الأخلاق الإسلاميَّة جاءت الشَّريعة الإسلامية ساعيةً لتعزيز القيم والأخلاق الحميدة المختلفة في نفوس النَّاس، وتربيتهم عليها لتكون سلوكهم المعهود وديدنهم الدائم في تعاملهم مع كلِّ من حولهم في شتَّى المواقف والأحوال، ومصداقٌ على أنَّ من الغايات السَّامية من إرسال الرُّسل والأنبياء -عليهم السَّلام- تعزيز الأخلاق الحسنة ونبذ الأخلاق السَّيئة وتركها، ما روي عن النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه قال: (إنَّما بُعِثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ)،[١] وقد ذكرت آياتٌ من القرآن الكريم وأحاديثٌ نبويَّةٌ شريفةٌ الأخلاق الكريمة والسُّلوكيَّات القويمة، وحثّت عليها، وبيّنت فضلها وثوابها، وأخرى ذكرت الأخلاق السَّيئة والسُّلوكيَّات الذَّميمة وحذّرت منها وبيّنت عاقبتها وعقاب الله المترتِّب عليها، وتالياً ذكرٌ لأحد هذه الأخلاق الحسنة التي بيّنها الحديث الشريف، وهو نفع النَّاس، وحديثٌ عن فضل هذا الخلق وثمرته وأثره في الفرد والمجتمع. خير النَّاس أنفعهم للنَّاس وردت أحاديثٌ شريفةٌ عن النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- فيها بيان التفضيل والخيريَّة لأصنافٍ من النَّاس أو أفعالٍ وأعمال، ومن بينها الحديث الذي يذكر خير النَّاس، فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه قال: (المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير النَّاس أنفعهم للنَّاس)،[٢] وورد في روايةٍ أخرى لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه قال: (أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، ولأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ، يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا، ومَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ، ومَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، ولَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ، ومَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ، وإِنَّ سُوءَ الخُلُقِ يُفْسِدُ العَمَلَ، كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ).[٣] والمعنى المراد في هذا الحديث الشَّريف أنَّ أشرف عباد الله تعالى وأحبَّهم إليه من كان أكثر نفعاً لعباده الآخرين، ويكون نفعه لهم بما يسديه إليهم من معروفٍٍ وما يقدِّمه لهم من نِعمٍ، وما يدفعه عنهم من شرورٍ ونِقم، وما يسعى في قضاء حوائجهم، والتَّخفيف عنهم، والوقوف معهم، وعونهم،[٤] فمن كان حريصاً على كلِّ ذلك كان من خير النَّاس وأحبِّهم إلى الله تعالى. ثمرة نفع النَّاس ومعاونتهم جاءت كثيرٌ من النُّصوص الشرعيَّة حاثَّةً على التعاضد والتَّآخي وإسداء المعروف، ومدِّ يد العون لمن يحتاج، ومن ذلك قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).[٥] ولنفع الآخرين ومعونتهم ثمراتٌ وآثارٌ تعود على الفرد بوجهٍ خاصٍ وعلى المجتمع كلِّه بوجهٍ عامٍّ، ومن هذه الثَّمرات والآثار:[٦] إشاعة الألفة والمحبَّة بين النَّاس. إزالة أسباب التَّحاسد وبواعث الحقد والبغضاء من نفوس النَّاس. تحقيق معاني الأخوة الإسلاميَّة والإنسانيَّة. تحصيل محبة الله تعالى، والفوز برضوانه وجنَّته. ومن الجدير بالذِّكر أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يكون مع العبد الذي يخدم عباده الآخرين ويعينهم، فينصره ويسدِّده ويعينه، ويقف معه في كلِّ موقفٍ، وليس أدلَّ على ذلك شاهداً ومثلاً من قول أمِّ المؤمنين خديجة بنت خويلدٍ -رضي الله عنها- للنَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- حين عاد خائفاً مرتجفاً بعد نزول الوحي جبريل -عليه السَّلام- عليه لأول مرَّةٍ في غار حراء، حيث طمأنته بأنَّ حسن أخلاقه مع النَّاس وتعامله الطَّيِّب معهم وإعانته لهم سببٌ لعدم تخلِّي الله تعالى عنه، ونصرتته له، كما جاء في الحديث: (...وقال: قد خَشِيتُ عَلَى نفسي، فقالَتْ له: كَلَّا، أَبْشِرْ، فواللَّهِ لا يُخْزيك اللَّهُ أبدًا، إنك لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحديثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْري الضيفَ، وَتُعينُ عَلَى نَوائبِ الحَقِّ...).[٧] وقد جاء الحديث الشَّريف مؤكداً أنَّ عون العبد لأخيه تقابله معونة الله تعالى له، وتفريج العبد لكربة أخيه يقابله تفريج الله تعالى لكربته يوم القيامة، وتيسير العبد على غيره في شأنٍ من شؤونهم يوازيه تيسيرٌ من الله تعالى لأمور العبد في الدنيا والآخرة، ومصداق ذلك ما أخرجه مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- قال: (من نفَّسَ عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَبِ الدنيا، نفَّسَ اللهُ عنه كُربةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومن يسّرَ على معسرٍ، يسّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرةِ، ومن سترَ مسلمًا، ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ، واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه)،[٨] والكربة الحزن والهمُّ والضيق، وعون العبد لأخيه يكون بالمال والعلم والنصح والمشورة وغيرها من وجوه العون، وفي الحديث الشَّريف دليلٌ على أنَّ الجزاء من جنس العمل؛ فمن أعان يُعان، ومن ستر غيره يُكافأ بستر الله تعالى له، ومن فرّج كرباً يُجازى بتفريج كربته، ومن يسَّر على غيره يسر الله تعالى له وعليه في كلِّ أموره وشؤونه.[٦]