بييرّو
كانت السيدة ( لوفيفر ) سيدة من الريف , أرملة , واحدة من ( نصف الفلاحات ) اللواتي يتميزن بقبعاتهن المزينة بشرائط من مخمل مكشكش , واحدة من تلك النساء اللواتي يتحدثن وهن مرتديات ثياباً من الجلد , ويتكلمن أمام الناس بزهو وافتخار , ويخفين روحاً فظةً ومدعيةً تحت مظاهر المرح المصطنع , كما تخفين أيديهن المحمرة الضخمة تحت قفازات من الحرير الأبيض العاجي .
كان عند السيدة لوفيفر خادمة ريفية طيبة القلب و ساذجة تدعى روز .
كانت المرأتان تسكنان في منزل صغير , ذي مصاريع خضراء , ممتد بمحاذاة الطريق في النورمندي , في قلب منطقة ( أَلكوكس ) . وبما أنهما كانتا تمتلكان حديقة صغيرة أمام المنزل , فقد كانتا تزرعان فيها بعض الخضار .
وفي ليلة ظلماء , سُرق منها دزينة من البصل .
حالما اكتشفت روز الأمر , ركضت وأخبرت سيدتها التي نزلت إلى الحديقة بتنورة من الصوف. كان هذا الأمر باعثاً على الأسف والخوف . لقد سُرقت , لقد سُرقت مدام لوفيفر ! إذاً , هناك من يسرق في هذا البلد . ثم قد تُعاد الكرة وتُسرق من جديد .
كانت المرأتان مذعورتان وهما تتفحصان آثار الخطى , وتهذران وتفترضان أشياء كثيرة . " أنظري , لقد مروا من هنا , لقد وضعوا أقدامهم على الحائط . لقد قفزوا في المسكبة . "
لقد كانتا مرتعبتان مما سيحدث في المستقبل . كيف ستستطيعان أن تناما بهدوء بال ؟
انتشر خبر السرقة . فوصل الجيران , رأوا ما حدث , تداولوا الأمر , كلٌّ بدوره . وكانت المرأتان تشرحان لكل قادم جديد مشاهداتهما وأفكارهما .
قدم لهما مزارع من الجوار هذه النصيحة : " عليكما أن تربياً كلباً . "
لقد كان ذلك صحيحاً . كان عليهما أن يمتلكا كلباً , ولو لم يكن ذلك إلا للتنبيه . ولكن ليس كلباً ضخماً , يا إلهي ! ماذا تفعلان بكلب ضخم ؟ فإن ثمن إطعامه قد يكون كافياً لإفلاسهما . ولكن لا بأس من وجود كلب صغير نبَّاح ...
وحالما غادر الجميع المكان , درست السيدة لوفيفر فكرة الكلب هذه طويلاً . وبعد إهمال فكرها , وضعت ألف اعتراض واعتراض , إذ إن الهلع كان يأخذ بها عند تقديم صحن فيه خبيصة للكلب ! فقد كانت من تلك الفئة المقتّرة الشحيحة من النستء الريفيات اللواتي يحملن دائماً بعض اقروش في جيوبهن ليتصدقن بها جهاراً للفقراء في الطريق , أو ليتبرعن بها يوم الأحد في الكنائس .
روز , التي كانت تحب الحيوانات كثيراً , أعطت رأيها ودافعت عنه بدهاء . وهكذا , اتخذ القرار بامتلاك كلب , كلب صغير جداً .
وأخذتا تفتشان عنه , ولكنهما لم تعثرا إلا على كلاب ضخمة , كلاب تلق الحساء بشكل يثير الغيظ . وكان عند بقال ((روفيل)) بالفعل كلب , كلب صغير جداً , ولكنه أصر على أن يدفع له فرنكان ليغطي مصاريف تربيته . لكن السيدة لوفيفر أعلنت أنها مستعدة لتقديم الطعام لكلب , لكنها لا توجد أن تشتري واحداً .
