خلافة معاوية بن أبى سفيان
(41 - 60 هـ/ 661- 679م )
عندما
أصبح معاوية خليفة للمسلمين، كانت الدولة الإسلامية تقوم على شبه الجزيرة
العربية، والشام، والعراق، ومصر، وبلاد الجزيرة، وخراسان.
أما الجهات التى وصلت إليها الجيوش الإسلامية فيما وراء تلك البلاد فإنها كانت تفتقر إلى الاستقرار.
وكان
للفتنة التى حدثت فى عهد عثمان، وما أعقبها من صراع بين على ومعاوية
أثرهما فى توقف حركة الفتوحات الكبرى، ومتابعة الجهاد فى سبيل حماية
الإسلام، وأداء رسالته، واستكمال بناء الدولة الإسلامية.
فلابد أن تعود المياه إلى مجاريها، ولابد أن تعود الفتوحات الإسلامية كما كانت، بل وأكثر مما كانت.
لقد أصبحت "دمشق" عاصمة الخلافة، ومنها تنطلق الجيوش باسم الله.
وعمل معاوية منذ توليه الخلافة على تجهيز الجيوش بشن حرب شاملة ضد "الإمبراطورية البيزنطية"، وهى "إمبراطورية الروم".
لقد
كانت مركز القوة الرئيسية المعادية للدولة الإسلامية، وطالما حاولت فى
لحظات الخلاف والفتنة أن تسترد الشام ومصر، أغلى أقاليم "الإمبراطورية
الرومانية" قبل فتح العرب لهما.
إن أراضى آسيا الصغرى التابعة لتلك
الإمبراطورية تتاخم الجهات الشمالية من بلاد الشام والعراق، وتنطلق منها
الجيوش الرومية لتخريب هذين الإقليمين العربيين ! فلماذا لا يحاول معاوية
القضاء على ذلك العدو اللدود؟ لماذا لا يستولى على القسطنطينية نفسها عاصمة
تلك الإمبراطورية ؟
أعد معاوية الحملة الأولى، وزودها بالعَدد والعُدد،
وجعل على رأسها ابنه وولى عهده يزيد، ولم يتخلف صحابة رسول الله ( عن
الجهاد فى سبيل الله، فانضموا إلى هذه الحملة متمثلين أمام أعينهم، قول
الرسول ( "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش"
[أحمد والحاكم]، آملين أن يتحقق فيهم قول الرسول (. فقد ثبت عن رسول الله
(: "أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم" [البخارى].
ولقد اشترك فى هذه
الحملة أبو أيوب الأنصارى الذى نزل النبى ( فى بيته عند الهجرة. ولم يستطع
المسلمون فتح المدينة هذه المرة، ولكن حسبهم أنهم أول جيش يغزو
القسطنطينية.
ولقد سعد معاوية باشتراك الصحابة فى هذه الغزوة، فهم خير
وبركة، فبهم تعلو راية المجاهدين. واتجهت هذه الجيوش إلى القسطنطينية حتى
فتحوا بلادًا عديدة فى آسيا الصغرى وضَربوا الحصار على العاصمة الحصينة.
وعزز معاوية هذه الغزوة بأسطول سار تحت قيادة فضالة بن عبيد الأنصارى، وسار
هذا الأسطول إلى مياه العاصمة البيزنطية.
وأثناء الحصار، مرض "أبو أيوب
الأنصارى" ولم يلبث أن توفى، ودفن جثمانه قرب أسوار القسطنطينية، وأظهر
الجنود المسلمون ضروبًا من الشجاعة أذهلت الروم، ثم انسحبت الجيوش
الإسلامية بعد ذلك تأهبًا لكرّة أخرى من الجهاد. .
حرب السنوات السبع:
بعث معاوية حملة ثانية ضد القسطنطينية؛ إنه يدرك خطر البيزنطيين، ويعمل جاهدًا على تدمير قوتهم.
