الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
حديث: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا. وَإِنَّ اللّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾، وَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾»، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلُ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذلِك؟»؛ رواه مسلم.
شرح ألفاظ الحديث:
(( إِنَّ اللّهَ طَيِّبٌ )): كلمة طيب بمعنى طاهر منزه عن النقائص وضد الطيب هو الخبيث قال تعالى ﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ﴾[المائدة:100]، ومعنى أن الله طيب أي لا يلحقه عز وجل شيء من النقص والعيب فهو عز وجل طيب في ذاته وفي أسمائه وأفعاله وأقواله وفي كل ما يصدر منه.
(( أَشْعَثَ أَغْبَرَ )): أشعث: أي مفترق شعر الرأس، أغبر: مغبر البدن فالشعث في الجسد، والغبرة في سائر الجسد.
(( يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ )): عبارة تبين هيئة من يدعو ربه.
(( وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ )): غُذِي بضم الغين وتخفيف الذال مع كسرها؛ أي إنها تغذَّى بالحرام.
(( فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذلِك )): أي كيف يستجيب الله له والمعنى أنه ليس أهلًا للإجابة من كانت هذه حالته وقد يستجيب الله له تفضلًا وكرمًا.
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: في الحديث دلاله على أن من موانع قبول الصدقة التصدق بالحرام؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وما كان حرامًا فليس بطيب وكذا في بقية الأعمال والأقوال، فلا يقبل إلا طيب وهو ما كان خالصًا لله تعالى، ولذا قال تعال: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾[ فاطر: 10].
الفائدة الثانية: في الحديث دلالة على إثبات اسم الله تعالى (الطيب )، وهذا يشمل كما تقدم طيب ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وكل ما يصدر منه، فلا نقص ولا عيب فيها بوجه من الوجوه تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا؛ لأن أسمائه تعالى كلها حسنى وهو القائل: ﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ﴾ [الأعراف 180 ], والحسنى اسم تفضيل، فلا تجد في أسماء الله ما يحتمل النقص أبدًا؛ قال ابن القيم في شرحه لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "والصلوات والطيبات": "وذلك في دعاء التشهد: واسمه (الطيب )، ولا يصدر عنه إلا طيب ولا يصعد إليه إلا طيب، ولا يقرب منه إلا طيب، وإليه يصعد الكلم الطيب، وفعله طيب والعمل الطيب يعرج إليه، فالطيبات كلها له ومضافة إليه وصادرة عنه ومنتهية إليه... فإن كان هو سبحانه طيب على الإطلاق، فالكلمات الطيبات، والأفعال الطيبات، والصفات الطيبات، والأسماء الطيبات، كلها له سبحانه لا يستحقها أحد سواه، بل ما طيب شيء إلا بطيبته سبحانه، فكل ما سواه من آثار طيبته، ولا تصلح هذه التحية الطيبة إلا له"؛ [انظر الصلاة وحكم تاركها ص (214، 215) ].
الفائدة الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَإِنَّ اللّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ"، يؤخذ منها أمران:
1- أن الرسل عليهم الصلاة والسلام يؤمرون وينهون، ومن ذلك قال الله عز وجل لهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، فأمرهم بالأكل من الطيبات والعمل الصالح.
2- أن المؤمنين مأمورون ومنهيون، ومن ذلك: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]، والمؤمن كلما كان أكثر امتثالًا لأمر الله عز وجل كلما كان أقوى إيمانًا، وبالعكس مع أوامر الله كلما كان متهاونًا بها ومقترفًا للمنهيات، ضعف الإيمان في القلب، وكلما تمادى في ذلك مات في كثير من جوانب الاستقامة نسأل الله السلامة والعافية.
الفائدة الرابعة: الحديث فيه دلالة على التحذير البالغ والنهي الشديد عن أكل الحرام، وذلك من عدة وجوه:
الأول: أن الله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبًا، وآكل الحرام لو أراد أن يقدِّم ما عنده من كسب الحرام في وجوه الصدقة فلن يقبل منه.
