" جولة في المستشفى "
جعل يدون طموحاته، ويسجل خططه، ويبني آمالا على الورق.. يريد أن يصبح عظيما بين العظماء.. غدا يحصل على ترقية.. وبعدها سيسعى ليصبح مدير أعمال ناجح.. ثم يكون من ملاك العقارات والشركات.. ثم.. وهكذا..
ملكت الدنيا قلبه.. واستحوذت بما فيها من مباهج على تفكيره.. كان ينظر إلى الأغنياء والتجار وكبار الملاك نظرة تحسر وأسى.. ليس عليهم وإنما على نفسه التي عجزت حتى الآن أن تكون بين أولئك المتخمين بالأموال..
كان صاحبه أحمد يشعر بغصة عندما يتحدث إليه فيسمع منه ما يدل على الغفلة والتيه..
دعك من هذا يا رجل.. الأرزاق بيد الله..
يجب أن نسعى يا أحمد.. لن تمطر السماء علينا ذهبا ولا فضة..
هذا صحيح، ولكن ليس بهذه الصورة التي أنت عليها.. تكاد تصاب بالجنون.. أراك تحسب وتقدر وتفكر بما كان وما سيكون وتحلم بأشياء من الصعب تحقيقها ولا تتحدث إلا عن المال والمناصب والترقية والمكانة..
وماذا في ذلك ؟.. هل نحن أقل من الناس ؟.. ماذا ينقصنا ؟.. نستطيع أن نكون سادة فلماذا نظل مع العبيد ؟
ولكنك نسيت الآخرة.. إنك تتحدث وكأنك ستعيش حياة أبدية خالدة لا نهاية لها.. ألا تجعل لآخرتك نصيبا من همك ووقتك وعملك..
إنني أصلي..
إنك تصلي وقلبك متعلق بالدنيا.. وإني لأخالك تحسب وتجمع وأنت في الصلاة.. قل لي يا صاحبي .. ماذا قرأت في صلاة العصر من القرآن ؟!!
قرأت.. آه .. لقد قرأت سورة.. لقد نسيت..
أرأيت .. دعنا من هذا الآن..
هل وصلتك أخبار صاحبنا عمر..؟
ماذا به ؟ إنه في المستشفى..
في المستشفى.. ولماذا ؟
أصيب في حادث سير.. إنه في حالة يرثى لها..
لا حول ولا قوة إلا بالله..
سنزوره غدا إن شاء الله.. هل ستأتي معنا..؟
أنا .. ولكن..
ولكن ماذا ؟
إنك تعرف أنني أكره الذهاب إلى المستشفيات..
ولكنه صديقنا الحميم.. ولابد من زيارته..
حسنا.. سأذهب معك..
.. ويدخل بوابة المستشفى مع صاحبه أحمد.. ويسير ببطء في أروقة المستشفى الممتدة.. يلتفت يمينا ويسارا.. ينقبض قلبه.. ترتجف أركانه..
يا إلهي.. ما أرى..
ينظر إلى إحدى الغرف.. يرى رجلا مسجى قد احترق ظهره.. آه.. يغمض عينيه..
يا للهول.. ما هذا .. يبلع ريقه..
هيا بنا من هنا..
ما هذا الجناح.. إنه يخيفني..
إنها غرف الإنعاش..
إن هؤلاء المرضى كالأموات..
يمر عليه ممرض يدفع كرسيا جلس عليه شاب ينزف من رأسه.. ينظر فينخلع قلبه.. يتجمد مكانه..
ماذا بك ؟
الحمد لله.. نحن في نعمة عظيمة..
يرى بعض المرضى الذين أصيبوا بكسور وجروح وأورام .. يصل إلى مكان صاحبه.. ينظر إليه على فراشه وقد تغير لونه.. يرى الأنابيب حوله..
إنه نائم..
بل هو في غيبوبة منذ أمس..
ألا يستطيع التنفس..؟
ألا ترى الأكسجين..
وما هذا الأنبوب في يده..؟
إنه غذاء سائل (جلوكوز)..
الحمد لله.. نحن في نعمة عظيمة..
ويعود مع صاحبه إلى بيته.. ويشعر بحقارة الدنيا وما فيها إلا ما كان لله من الأعمال الصالحة.. يحس برغبة في التزود لآخرته.. يقبل على كتاب الله تعالى.. ينهل منه ويقرأه بلهفة وشغف.. وتمر أيام يشعر صاحبه أحمد بأنه تغير.. لم يعد حديثه مثلما كان من قبل عن أمور الدنيا وملهياتها عن الآخرة.. بدا على وجهه أثر الخشوع والسكينة..
أصابه الوجوم عندما علم أن صاحبهما قد وافته منيته.. أدرك أكثر حاجته لزاد التقوى والصلاح بعدما شهد الجنازة وشارك في الدفن..
تذكر تلك الزيارة في المستشفى.. عرف أن في الدنيا مطارق كثيرة توقظ الغافلين اللاهين العابثين.. وحمد الله كثيرا أنه استيقظ قبل فوات الأوان !! .