لقد
دام الحصار للقسطنطينية سبع سنوات (54 - 60 هـ / 674 - 680م)، وكان
التعاون قائمًا بين القوات البحرية والأسطول الإسلامى، فقد اتخذ الأسطول
مقرّا له فى جزيرة "أرواد" قرب مياه القسطنطينية، وبمطلع الربيع، تم إحكام
الحصار، فانتقلت القوات البرية لإلقاء الحصار على أسوار العاصمة، على حين
تولت سفن الأسطول حصار الأسوار البحرية.
وباقتراب فصل الشتاء نقل
الأسطول قوات المسلمين إلى جزيرة "أرواد" حماية لها من برد تلك الجهات
القارص، ثم عاد فنقلها لمتابعة الحصار بمطلع الربيع.
ولم تستطع هذه "
الحملة الثانية" اقتحام القسطنطينية بسبب مناعة أسوارها، وما كان يطلقه
البيزنطيون على سفن الأسطول الإسلامى من نيران، فانتهى الأمر بعقد صلح بين
المسلمين والبيزنطيين مدته ثلاثون عامًا، عام 56هـ / 676م.
وبرغم عجز
هاتين الحملتين عن الاستيلاء على القسطنطينية فإنهما حققتا أهدافًا واسعة،
فلقد تخلى أباطرة الروم عن مشاريعهم وأحلامهم القديمة فى استعادة مصر
والشام، وغيرهما من الأراضى التى كانت تابعة لهم من قبل، وعلموا أن جيوش
الإسلام باتت قوية، وراحت تدق أبواب عاصمتهم بعنف.
لقد زلزلت القوات
الإسلامية إمبراطوريتهم نفسها، وشلت نشاط القوات البيزنطية، وقلمت أظفارها،
مما أتاح للأمويين بسط رقعة الدولة شرقًا وغربًا.
الجهاد فى الميدان الشرقى:
فإذا
انتقلنا من الشام إلى الميدان الشرقى نجد أن الفتوحات التى توقفت أواخر
خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضى الله عنه- قد استأنفها الأمويون،
فعندما تولى معاوية الحكم بعث الجيوش لنشر الإسلام فى مواطن جديدة سكنها
الأتراك فى بلاد ما وراء النهر، وإلى بلاد الهند التى كانت موطن حضارة من
أقدم الحضارات فى جنوب شرق آسيا.
وفى بلاد الشرق، حيث كان زياد بن أبيه
واليًا على تلك البلاد من قِبَل معاوية بن أبى سفيان، غزا المسلمون
أفغانستان فسقطت "كابول" فى أيديهم سنة 664م، وعبروا نهر جيحون، واستولوا
على بخارى سنة 674م، ثم على سمرقند سنة 676م، ثم واصلوا زحفهم حتى نهر
سيحون، وذلك على يد قادة من شباب الإسلام مثل محمد بن القاسم الثقفى وقتيبة
بن مسلم الباهلى وغيرهما.
الجهاد فى الميدان الغربى:
وانطلقت
الفتوحات الأموية منذ ولى معاوية بن أبى سفيان نحو الميدان الغربى فى
البلاد التى تلاصق مصر من جهة الغرب، وتمتد من "برقة" إلى المحيط الأطلسى،
وكانت معروفة عند العرب باسم بلاد المغرب، وكان يسكنها أناس عرفوا باسم
البربر، وهم ينتمون فى أصلهم إلى العنصر الليبى القديم الذى يرتبط مع
الأصول التى ينتمى إليها المصريون القدماء.
وكان هؤلاء البربر ينقسمون
بحسب مسكنهم إلى قسمين: حضر يزرعون الأرض ويعيشون مستقرين قرب الساحل، وعلى
سفوح الجبال الخصبة، واشتهروا باسم "البرانس". وبدو يرعون قطعانهم من
الماشية فى الصحاري، وعرفوا باسم "البتر".
