الدار الدنيا دار صراع، فلن يهنأ لإنسان فيها بال، ولن يدوم له فيها حال؛ فهو في معركة دائمة، قد يخفت ضجيجها حينًا، لكنه ما يلبث أن يعلو مرة أخرى.
هذه المعركة قد تكون من أجل البناء، أو من أجل الهدم.
فبناء القيَم والنُّظم والحضارات يحتاج إلى معركة وبأس شديد، وكذا هدم العقائد الفاسدة والأفكار الهدَّامة والحضارات المنحرفة يحتاج إلى جَلَد وطول نفَس وصبر ومثابرة؛ إذ لن يمكِّنك عدوك أو خصمك من أخذ نفَسك للبناء، ولن يغفل عنك لحظة، ولن يألو جهدًا في هدم بنيانك، وهو لن يتركك تهدم له ما شيَّده حتى وإن كان باطلاً.
هي معارك متلاحقة لا ينطفئ أوارها.
هذه المعارك بمستوياتها ودوائرها وأطرافها هي التجلي التام لابتلاء الله لخلقه وامتحانه لهم؛ لينماز الناس بين مؤمن وكافر، بين مهتد وضال، بين مطيع وعاص وكافر، بين ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات، بين صالح ومصلح وفاسد ومفسد، بين من هو في حزب الله أو في حزب الشيطان.
يقول -تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7].
«والبَلاءُ يكون في الخير والشر، يقال: ابْتَلَيته بلاءً حسنًا وبَلاءً سيئًا، والله -تعالى- يُبْلي العبدَ بَلاءً حسنًا ويُبْلِيه بلاءً سيئًا»([1]).
فالابتلاء قد يكون منحة، وقد يكون محنة، قد يكون خيرًا، وقد يكون شرًّا، قد يكون بما تحبُّ، وقد يكون بما تكره، قال -تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، أي: «نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة»([2]).
فالتمكين في الأرض ابتلاء، والاستدراج ابتلاء... إلخ.
ورغم هذا الوضوح القرآني في أمر الابتلاء، وأنه بالخير والشر، إلا أن المفهوم المستقر في الأذهان الآن هو أنه عند إطلاق لفظ الابتلاء يكون فقط في المصائب والشدائد والرزايا.
وهذا لأن الإنسان يغفل عن النعمة حتى تزول منه زوالاً مؤقتًا أو دائمًا.
فلا يعرف قيمة الصحة إلا بالمرض، ولا الحرية إلا بالحبس والقهر والقيد، ولا الأمان إلا بالخوف... إلخ.
لكن في العموم فإن الصحة بلاء كما أن المرض بلاء... إلخ، فينظر الله ماذا نصنع في كل أحوالنا.
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2].
فالابتلاء سُنة الله الماضية في خلقه.
ولا يذكر الإنسان إلا الابتلاء بالشر، وينسى وقت النعمة أنها ابتلاء كذلك، يقول -تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51].
أنوع البلاء
البلاء نوعان:
1- الابتلاء العام لكل البشر: فلا تخلو حياة الإنسان من مشاق ومصاعب وشدائد معاناة تطوف عليه من حينٍ لآخر، قال -تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].
فالبلاء على الإنسان بما يكره متجدِّد متعدِّد، يأخذ أشكالاً وأنواعًا وألوانًا، يطول حينًا، ويقصر أحيانًا.
ولكل إنسان نصيبه من البلاء بما يكره، مدركٌ ذلك لا محالة.
2- الابتلاء الخاص للمؤمنين: إذا كانت المشقة عامة على البشر كلهم، فلا يهنأ عيش الإنسان من ميلاده حتى وفاته؛ إذ لابد من المنغصات والكدورات، إلا أن المؤمنين لهم خصيصة أن المشقة عليهم زائدة، والمعاناة وافرة، يقول -تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
قال ابن عباس: «أخبر الله -سبحانه- المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر، وبشرَّهم فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، ثم أخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه وصفوته يطيِّب نفوسهم فقال: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214]، وأما {الْبَأْسَاءُ} البأساء: فالفقر، {وَالضَّرَّاءُ}: فالسقم، {وَزُلْزِلُوا}: بالفتن وأذى الناس إياهم»([3]).
والسُّنة النبوية أكَّدت على ذلك، وأفادت أن المؤمنين في الدنيا لهم حال مغاير لحال الكافرين؛ فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»([4]).
وفي هذا المعنى جاء هذا الأثر عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم: «الدنيا لا تصفو لمؤمن؛ كيف وهي سجنه وبلاؤه»([5]).
والابتلاء بالمصائب قد يكون:
1- عقوبة على الذنوب: يقول -تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
يقول الطبري: «وما يصيبكم -أيها الناس- من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} يقول: فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم، فلا يعاقبكم بها»([6]).
2- تكفيرًا للسيئات: يقول صلوات الله وتسليماته عليه: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا»([7]).
3- رفعًا للدرجات: الأنبياء هم صفوة الله من خلقه، وقد أصيبوا في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وأهلهم، وأوذوا أشد الإيذاء، ولم يكن هذا البلاء لمعاص وكبائر اقترفوها فعوقبوا بما ابتلوا به، ولم يكن لهم سيئات حتى تكون المصائب والبلايا لتكفيرها، بل إن سيد ولد آدم -عليه أفضل الصلاة والسلام- قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يبق إلا أن تكون هذه البلايا والرزايا والمصائب زيادة ورفعة لهم في درجاتهم.