وفي صبيحة أحد الأيام , حمل الخباز في سيارته , وكان على علم بهذه الأحداث , حيوان صغير الحجم , غريب المنظر , ذا لون أصفر بالكامل , يبدو وكأنه بلا قوائم , وله جسم تمساح ورأس ثعلب , وذيل كأنه بوق , ذيل مدعاة للفخر , يبلغ طوله طول جسده كله . وكان أحد الزبائن يريد أن يتخلص منه . وجدت السيدة لوفيفر أن هذا الحيوان الشنيع جميل جداً , فهو ما يكلفها شيئاً . قبّلته روز , وسألت عن اسمه . أجابها الخباز : " بييّرو " .
وضع بييرو في صندوق عتيق للصابون , وقدم له ماء الشرب أولاً , فشربه . ثم قدمت له قطعة من الخبز , فأكل . وخطرت فكرة على بال السيدة لوفيفر القلقة : " حالما يألف بييرّو جيداً للبيت , ستتركه يتجول بحرية , فهو سيجد ما يأكله في تجواله في الحي . "
وفعلاً تُرك بييرّو حراً , ولكن ذلك لم يمنعه أبداً من أن يبقى جائعاً . فكان لا ينبح إلا ليطالب بقوته . عندها فقط , كان ينبح بإصرار وضراوة .
كان بإمكان أي كان أن يدخل الحديقة . وكان بييرو يذهب ويلامس , تحبباً , كل قادم جديد ويبقى صامتاً لا ينبح .
غير أن السيدة لوفيفر اعتادت على هذا الحيوان , حتى إنها توصلت إلى أن تحبه . وأن تطعمه بيدها , من وقت لآخر , لقيمات من الخبز المغمسة بمرق طعامها .
لكنها لم تفكر أبداً بالضريبة , فعندما طولبت بدفع ثمانية فرنكات ـ ثمانية فرنكات , سيدي ! ـ على هذا الكلب الحقير , هذا الكليب الذي لا ينبح أبداً , كاد أن يغمى عليها من أثر الصدمة .
اتُّخذ على الفور قرار التخلص من بييرو . ولكن , لا أحد يريده , فكل سكان المنطقة , وحتى من هم على بعد عشرة فراسخ رفضوه . ولعدم وجود حل آخر , انتهى الأمر بقرارٍ يقضي بجعله (( يأكل الصلصال )) ...
وجعله يأكل الصلصال يعني رميه في حفرة صلصالية كان يلقى فيها الكلاب الغير مرغوب فيها.
وسط سهل واسع , نلمح من بعيد شيئاً يشبه الكوخ , أو بالأحرى نلمح سقفاً من القصب وضع على الأرض . هذا هو مدخل مقلع السجيل , وهو بئر عميق مستقيم على عمق عشرين متراً تحت الأرض , ويؤدي إلى دهاليز طويلة تتصل ببعضها .
ينزل الناس إلى هذه الدهاليز مرة في السنة , في الوقت الذي تسمد فيه الأرض . أما فيما تبقى من الوقت , فكانت تستخدم مقبرة للكلاب التي حكم عليها بالموت . وغالباً ما يسمع , عندالمرور بالقرب من الفوهة , عويلاً حزيلاً ونباحاً يائساً , واستغاثات مثيرة للشفقة تصعد إليك وتصم أذنيك .
كانت كلاب الصيادين والرعاة تهرب هلعاً من جوار هذه الفوهة النائحة . وعندما ينحني المرء فوقها تصل إليه منها , رائحة كريهة نتنة . مآس مخيفة تقع هناك تحت جنح الظلام .
فعندما يحتضر منذ عشرة أيام أو أكثر , كلب في الأعماق , وهو يقتات ببقايا سابقيه القذرة , يهوي عليه فجأة حيوان جديد , أكبر حجماً وبالطبع أقوى مراساً . هاهما هنا لوحدهما , البطن خائر والعينان تلمعان . كل واحد منهما يترصد الآخر , يلاحقه بتردد ويأس قاتل . لكن الجوع يلح عليهما , فيهجم أحدهما على الآخر , ويتصارعان صراعاً طويلاً وشرساً . ويأكل القوي الضعيف , ويلتهمه حياً .