عقبة فى بلاد المغرب:
وأسند
الخليفة معاوية بن أبى سفيان فتح تلك البلاد وإفريقية سنة 50هـ إلى "عقبة
بن نافع الفهرى"، الذى كان مقيمًا ببرقة منذ أن فتحها عمرو بن العاص أثناء
ولايته الأولى على مصر، فكان عقبة من أكثر الناس خبرة ودراية بأحوال هذه
البلاد، وعهد إليه معاوية بقيادة بعض السرايا الحربية التى توغلت فى شمال
إفريقية، ورأى عقبة أن أفضل الطرق لفتح بلاد المغرب يقتضى إنشاء قاعدة
للجيوش العربية فى المنطقة التى عرفها العرب باسم إفريقية، وهى جمهورية
تونس الحالية.
واستطاع عقبة تنفيذ مشروعه حين انطلق بجيوشه إلى إفريقية
واستولى عليها، لقد اختار موقعًا يلتقى عنده "البرانس" و "البتر" وأقام
عليه قاعدته التى سماها "القيروان"، وشرح عقبة أهدافه من تأسيس القيروان
قائلا لجنوده: وأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها (أى بأفريقية)
مدينة نجعل فيها عسكرًا، وتكون عز الإسلام إلى أبد الدهر.
وكان عقبة بن
نافع صادق الإيمان، فيروى أنه لما بدأ فى بناء القيروان، وكان مكانها مكان
ملتف بالشجر تأوى إليها السباع والوحوش والحيات العظام، فدعا الله تعالى
فلم يبق فيها شىء من ذلك، حتى إن السباع صارت تخرج منها تحمل أولادها،
والحيات يخرجن هاربة من أحجارهن، ولما رأى البربر ذلك أسلم منهم عدد كبير.
الأحوال الداخلية للدولة:
1- دمشق العاصمة الجديدة:
كان
على -رضى الله عنه- قد اتخذ من "الكوفة" مركزًا للخلافة، فاتخذ معاوية بن
أبى سفيان مدينة "دمشق" لتكون مقرّّا لخلافته ولآل بيته من بعده.
وكانت
هذه الخطوة تعنى أن مقر الخلافة أصبح محصنًا بقوة مادية وبشرية كبيرة،
وشجعه على ذلك أن أهل الشام برهنوا له عن ولائهم للبيت الأموى، ووقفوا إلى
جانب معاوية خلال تلك الفترة التى قامت فيها الفتنة.
وكان معاوية قد راح
يدعم علاقته بالقبائل الكبيرة منذ ولايته على الشام، فصاهر أقواها وأعزها،
وأكثرها نفرًا، وهى قبائل كلب اليمانية، فكانت زوجته ميسون من بنى بحدل من
قبيلة كلب، وأنجب منها ابنه يزيد الذى صار ولى عهد الدولة الأموية.
أما
عن موقع مدينة دمشق عاصمة الخلافة الجديدة، فقد كان موقعًا فريدًا، فهى
تقع على حافة بادية البلقاء، فى واحة الغوطة الخصيبة، ويغذيها نهر بردى،
وتحيط بها جبال شاهقة من جميع نواحيها وهى إلى جانب هذا كله متجرًا للقوافل
التجارية المعروفة باسم "رحلات الصيف".
وها هى ذى قد أصبحت بعد الفتح
الإسلامى معسكرًا للجيوش الإسلامية، وقاعدة تباشر منها مهامها الحربية،
وتستطيع مراقبة العدو الأول للدولة الإسلامية، وهو إمبراطورية الروم.