عن سعد بن أبي وقاص قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟
فَقَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ رَقِيقَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ ذَاكَ، وَإِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ ذَاكَ، قَالَ: فَمَا تَزَالُ الْبَلايَا بِالرَّجُلِ حَتَّى يَمْشِيَ فِي الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»([8]).
فالابتلاء بالمصائب تبلِّغ بعض المؤمنين منازل لن يبلغوها بأعمالهم، فأراد الله أن يبلِّغهم تلك المنازل العليا، فصب عليهم البلاء صبًّا، وقابل هؤلاء المؤمنون فعل الله معهم بالتسليم المطلق لقضائه سبحانه، والرضا التام عن الله -تعالى؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل تكون له المنزلة عند الله فما يبلغها بعمل، فلا يزال يبتليه بما يكره حتى يبلِّغه ذلك»([9]).
بل إن هذه الدرجة يمكن أن نطلق عليها (ابتلاء الكرامة)؛ حيث يكون الابتلاء بالمصائب كرامة من الله لصاحبها؛ فعن أبي فاطمة الضمري قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «من أحب منكم أن يصح فلا يسقم؟»
فابتدرناه فقلنا: نحن، فعرفنا ما في وجهه، ثم قال: «أتريدون أن تكونوا كالحمير الصيالة؟ إن الله -عز وجلَّ- ليبتلي المؤمن بالبلاء، وما يبتليه إلا لكرامته عليه، إن الله يريد أن يبلِّغه منزلة لم يبلغها بشيء من عمله إلا بما يبتليه، فيبلِّغه تلك المنزلة»([10]).
الابتلاء بالخصم
قد يظن من وقعت عليه المصائب أنه مبتلى بهذا الخصم أو العدو الذي أوقع به ما أوقع من نفي أو تضييق أو سجن أو مصادر مال... إلخ، وأن هذا الخصم خلوٌّ من البلاء منه.
لا؛ فالبلاء متبادل بينهما.
فأنت مبتلى بخصمك، وخصمك مبتلى بك؛ فهو يخطط لك ويكيد لك، وأنت غير مستقيم له على طريقة يرضاها.
هو مبتلى بك وتظنه منعَّمًا، لكنه في أرق منك، وخوف دائم من ردة فعلك، أو من قد ينتصر لك؛ فهو لا ينام ملء جفونه، بل إنك تطارده حتى في أحلامه وكوابيسه.
فهذا الحجاج بن يوسف بعد قتله لسعيد بن جبير: "كان إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه فيقول: يا عدو الله، لم قتلتني؟ فيقول: ما لي ولسعيد بن جبير! ما لي ولسعيد بن جبير»([11]).
وكما أن الدعوات والرسالات تُبتلى بالمخالفين، فكذا المخالفون يُبتلون بها؛ فقد خطب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- خطبة في أصحابه قال فيها: «... وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك...»([12]).
فالابتلاءات بالمصائب كاشفة عن المواقف، وعن الإيمان والمعتقدات، وعن مكنونات النفوس، وهي تصقل النفس وتُظهر معدنها الحقيقي.
ولولا المصائب لما ثبتت لأحد دعوى؛ فالكل يدعي الشجاعة والثبات والبذل والتضحية... إلخ، ولا يمكن إثبات تلك الدعاوى إلا بالمواقف الكاشفة؛ فتظهر الشجاعة وقت الحروب، والثبات وقت الأزمات... إلخ.
وصدق المتنبي حين قال:
وإذا ما خَلاَ الْجَبانُ بأَرْضٍ *** طَلَبَ الطعْنَ وَحْدَه والنّزالاَ
فالابتلاءات ليست سُنة الله في الدعوات فحسب؛ فهذا تضييق لها، بل هي سُنة الله في خلقه أجمعين مؤمنهم وكافرهم، إلا أنها تزداد وتشتد على أهل الحقِّ ليتمحصوا وليحدث التمايز بين الخلق.
___________________________________________________________
([1]) لسان العرب، لابن منظور، 14/83.
([2]) تفسير الطبري، 18/440.
([3]) شعب الإيمان، للبيهقي، 7/116.
([4]) أخرجه مسلم في «الزهد والرقائق»، (4/2272)، ح(2956) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه.
([5]) أخرجه الديلمي في «الفردوس بمأثور الخطاب»، (2/229)، ح(3105)، وقال العجلوني في «كشف الخفاء»، (1/410)، ح(1317): «ابن لال عن عائشة، قال ابن الغرس نقلاً عن شيخه: حديث حسن لغيره»، لكن الألباني قال في «السلسلة الضعيفة والموضوعة»، (8 /110): «ضعيف جدًّا».
([6]) تفسير الطبري، 21/538.
([7]) أخرجه البخاري في «المرضى»، باب: «مَا جَاءَ فِي كَفَّارَةِ الْمَرَضِ...»، (7/114)، ح(5640) من حديث عائشة -رضي الله عنها.
([8]) أخرجه أحمد في «المسند»، (3/87)، ح(1494)، وقال شعيب الأرناؤوط: «إسناده حسن».
([9]) أخرجه الحاكم في «المستدرك»، (1/495)، ح(1274)، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه»، وسكت عنه الذهبي.
([10]) أخرجه أبو نعيم في «معرفة الصحابة»، (6/2987)، ح(6949)، وقد ضعَّفه الألباني في «ضعيف الجامع»، (1/239)، ح(1648).
([11]) تاريخ الطبري، 6/491.
([12]) أخرجه مسلم في «الجنَّة وصفة نعيمها وأهلها»، باب: «الصِّفَاتِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ»، (4/2197)، ح(2865) من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ رضي الله عنه.