عندما اتخذ القرار بالتخلص من بييرو , جرى البحث عمن يقوم بمثل هذه المهمة . طلب العامل الذي يرمم الطريق عشر قطع نقدية مقابل ذلك . وبدا ذلك للسيدة لوفيفر مبلغاً باهظاً يثير الجنون . واكتفى العامل المتدرب عند الجار بخمس قطع . وكان المبلغ كبيراً أيضاً . ولما لاحظت روز أن يجب أن تحملاه بنفسيهما وبهذا لن يخاف أثناء الطريق ولن يعلم بالمصير الذي ينتظره , تم القرار بأن تذهبا معاً عند هبوط الليل .
في ذلك المساء , قُدم له طبق حساء جيد , مع قطعة من الزبدة . لعقها حتى آخر نقطة . كان يحرق ذنبه تعبيراً عن الرضا عندما حملته روز في مئزرها .
سارت السيدتان بخطى واسعة كسارقتين وسط السهل . وسرعان ما لمحتا مقلع السجيل ذي التراب الصلصالي , ووصلتا إليه.انحنت السيدة لوفيفر وتأكدت من أن حيواناً لا يئن في الداخل . ـ لا ـ لا يوجد شيء كمن هذا القبيل , بييرو سيكون وحيداً . قبلته روز التي كانت تبكي , ثم رمته في الحفرة . وانكبت كلتا السيدتين وهما ترهفان السمع .
سمعتا في بداية الأمر ضجة صماء , ثم ذلك الأنين المفتت للقلب لحيوان جريح , وبعدها تتابعت صرخات ألم خافتة , ثم نداءات يائسة , وصيحات كلب يستعطف وهو يرفع رأسه نحو الفوهة .
كان ينبح ، آه ! كان ينبح !
أحست المرأتان بتأنيب الضمير , وبالهلع , وبرعب مجنون لا يعرف سببه . وعادتا راكضتين كمن ينجو بنفسه .
كانت ليلتهما مليئة بالكوابيس والأحلام المخيفة .
حلمت السيدة لوفيفر أنها تجلس على المائدة لتتناول الحساء , ولكنها عندما كشفت الغطاء وجدت بييرو في داخله . فشب وعضها في أنفها . أفاقت من نومها مذعورة وظنت أنها لا تزال تسمع عواءه . أصاغت السمه ... لقد كانت واهمة .
عادت مجدداً إلى النوم , فرأت نفسها تسير في طريق رئيسي كبير , طريق لا ينتهي , وفجأة لمحت في وسط الطريق سلة , سلة مزارع كبيرة متروكة . كانت هذه السلة تخبفها .
وكان أن انتهى بها الأمر لفتحها , فوجدت بييرو جاثماً فيها , فتشبث بيدها ولم يتركها أبداً , فهربت مظطرية في طرف ذراعها الكلب معلقاً خطمه المشدود .
في الصباح الباكر , نهضت كالمجنونة , وركضت ناحية مقلع السجيل . لقد كان ينبح , كان لا يزال ينبح . لقد ظل ينبح طوال الليل . أخذت تنتحب ونادته بآلاف الكلمات اللطيفة , وأجاب بكل ما في أصوات الكلاب من رقة وتنغيم .
عندها , رغبت في رؤيته من جديد , وندمت على فعلتها , وعاهدت نفسها بأنها ستجعله سعيداً حتى موتها .
هرعت إلى حفار الآبار المكلف بإخراج التراب الصلصالي وأخبرته بقصتها . استمع الرجل دون أن يتفوه بكلمة . وعندما انتهت من سردها للقصة , فتح فمه قائلاً : " تريدين كلبك ؟ المطلوب لقاء ذلك أربعة فرنكات . "
انتفضت وجلة وزال حزنها دفعة واحدة .
" أربعة فرنكات ! الموت دونها ! ... أربعة فرنكات ! "
فأجابها : " أتظنين أنني سأحمل الحبال , وأذرعة التدوير , وأثبت كل هذا , وأذهب إلى هناك مع مساعدي , وأعرض نفسي لعض كلبك اللعين من أجل إرضائك وإعادته إليك ؟ كان يجب ألا ترميه . "
ابتعدت ساخطة وهي تحدث نفسها ـ أربعة فرنكات !