2- الوراثة فى الحكم:
وكانت
السمة الثانية التى ميزت الدولة الأموية: تطبيق مبدأ الوراثة فى الحكم،
لقد تخلى معاوية عن القواعد التى جرى عليها انتخاب الخلفاء الراشدين من
قبله، معتقدًا أن المجتمع الإسلامى بعد هذه السنين قد تطور، وأن قوى جديدة
فيه قد ظهرت تريد أن تبحث لها عن دور، وأن القبائل الكبرى التى قامت بالدور
البارز فى حركة الفتوح وقيادة الجيوش لم تعد تقبل بسهولة أن تنقاد لمن لا
ترى مصالحها عنده، وتضمن نفوذها لديه، وأن الأمصار والولايات الجديدة قد
أصبحت حريصة على جعل جهاز الحكم فيها، أو قريبًا منها، مما يهدد الدولة
الإسلامية بالتنازع والحروب الداخلية فرأى أن يستخلف ولده يزيد إذ تؤيده
قوة أهل الشام وتحميه قوة قبيلة كلب التى منها أمه وأخواله. .
وبالرغم
من العقبات التى اعترضت معاوية فإنه استطاع الحصول على البيعة لابنه يزيد
سنة 56هـ / 676م، وبهذا تم تحويل الخلافة إلى سلطة مبدأ التوريث.
وصار معاوية بذلك مؤسس الدولة الأموية، وأول من طبق الوراثة فى الخلافة الإسلامية.
منجزات معاوية:
أما
عن عهد معاوية فقد كان حافلا بالإنجازات، فقد أعاد حبات العقد التى انفرطت
فنظمها من جديد، وبعث الجيوش شرقًا وغربًا، وقضى على الفتنة، وأتاح للراية
الإسلامية أن تواصل تقدمها فى كل اتجاه، ولقن أعداء الأمة دروسًا لا تنسى!
ولقد
تحقق له ما أراد، فأقام دولة لبنى أمية وَوَرَّثَ ابنه يزيد الخلافة من
بعده، ثم أجاب داعى الله بعد حياة حافلة، وقد قال فيه رسول الله (: "اللهم
اجعله هاديًا مهديّا واهدِِ به" [أحمد والترمذى].
وقد لقى معاوية ربه، فى رجب سنة 60هـ / 680م.
(41 - 60 هـ/ 661- 679م )
عندما
أصبح معاوية خليفة للمسلمين، كانت الدولة الإسلامية تقوم على شبه الجزيرة
العربية، والشام، والعراق، ومصر، وبلاد الجزيرة، وخراسان.
أما الجهات التى وصلت إليها الجيوش الإسلامية فيما وراء تلك البلاد فإنها كانت تفتقر إلى الاستقرار.
وكان
للفتنة التى حدثت فى عهد عثمان، وما أعقبها من صراع بين على ومعاوية
أثرهما فى توقف حركة الفتوحات الكبرى، ومتابعة الجهاد فى سبيل حماية
الإسلام، وأداء رسالته، واستكمال بناء الدولة الإسلامية.
فلابد أن تعود المياه إلى مجاريها، ولابد أن تعود الفتوحات الإسلامية كما كانت، بل وأكثر مما كانت.
لقد أصبحت "دمشق" عاصمة الخلافة، ومنها تنطلق الجيوش باسم الله.
وعمل معاوية منذ توليه الخلافة على تجهيز الجيوش بشن حرب شاملة ضد "الإمبراطورية البيزنطية"، وهى "إمبراطورية الروم".
لقد
كانت مركز القوة الرئيسية المعادية للدولة الإسلامية، وطالما حاولت فى
لحظات الخلاف والفتنة أن تسترد الشام ومصر، أغلى أقاليم "الإمبراطورية
الرومانية" قبل فتح العرب لهما.