الثاني: الأمر بالأكل من الطيبات، وهذا أمرٌ أمَر الله به المرسلين والمؤمنين؛ كما بيَّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الباب، وهذا يفيد أهمية المأمور به، فقال تعالى للمرسلين: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾، وقال تعالى للمؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، ومن أكل الحرام فقد خالف هذا الأمر.
الثالث: استبعاد إجابة دعاء آكل الحرام مع أنه جاء بآداب الدعاء العظيمة، إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ما بيَّن أن مطعمه ومشربه وملبسه وغذائه من الحرام قال: "َأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذلِك"؛ أي وكيف يستجاب له؟
الفائدة الخامسة: في الحديث دلالة على بعض أسباب إجابة الدعاء، ووجه ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر ما يوجب قبول الدعاء في حال الرجل الذي ذكره، إلا أنه منعه أكله ولبسه للحرام من الإجابة، فمن أسباب إجابة الدعاء في حديث الباب:
السفر وإطالته من أسباب إجابة الدعاء، وهذا يؤخذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يُطِيلُ السَّفَرَ"، ويؤيد ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنها - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم".
التواضع في الهيئة حال الدعاء من أسباب الإجابة، وهذا يؤخذ من قول النبي- صلى الله عليه وسلم –: "أشعث أغبر"، ويؤيد ذلك خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- لطلب السقيا؛ أي لصلاة الاستسقاء متبذلًا متواضعًا متضرعًا؛ كما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الترمذي وصححه، والمقصود أن الإنسان في دعائه يقبل بهيئة الذليل الضعيف.
رفع اليدين من أسباب إجابة الدعاء، وهذا يؤخذ من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (( يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ))، ويؤيد ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه الحافظ في الفتح من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (( إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرًا خائبتين))، وورد عنه رفع اليدين في الاستسقاء والدعاء لأهل بدر وغيره من المواضع ورفع اليدين من آداب الدعاء، إلا ما ورد في بعض المواضع من عدم رفع اليدين كأثناء دعاء خطيب الجمعة على المنبر في غير الاستسقاء والاستصحاء، (وهو طلب إمساك المطر)، فإذا دعا الخطيب في خطبة الجمعة أو في آخرها للمؤمنين أو المجاهدين، فإنه لا يرفع يديه ولا المأموم يرفع يديه، لما جاء في صحيح مسلم عن عمارة بن رؤيبة - رضي الله عنه - أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعًا يديه، فقال: "قبح الله ها اليدين، ولقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يزيد أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه المسبحة"، وكذا لا يشرع رفع اليدين في أدعية الصلاة كبين السجدتين والدعاء بعد التشهد الأخير ونحوها، لعدم وروده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مع كثرة ما يصلي.
الإلحاح بالدعاء، من أسباب إجابة الدعاء، وهذا يؤخذ من قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: (يَا رَبِّ يَا رَبِّ)، ويؤيد ذلك التوسل إلى الله تعالى بالربوبية، وهذا يؤخذ من قوله: (يَا رَبِّ يَا رَبِّ)، وهذا فيه استضعافه أمام ربه كأنه يقول: (( أنت ربي أنت ربي ))، والأدعية في الكتاب والسنة المصدرة بلفظ الربوبية كثيرة جدًّا؛ قال تعالى: ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران:8 ]، وقال الله تعالى:﴿ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ﴾ [آل عمران:193]، وقال جل شأنه: ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [ آل عمران:53 ]، وغيرها من الآيات وكذا السنة، بل هو لفظ يدعو به الكفار وإبليس لإقرارهم بالربوبية.
إطابة المطعم والمشرب والملبس من أسباب إجابة الدعاء، وهذا يؤخذ من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذلِك))، وتقدم بيان دلالة هذا الحديث على النهي الشديد عن أكل الحرام.