وفور وصولها , نادت روز وأخبرتها بشروط حفار الآبار . رددت روز : " أربعة فرنكات ! هذا مال كثير يا سيدتي . "
ثم أعقبت : " ماذا لو رمينا للكلب ما يسد قوته كي لا يموت من الجوع ؟ "
استحسنت السيدة لوفيفر الفكرة , وتلقتها بكل سرور . وهاهما تعودان مع قطعة كبيرة من الخبز المدهون بالزبدة . قطعت الخبز إلى لقيمات , وألقتاها الواحدة تلو الأخرى لبييرو وهما تحدثانه كلّ بدورها . وكلما التهم الكلب قطعة نبح مطالباً بالقطعة التالية .
وعادتا في المساء , ثم في اليوم التالي , وكل يوم . لكنهما اكتفتا بالذهاب مرة واحدة .
وفي صبيحة أحد الأيام , وفي الوقت الذي ألقيت فيه أول لقمة , سمعتا فجأة نباحاً رهيباً ينبعث من البئر , لقد أصبحا كلبين ! كان قد رمي بكلب آخر , كلب ضخم !
صاحت روز : " بييرو . " ورد بييرو بنباح متواصل . فأخذتا بإلقاء الطعام ؛ ولكن في كل مرة كانت تشعران بأن الكلبين يتدافعان تدافعاً رهيباً , ثم يتبعها صرخات بييرو النائحة , فقد عضه مرافقه الذي كان يأكل كل شيء . كيف لا , فهو الأقوى ...
كانتا تخصان بييرو بالقول : " هذه لك يا بييرو . " لكن بطبيعة الحال لم يكن يحصل على أحدها.
نظرت المرأتان إلى بعضهما البعض وهما مذهولتين . قالت السيدة لوفيفر بنبرة حادة : " إنني لا أستطيع أن أطعم كل الكلاب التي ترمى هنا . يجب أن نصرف النظر عن ذلك . "
وغادرت السيدة لوفيفر المكان تخنقها فكرة إطعام كل هذه الكلاب في الداخل على نفقتها , حتى إنها أعادت معها ما تبقى من الخبز , وأخذت تأكلها وهي في طريق عودتها .
تبعتها روز , وهي تمسح عينيها بطرف وزرتها الزرقاء ...
كانت السيدة ( لوفيفر ) سيدة من الريف , أرملة , واحدة من ( نصف الفلاحات ) اللواتي يتميزن بقبعاتهن المزينة بشرائط من مخمل مكشكش , واحدة من تلك النساء اللواتي يتحدثن وهن مرتديات ثياباً من الجلد , ويتكلمن أمام الناس بزهو وافتخار , ويخفين روحاً فظةً ومدعيةً تحت مظاهر المرح المصطنع , كما تخفين أيديهن المحمرة الضخمة تحت قفازات من الحرير الأبيض العاجي .
كان عند السيدة لوفيفر خادمة ريفية طيبة القلب و ساذجة تدعى روز .
كانت المرأتان تسكنان في منزل صغير , ذي مصاريع خضراء , ممتد بمحاذاة الطريق في النورمندي , في قلب منطقة ( أَلكوكس ) . وبما أنهما كانتا تمتلكان حديقة صغيرة أمام المنزل , فقد كانتا تزرعان فيها بعض الخضار .
وفي ليلة ظلماء , سُرق منها دزينة من البصل .
حالما اكتشفت روز الأمر , ركضت وأخبرت سيدتها التي نزلت إلى الحديقة بتنورة من الصوف. كان هذا الأمر باعثاً على الأسف والخوف . لقد سُرقت , لقد سُرقت مدام لوفيفر ! إذاً , هناك من يسرق في هذا البلد . ثم قد تُعاد الكرة وتُسرق من جديد .
كانت المرأتان مذعورتان وهما تتفحصان آثار الخطى , وتهذران وتفترضان أشياء كثيرة . " أنظري , لقد مروا من هنا , لقد وضعوا أقدامهم على الحائط . لقد قفزوا في المسكبة . "
لقد كانتا مرتعبتان مما سيحدث في المستقبل . كيف ستستطيعان أن تناما بهدوء بال ؟
انتشر خبر السرقة . فوصل الجيران , رأوا ما حدث , تداولوا الأمر , كلٌّ بدوره . وكانت المرأتان تشرحان لكل قادم جديد مشاهداتهما وأفكارهما .