إن أراضى آسيا الصغرى التابعة لتلك
الإمبراطورية تتاخم الجهات الشمالية من بلاد الشام والعراق، وتنطلق منها
الجيوش الرومية لتخريب هذين الإقليمين العربيين ! فلماذا لا يحاول معاوية
القضاء على ذلك العدو اللدود؟ لماذا لا يستولى على القسطنطينية نفسها عاصمة
تلك الإمبراطورية ؟
أعد معاوية الحملة الأولى، وزودها بالعَدد والعُدد،
وجعل على رأسها ابنه وولى عهده يزيد، ولم يتخلف صحابة رسول الله ( عن
الجهاد فى سبيل الله، فانضموا إلى هذه الحملة متمثلين أمام أعينهم، قول
الرسول ( "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش"
[أحمد والحاكم]، آملين أن يتحقق فيهم قول الرسول (. فقد ثبت عن رسول الله
(: "أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم" [البخارى].
ولقد اشترك فى هذه
الحملة أبو أيوب الأنصارى الذى نزل النبى ( فى بيته عند الهجرة. ولم يستطع
المسلمون فتح المدينة هذه المرة، ولكن حسبهم أنهم أول جيش يغزو
القسطنطينية.
ولقد سعد معاوية باشتراك الصحابة فى هذه الغزوة، فهم خير
وبركة، فبهم تعلو راية المجاهدين. واتجهت هذه الجيوش إلى القسطنطينية حتى
فتحوا بلادًا عديدة فى آسيا الصغرى وضَربوا الحصار على العاصمة الحصينة.
وعزز معاوية هذه الغزوة بأسطول سار تحت قيادة فضالة بن عبيد الأنصارى، وسار
هذا الأسطول إلى مياه العاصمة البيزنطية.
وأثناء الحصار، مرض "أبو أيوب
الأنصارى" ولم يلبث أن توفى، ودفن جثمانه قرب أسوار القسطنطينية، وأظهر
الجنود المسلمون ضروبًا من الشجاعة أذهلت الروم، ثم انسحبت الجيوش
الإسلامية بعد ذلك تأهبًا لكرّة أخرى من الجهاد. .
حرب السنوات السبع:
بعث معاوية حملة ثانية ضد القسطنطينية؛ إنه يدرك خطر البيزنطيين، ويعمل جاهدًا على تدمير قوتهم.
لقد
دام الحصار للقسطنطينية سبع سنوات (54 - 60 هـ / 674 - 680م)، وكان
التعاون قائمًا بين القوات البحرية والأسطول الإسلامى، فقد اتخذ الأسطول
مقرّا له فى جزيرة "أرواد" قرب مياه القسطنطينية، وبمطلع الربيع، تم إحكام
الحصار، فانتقلت القوات البرية لإلقاء الحصار على أسوار العاصمة، على حين
تولت سفن الأسطول حصار الأسوار البحرية.
وباقتراب فصل الشتاء نقل
الأسطول قوات المسلمين إلى جزيرة "أرواد" حماية لها من برد تلك الجهات
القارص، ثم عاد فنقلها لمتابعة الحصار بمطلع الربيع.
ولم تستطع هذه "
الحملة الثانية" اقتحام القسطنطينية بسبب مناعة أسوارها، وما كان يطلقه
البيزنطيون على سفن الأسطول الإسلامى من نيران، فانتهى الأمر بعقد صلح بين
المسلمين والبيزنطيين مدته ثلاثون عامًا، عام 56هـ / 676م.
وبرغم عجز
هاتين الحملتين عن الاستيلاء على القسطنطينية فإنهما حققتا أهدافًا واسعة،
فلقد تخلى أباطرة الروم عن مشاريعهم وأحلامهم القديمة فى استعادة مصر
والشام، وغيرهما من الأراضى التى كانت تابعة لهم من قبل، وعلموا أن جيوش
الإسلام باتت قوية، وراحت تدق أبواب عاصمتهم بعنف.
لقد زلزلت القوات
الإسلامية إمبراطوريتهم نفسها، وشلت نشاط القوات البيزنطية، وقلمت أظفارها،
مما أتاح للأمويين بسط رقعة الدولة شرقًا وغربًا.