حديث: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا. وَإِنَّ اللّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾، وَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾»، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلُ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذلِك؟»؛ رواه مسلم.
شرح ألفاظ الحديث:
(( إِنَّ اللّهَ طَيِّبٌ )): كلمة طيب بمعنى طاهر منزه عن النقائص وضد الطيب هو الخبيث قال تعالى ﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ﴾[المائدة:100]، ومعنى أن الله طيب أي لا يلحقه عز وجل شيء من النقص والعيب فهو عز وجل طيب في ذاته وفي أسمائه وأفعاله وأقواله وفي كل ما يصدر منه.
(( أَشْعَثَ أَغْبَرَ )): أشعث: أي مفترق شعر الرأس، أغبر: مغبر البدن فالشعث في الجسد، والغبرة في سائر الجسد.
(( يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ )): عبارة تبين هيئة من يدعو ربه.
(( وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ )): غُذِي بضم الغين وتخفيف الذال مع كسرها؛ أي إنها تغذَّى بالحرام.
(( فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذلِك )): أي كيف يستجيب الله له والمعنى أنه ليس أهلًا للإجابة من كانت هذه حالته وقد يستجيب الله له تفضلًا وكرمًا.
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: في الحديث دلاله على أن من موانع قبول الصدقة التصدق بالحرام؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وما كان حرامًا فليس بطيب وكذا في بقية الأعمال والأقوال، فلا يقبل إلا طيب وهو ما كان خالصًا لله تعالى، ولذا قال تعال: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾[ فاطر: 10].
الفائدة الثانية: في الحديث دلالة على إثبات اسم الله تعالى (الطيب )، وهذا يشمل كما تقدم طيب ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وكل ما يصدر منه، فلا نقص ولا عيب فيها بوجه من الوجوه تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا؛ لأن أسمائه تعالى كلها حسنى وهو القائل: ﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ﴾ [الأعراف 180 ], والحسنى اسم تفضيل، فلا تجد في أسماء الله ما يحتمل النقص أبدًا؛ قال ابن القيم في شرحه لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "والصلوات والطيبات": "وذلك في دعاء التشهد: واسمه (الطيب )، ولا يصدر عنه إلا طيب ولا يصعد إليه إلا طيب، ولا يقرب منه إلا طيب، وإليه يصعد الكلم الطيب، وفعله طيب والعمل الطيب يعرج إليه، فالطيبات كلها له ومضافة إليه وصادرة عنه ومنتهية إليه... فإن كان هو سبحانه طيب على الإطلاق، فالكلمات الطيبات، والأفعال الطيبات، والصفات الطيبات، والأسماء الطيبات، كلها له سبحانه لا يستحقها أحد سواه، بل ما طيب شيء إلا بطيبته سبحانه، فكل ما سواه من آثار طيبته، ولا تصلح هذه التحية الطيبة إلا له"؛ [انظر الصلاة وحكم تاركها ص (214، 215) ].
الفائدة الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَإِنَّ اللّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ"، يؤخذ منها أمران:
1- أن الرسل عليهم الصلاة والسلام يؤمرون وينهون، ومن ذلك قال الله عز وجل لهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، فأمرهم بالأكل من الطيبات والعمل الصالح.
2- أن المؤمنين مأمورون ومنهيون، ومن ذلك: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]، والمؤمن كلما كان أكثر امتثالًا لأمر الله عز وجل كلما كان أقوى إيمانًا، وبالعكس مع أوامر الله كلما كان متهاونًا بها ومقترفًا للمنهيات، ضعف الإيمان في القلب، وكلما تمادى في ذلك مات في كثير من جوانب الاستقامة نسأل الله السلامة والعافية.
الفائدة الرابعة: الحديث فيه دلالة على التحذير البالغ والنهي الشديد عن أكل الحرام، وذلك من عدة وجوه:
الأول: أن الله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبًا، وآكل الحرام لو أراد أن يقدِّم ما عنده من كسب الحرام في وجوه الصدقة فلن يقبل منه.