قدم لهما مزارع من الجوار هذه النصيحة : " عليكما أن تربياً كلباً . "
لقد كان ذلك صحيحاً . كان عليهما أن يمتلكا كلباً , ولو لم يكن ذلك إلا للتنبيه . ولكن ليس كلباً ضخماً , يا إلهي ! ماذا تفعلان بكلب ضخم ؟ فإن ثمن إطعامه قد يكون كافياً لإفلاسهما . ولكن لا بأس من وجود كلب صغير نبَّاح ...
وحالما غادر الجميع المكان , درست السيدة لوفيفر فكرة الكلب هذه طويلاً . وبعد إهمال فكرها , وضعت ألف اعتراض واعتراض , إذ إن الهلع كان يأخذ بها عند تقديم صحن فيه خبيصة للكلب ! فقد كانت من تلك الفئة المقتّرة الشحيحة من النستء الريفيات اللواتي يحملن دائماً بعض اقروش في جيوبهن ليتصدقن بها جهاراً للفقراء في الطريق , أو ليتبرعن بها يوم الأحد في الكنائس .
روز , التي كانت تحب الحيوانات كثيراً , أعطت رأيها ودافعت عنه بدهاء . وهكذا , اتخذ القرار بامتلاك كلب , كلب صغير جداً .
وأخذتا تفتشان عنه , ولكنهما لم تعثرا إلا على كلاب ضخمة , كلاب تلق الحساء بشكل يثير الغيظ . وكان عند بقال ((روفيل)) بالفعل كلب , كلب صغير جداً , ولكنه أصر على أن يدفع له فرنكان ليغطي مصاريف تربيته . لكن السيدة لوفيفر أعلنت أنها مستعدة لتقديم الطعام لكلب , لكنها لا توجد أن تشتري واحداً .
وفي صبيحة أحد الأيام , حمل الخباز في سيارته , وكان على علم بهذه الأحداث , حيوان صغير الحجم , غريب المنظر , ذا لون أصفر بالكامل , يبدو وكأنه بلا قوائم , وله جسم تمساح ورأس ثعلب , وذيل كأنه بوق , ذيل مدعاة للفخر , يبلغ طوله طول جسده كله . وكان أحد الزبائن يريد أن يتخلص منه . وجدت السيدة لوفيفر أن هذا الحيوان الشنيع جميل جداً , فهو ما يكلفها شيئاً . قبّلته روز , وسألت عن اسمه . أجابها الخباز : " بييّرو " .
وضع بييرو في صندوق عتيق للصابون , وقدم له ماء الشرب أولاً , فشربه . ثم قدمت له قطعة من الخبز , فأكل . وخطرت فكرة على بال السيدة لوفيفر القلقة : " حالما يألف بييرّو جيداً للبيت , ستتركه يتجول بحرية , فهو سيجد ما يأكله في تجواله في الحي . "
وفعلاً تُرك بييرّو حراً , ولكن ذلك لم يمنعه أبداً من أن يبقى جائعاً . فكان لا ينبح إلا ليطالب بقوته . عندها فقط , كان ينبح بإصرار وضراوة .
كان بإمكان أي كان أن يدخل الحديقة . وكان بييرو يذهب ويلامس , تحبباً , كل قادم جديد ويبقى صامتاً لا ينبح .
غير أن السيدة لوفيفر اعتادت على هذا الحيوان , حتى إنها توصلت إلى أن تحبه . وأن تطعمه بيدها , من وقت لآخر , لقيمات من الخبز المغمسة بمرق طعامها .
لكنها لم تفكر أبداً بالضريبة , فعندما طولبت بدفع ثمانية فرنكات ـ ثمانية فرنكات , سيدي ! ـ على هذا الكلب الحقير , هذا الكليب الذي لا ينبح أبداً , كاد أن يغمى عليها من أثر الصدمة .
اتُّخذ على الفور قرار التخلص من بييرو . ولكن , لا أحد يريده , فكل سكان المنطقة , وحتى من هم على بعد عشرة فراسخ رفضوه . ولعدم وجود حل آخر , انتهى الأمر بقرارٍ يقضي بجعله (( يأكل الصلصال )) ...