الجهاد فى الميدان الشرقى:
فإذا
انتقلنا من الشام إلى الميدان الشرقى نجد أن الفتوحات التى توقفت أواخر
خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضى الله عنه- قد استأنفها الأمويون،
فعندما تولى معاوية الحكم بعث الجيوش لنشر الإسلام فى مواطن جديدة سكنها
الأتراك فى بلاد ما وراء النهر، وإلى بلاد الهند التى كانت موطن حضارة من
أقدم الحضارات فى جنوب شرق آسيا.
وفى بلاد الشرق، حيث كان زياد بن أبيه
واليًا على تلك البلاد من قِبَل معاوية بن أبى سفيان، غزا المسلمون
أفغانستان فسقطت "كابول" فى أيديهم سنة 664م، وعبروا نهر جيحون، واستولوا
على بخارى سنة 674م، ثم على سمرقند سنة 676م، ثم واصلوا زحفهم حتى نهر
سيحون، وذلك على يد قادة من شباب الإسلام مثل محمد بن القاسم الثقفى وقتيبة
بن مسلم الباهلى وغيرهما.
الجهاد فى الميدان الغربى:
وانطلقت
الفتوحات الأموية منذ ولى معاوية بن أبى سفيان نحو الميدان الغربى فى
البلاد التى تلاصق مصر من جهة الغرب، وتمتد من "برقة" إلى المحيط الأطلسى،
وكانت معروفة عند العرب باسم بلاد المغرب، وكان يسكنها أناس عرفوا باسم
البربر، وهم ينتمون فى أصلهم إلى العنصر الليبى القديم الذى يرتبط مع
الأصول التى ينتمى إليها المصريون القدماء.
وكان هؤلاء البربر ينقسمون
بحسب مسكنهم إلى قسمين: حضر يزرعون الأرض ويعيشون مستقرين قرب الساحل، وعلى
سفوح الجبال الخصبة، واشتهروا باسم "البرانس". وبدو يرعون قطعانهم من
الماشية فى الصحاري، وعرفوا باسم "البتر".
عقبة فى بلاد المغرب:
وأسند
الخليفة معاوية بن أبى سفيان فتح تلك البلاد وإفريقية سنة 50هـ إلى "عقبة
بن نافع الفهرى"، الذى كان مقيمًا ببرقة منذ أن فتحها عمرو بن العاص أثناء
ولايته الأولى على مصر، فكان عقبة من أكثر الناس خبرة ودراية بأحوال هذه
البلاد، وعهد إليه معاوية بقيادة بعض السرايا الحربية التى توغلت فى شمال
إفريقية، ورأى عقبة أن أفضل الطرق لفتح بلاد المغرب يقتضى إنشاء قاعدة
للجيوش العربية فى المنطقة التى عرفها العرب باسم إفريقية، وهى جمهورية
تونس الحالية.
واستطاع عقبة تنفيذ مشروعه حين انطلق بجيوشه إلى إفريقية
واستولى عليها، لقد اختار موقعًا يلتقى عنده "البرانس" و "البتر" وأقام
عليه قاعدته التى سماها "القيروان"، وشرح عقبة أهدافه من تأسيس القيروان
قائلا لجنوده: وأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها (أى بأفريقية)
مدينة نجعل فيها عسكرًا، وتكون عز الإسلام إلى أبد الدهر.
وكان عقبة بن
نافع صادق الإيمان، فيروى أنه لما بدأ فى بناء القيروان، وكان مكانها مكان
ملتف بالشجر تأوى إليها السباع والوحوش والحيات العظام، فدعا الله تعالى
فلم يبق فيها شىء من ذلك، حتى إن السباع صارت تخرج منها تحمل أولادها،
والحيات يخرجن هاربة من أحجارهن، ولما رأى البربر ذلك أسلم منهم عدد كبير.
الأحوال الداخلية للدولة:
1- دمشق العاصمة الجديدة:
كان
على -رضى الله عنه- قد اتخذ من "الكوفة" مركزًا للخلافة، فاتخذ معاوية بن
أبى سفيان مدينة "دمشق" لتكون مقرّّا لخلافته ولآل بيته من بعده.