الثاني: الأمر بالأكل من الطيبات، وهذا أمرٌ أمَر الله به المرسلين والمؤمنين؛ كما بيَّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الباب، وهذا يفيد أهمية المأمور به، فقال تعالى للمرسلين: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾، وقال تعالى للمؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، ومن أكل الحرام فقد خالف هذا الأمر.
الثالث: استبعاد إجابة دعاء آكل الحرام مع أنه جاء بآداب الدعاء العظيمة، إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ما بيَّن أن مطعمه ومشربه وملبسه وغذائه من الحرام قال: "َأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذلِك"؛ أي وكيف يستجاب له؟
الفائدة الخامسة: في الحديث دلالة على بعض أسباب إجابة الدعاء، ووجه ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر ما يوجب قبول الدعاء في حال الرجل الذي ذكره، إلا أنه منعه أكله ولبسه للحرام من الإجابة، فمن أسباب إجابة الدعاء في حديث الباب:
السفر وإطالته من أسباب إجابة الدعاء، وهذا يؤخذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يُطِيلُ السَّفَرَ"، ويؤيد ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنها - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم".
التواضع في الهيئة حال الدعاء من أسباب الإجابة، وهذا يؤخذ من قول النبي- صلى الله عليه وسلم –: "أشعث أغبر"، ويؤيد ذلك خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- لطلب السقيا؛ أي لصلاة الاستسقاء متبذلًا متواضعًا متضرعًا؛ كما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الترمذي وصححه، والمقصود أن الإنسان في دعائه يقبل بهيئة الذليل الضعيف.
رفع اليدين من أسباب إجابة الدعاء، وهذا يؤخذ من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (( يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ))، ويؤيد ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه الحافظ في الفتح من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (( إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرًا خائبتين))، وورد عنه رفع اليدين في الاستسقاء والدعاء لأهل بدر وغيره من المواضع ورفع اليدين من آداب الدعاء، إلا ما ورد في بعض المواضع من عدم رفع اليدين كأثناء دعاء خطيب الجمعة على المنبر في غير الاستسقاء والاستصحاء، (وهو طلب إمساك المطر)، فإذا دعا الخطيب في خطبة الجمعة أو في آخرها للمؤمنين أو المجاهدين، فإنه لا يرفع يديه ولا المأموم يرفع يديه، لما جاء في صحيح مسلم عن عمارة بن رؤيبة - رضي الله عنه - أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعًا يديه، فقال: "قبح الله ها اليدين، ولقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يزيد أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه المسبحة"، وكذا لا يشرع رفع اليدين في أدعية الصلاة كبين السجدتين والدعاء بعد التشهد الأخير ونحوها، لعدم وروده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مع كثرة ما يصلي.
الإلحاح بالدعاء، من أسباب إجابة الدعاء، وهذا يؤخذ من قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: (يَا رَبِّ يَا رَبِّ)، ويؤيد ذلك التوسل إلى الله تعالى بالربوبية، وهذا يؤخذ من قوله: (يَا رَبِّ يَا رَبِّ)، وهذا فيه استضعافه أمام ربه كأنه يقول: (( أنت ربي أنت ربي ))، والأدعية في الكتاب والسنة المصدرة بلفظ الربوبية كثيرة جدًّا؛ قال تعالى: ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران:8 ]، وقال الله تعالى:﴿ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ﴾ [آل عمران:193]، وقال جل شأنه: ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [ آل عمران:53 ]، وغيرها من الآيات وكذا السنة، بل هو لفظ يدعو به الكفار وإبليس لإقرارهم بالربوبية.
إطابة المطعم والمشرب والملبس من أسباب إجابة الدعاء، وهذا يؤخذ من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذلِك))، وتقدم بيان دلالة هذا الحديث على النهي الشديد عن أكل الحرام.