وجعله يأكل الصلصال يعني رميه في حفرة صلصالية كان يلقى فيها الكلاب الغير مرغوب فيها.
وسط سهل واسع , نلمح من بعيد شيئاً يشبه الكوخ , أو بالأحرى نلمح سقفاً من القصب وضع على الأرض . هذا هو مدخل مقلع السجيل , وهو بئر عميق مستقيم على عمق عشرين متراً تحت الأرض , ويؤدي إلى دهاليز طويلة تتصل ببعضها .
ينزل الناس إلى هذه الدهاليز مرة في السنة , في الوقت الذي تسمد فيه الأرض . أما فيما تبقى من الوقت , فكانت تستخدم مقبرة للكلاب التي حكم عليها بالموت . وغالباً ما يسمع , عندالمرور بالقرب من الفوهة , عويلاً حزيلاً ونباحاً يائساً , واستغاثات مثيرة للشفقة تصعد إليك وتصم أذنيك .
كانت كلاب الصيادين والرعاة تهرب هلعاً من جوار هذه الفوهة النائحة . وعندما ينحني المرء فوقها تصل إليه منها , رائحة كريهة نتنة . مآس مخيفة تقع هناك تحت جنح الظلام .
فعندما يحتضر منذ عشرة أيام أو أكثر , كلب في الأعماق , وهو يقتات ببقايا سابقيه القذرة , يهوي عليه فجأة حيوان جديد , أكبر حجماً وبالطبع أقوى مراساً . هاهما هنا لوحدهما , البطن خائر والعينان تلمعان . كل واحد منهما يترصد الآخر , يلاحقه بتردد ويأس قاتل . لكن الجوع يلح عليهما , فيهجم أحدهما على الآخر , ويتصارعان صراعاً طويلاً وشرساً . ويأكل القوي الضعيف , ويلتهمه حياً .
عندما اتخذ القرار بالتخلص من بييرو , جرى البحث عمن يقوم بمثل هذه المهمة . طلب العامل الذي يرمم الطريق عشر قطع نقدية مقابل ذلك . وبدا ذلك للسيدة لوفيفر مبلغاً باهظاً يثير الجنون . واكتفى العامل المتدرب عند الجار بخمس قطع . وكان المبلغ كبيراً أيضاً . ولما لاحظت روز أن يجب أن تحملاه بنفسيهما وبهذا لن يخاف أثناء الطريق ولن يعلم بالمصير الذي ينتظره , تم القرار بأن تذهبا معاً عند هبوط الليل .
في ذلك المساء , قُدم له طبق حساء جيد , مع قطعة من الزبدة . لعقها حتى آخر نقطة . كان يحرق ذنبه تعبيراً عن الرضا عندما حملته روز في مئزرها .
سارت السيدتان بخطى واسعة كسارقتين وسط السهل . وسرعان ما لمحتا مقلع السجيل ذي التراب الصلصالي , ووصلتا إليه.انحنت السيدة لوفيفر وتأكدت من أن حيواناً لا يئن في الداخل . ـ لا ـ لا يوجد شيء كمن هذا القبيل , بييرو سيكون وحيداً . قبلته روز التي كانت تبكي , ثم رمته في الحفرة . وانكبت كلتا السيدتين وهما ترهفان السمع .
سمعتا في بداية الأمر ضجة صماء , ثم ذلك الأنين المفتت للقلب لحيوان جريح , وبعدها تتابعت صرخات ألم خافتة , ثم نداءات يائسة , وصيحات كلب يستعطف وهو يرفع رأسه نحو الفوهة .
كان ينبح ، آه ! كان ينبح !
أحست المرأتان بتأنيب الضمير , وبالهلع , وبرعب مجنون لا يعرف سببه . وعادتا راكضتين كمن ينجو بنفسه .
كانت ليلتهما مليئة بالكوابيس والأحلام المخيفة .
حلمت السيدة لوفيفر أنها تجلس على المائدة لتتناول الحساء , ولكنها عندما كشفت الغطاء وجدت بييرو في داخله . فشب وعضها في أنفها . أفاقت من نومها مذعورة وظنت أنها لا تزال تسمع عواءه . أصاغت السمه ... لقد كانت واهمة .