وكانت
هذه الخطوة تعنى أن مقر الخلافة أصبح محصنًا بقوة مادية وبشرية كبيرة،
وشجعه على ذلك أن أهل الشام برهنوا له عن ولائهم للبيت الأموى، ووقفوا إلى
جانب معاوية خلال تلك الفترة التى قامت فيها الفتنة.
وكان معاوية قد راح
يدعم علاقته بالقبائل الكبيرة منذ ولايته على الشام، فصاهر أقواها وأعزها،
وأكثرها نفرًا، وهى قبائل كلب اليمانية، فكانت زوجته ميسون من بنى بحدل من
قبيلة كلب، وأنجب منها ابنه يزيد الذى صار ولى عهد الدولة الأموية.
أما
عن موقع مدينة دمشق عاصمة الخلافة الجديدة، فقد كان موقعًا فريدًا، فهى
تقع على حافة بادية البلقاء، فى واحة الغوطة الخصيبة، ويغذيها نهر بردى،
وتحيط بها جبال شاهقة من جميع نواحيها وهى إلى جانب هذا كله متجرًا للقوافل
التجارية المعروفة باسم "رحلات الصيف".
وها هى ذى قد أصبحت بعد الفتح
الإسلامى معسكرًا للجيوش الإسلامية، وقاعدة تباشر منها مهامها الحربية،
وتستطيع مراقبة العدو الأول للدولة الإسلامية، وهو إمبراطورية الروم.
2- الوراثة فى الحكم:
وكانت
السمة الثانية التى ميزت الدولة الأموية: تطبيق مبدأ الوراثة فى الحكم،
لقد تخلى معاوية عن القواعد التى جرى عليها انتخاب الخلفاء الراشدين من
قبله، معتقدًا أن المجتمع الإسلامى بعد هذه السنين قد تطور، وأن قوى جديدة
فيه قد ظهرت تريد أن تبحث لها عن دور، وأن القبائل الكبرى التى قامت بالدور
البارز فى حركة الفتوح وقيادة الجيوش لم تعد تقبل بسهولة أن تنقاد لمن لا
ترى مصالحها عنده، وتضمن نفوذها لديه، وأن الأمصار والولايات الجديدة قد
أصبحت حريصة على جعل جهاز الحكم فيها، أو قريبًا منها، مما يهدد الدولة
الإسلامية بالتنازع والحروب الداخلية فرأى أن يستخلف ولده يزيد إذ تؤيده
قوة أهل الشام وتحميه قوة قبيلة كلب التى منها أمه وأخواله. .
وبالرغم
من العقبات التى اعترضت معاوية فإنه استطاع الحصول على البيعة لابنه يزيد
سنة 56هـ / 676م، وبهذا تم تحويل الخلافة إلى سلطة مبدأ التوريث.
وصار معاوية بذلك مؤسس الدولة الأموية، وأول من طبق الوراثة فى الخلافة الإسلامية.
منجزات معاوية:
أما
عن عهد معاوية فقد كان حافلا بالإنجازات، فقد أعاد حبات العقد التى انفرطت
فنظمها من جديد، وبعث الجيوش شرقًا وغربًا، وقضى على الفتنة، وأتاح للراية
الإسلامية أن تواصل تقدمها فى كل اتجاه، ولقن أعداء الأمة دروسًا لا تنسى!
ولقد
تحقق له ما أراد، فأقام دولة لبنى أمية وَوَرَّثَ ابنه يزيد الخلافة من
بعده، ثم أجاب داعى الله بعد حياة حافلة، وقد قال فيه رسول الله (: "اللهم
اجعله هاديًا مهديّا واهدِِ به" [أحمد والترمذى].
وقد لقى معاوية ربه، فى رجب سنة 60هـ / 680م.