة فكر في بناء مدينة يعسكر فيها المسلمون، فاختار مكانًا كثيف
الأشجار يسمي (قمونية)
جيد التربة، نقي الهواء ليبني فيه مدينته التي أسماها فيما بعد (القيروان) فقال لأصحابه: انزلوا بسم الله.
وانشغل
عقبة ببناء مدينة القيروان عن الفتح الإسلامي، وطلب (مسلمة بن مخلد
الأنصاري) وكان واليًا على مصر والمغرب من الخليفة معاوية بن أبي سفيان عزل
عقبة وتعيين (أبي المهاجر بن دينار) وبالفعل تمَّ عزله، وفي عهد الخليفة
يزيد بن
معاوية عاد عقبة إلى قيادة الجيش في إفريقية وأقام عقبة عدة
أيام في القيروان يعيد تنظيم الجيش حتى أصبح على أتم الاستعداد للغزو
والفتح، ثم انطلق إلى مدينة الزاب
(وهي المدينة التي يطلق عليها الآن اسم قسطنطينة بالجزائر) يسكنها الروم
والبربر،
والتحم الجيشان، وأظهر عقبة في هذه المعركة شجاعة نادرة، فكان يحصد رءوس
أعدائه حصدًا، أما الجنود المسلمون فقد استبسلوا في القتال حتى تم لهم
النصر بإذن الله تعالى، واستراح عقبة بن نافع وجيشه أيامًا قليلة، ثم أمر
الجيش بالانطلاق إلى (طنجة) في المغرب الأقصى فدخلوها دون قتال، حيث خرج
ملكها (يليان) لاستقبال جيش المسلمين وأكرمهم ووافق على كل مطالبهم.
وظل
عقبة يجاهد في سبيل الله يتنقل من غزو إلى غزو ومن فتح إلى فتح حتى وصل
إلى شاطئ المحيط الأطلنطي، فنزل بفرسه إلى الماء، وتطلع إلى السماء وقال:
يا رب .. لولا هذا المحيط لمضيت في البلاد مدافعًا عن دينك، ومقاتلاً من كفر بك وعَبَدَ غيرك..
وظن
القائد البطل عقبة بن نافع أن البربر مالوا إلى الاستسلام وأنهم ليس لديهم
استعداد للحرب مرة أخرى، فسبقه جيشه إلى القيروان، وبقي هو مع ثلاثمائة
مقاتل في مدينة طنجة ليتم فتح عدد من الحاميات الرومية، ولما علم بعض أعداء
الإسلام من البربر أن عقبة ليس معه إلا عدد قليل من رجاله، وجدوا الفرصة
ملائمة للهجوم عليه، وكان على رأس هؤلاء البربر (الكاهنة) ملكة جبال أوراس
(سلسلة جبال بالجزائر) وفوجئ البطل عقبة بن نافع عند بلدة (تهودة) بآلاف
الجنود من البربر يهجمون عليه فاندفع بفرسه متقدمًا جنوده يضرب الأعداء
بسيفه، متمنيًا الشهادة في سبيل الله، حتى أحاط البربر به وجنوده من كل
جانب، فاستشهدوا جميعًا، واستشهد معهم (عقبة بن نافع) فرحمه الله رحمة
واسعة، جزاء ما قدم للإسلام
والمسلمين.
وكان استشهاد عقبة في مدينة
تهودة سنة 64هـ (من أرض الزاب) بعد أن خاض كثيرًا من المعارك، وذاق حلاوة
النصر، ورفع راية الإسلام، ويُعَد استشهاد عقبة هزيمة عسكرية لكنه كان
نصرًا رائعًا للإيمان، وتناقلت الألسن ملحمة عقبة بن نافع الفارس المؤمن
الذي حمل رسالة دينه إلى أقصى المعمورة، وأبى إلا أن يستشهد بعد أن حمل
راية دينه فوق الثمانية آلاف كيلو متر.