عادت مجدداً إلى النوم , فرأت نفسها تسير في طريق رئيسي كبير , طريق لا ينتهي , وفجأة لمحت في وسط الطريق سلة , سلة مزارع كبيرة متروكة . كانت هذه السلة تخبفها .
وكان أن انتهى بها الأمر لفتحها , فوجدت بييرو جاثماً فيها , فتشبث بيدها ولم يتركها أبداً , فهربت مظطرية في طرف ذراعها الكلب معلقاً خطمه المشدود .
في الصباح الباكر , نهضت كالمجنونة , وركضت ناحية مقلع السجيل . لقد كان ينبح , كان لا يزال ينبح . لقد ظل ينبح طوال الليل . أخذت تنتحب ونادته بآلاف الكلمات اللطيفة , وأجاب بكل ما في أصوات الكلاب من رقة وتنغيم .
عندها , رغبت في رؤيته من جديد , وندمت على فعلتها , وعاهدت نفسها بأنها ستجعله سعيداً حتى موتها .
هرعت إلى حفار الآبار المكلف بإخراج التراب الصلصالي وأخبرته بقصتها . استمع الرجل دون أن يتفوه بكلمة . وعندما انتهت من سردها للقصة , فتح فمه قائلاً : " تريدين كلبك ؟ المطلوب لقاء ذلك أربعة فرنكات . "
انتفضت وجلة وزال حزنها دفعة واحدة .
" أربعة فرنكات ! الموت دونها ! ... أربعة فرنكات ! "
فأجابها : " أتظنين أنني سأحمل الحبال , وأذرعة التدوير , وأثبت كل هذا , وأذهب إلى هناك مع مساعدي , وأعرض نفسي لعض كلبك اللعين من أجل إرضائك وإعادته إليك ؟ كان يجب ألا ترميه . "
ابتعدت ساخطة وهي تحدث نفسها ـ أربعة فرنكات !
وفور وصولها , نادت روز وأخبرتها بشروط حفار الآبار . رددت روز : " أربعة فرنكات ! هذا مال كثير يا سيدتي . "
ثم أعقبت : " ماذا لو رمينا للكلب ما يسد قوته كي لا يموت من الجوع ؟ "
استحسنت السيدة لوفيفر الفكرة , وتلقتها بكل سرور . وهاهما تعودان مع قطعة كبيرة من الخبز المدهون بالزبدة . قطعت الخبز إلى لقيمات , وألقتاها الواحدة تلو الأخرى لبييرو وهما تحدثانه كلّ بدورها . وكلما التهم الكلب قطعة نبح مطالباً بالقطعة التالية .
وعادتا في المساء , ثم في اليوم التالي , وكل يوم . لكنهما اكتفتا بالذهاب مرة واحدة .
وفي صبيحة أحد الأيام , وفي الوقت الذي ألقيت فيه أول لقمة , سمعتا فجأة نباحاً رهيباً ينبعث من البئر , لقد أصبحا كلبين ! كان قد رمي بكلب آخر , كلب ضخم !
صاحت روز : " بييرو . " ورد بييرو بنباح متواصل . فأخذتا بإلقاء الطعام ؛ ولكن في كل مرة كانت تشعران بأن الكلبين يتدافعان تدافعاً رهيباً , ثم يتبعها صرخات بييرو النائحة , فقد عضه مرافقه الذي كان يأكل كل شيء . كيف لا , فهو الأقوى ...
كانتا تخصان بييرو بالقول : " هذه لك يا بييرو . " لكن بطبيعة الحال لم يكن يحصل على أحدها.
نظرت المرأتان إلى بعضهما البعض وهما مذهولتين . قالت السيدة لوفيفر بنبرة حادة : " إنني لا أستطيع أن أطعم كل الكلاب التي ترمى هنا . يجب أن نصرف النظر عن ذلك . "
وغادرت السيدة لوفيفر المكان تخنقها فكرة إطعام كل هذه الكلاب في الداخل على نفقتها , حتى إنها أعادت معها ما تبقى من الخبز , وأخذت تأكلها وهي في طريق عودتها .
تبعتها روز , وهي تمسح عينيها بطرف وزرتها الزرقاء ...