تحدثنا في السابق عن مدى البطش والتعذيب الذي تعرض له المسلمون في مكة، والحكمة الإلهية والفوائد التربوية من تحملهم هذا الابتلاء، وإحجام الرسول صلى الله عليه وسلم على صدِّ هذا الأذى في تلك الفترة، وصبر المؤمنين العظيم في تحمل البطش والابتلاء الشديد في مكة طوال تلك المرحلة الهامة في عمر الدعوة الإسلامية.
ثم يأتي سؤال مهم!
هل معنى ما سبق أنَّ المسلمين لا يحزنون على ما يتعرَّضون له من آلام؛ ما دام أنَّ هذا قدر مقدور، وما دام أنَّ مِن ورائه حكمة بالغة؟ وهل معنى أنَّنا لا نُريد يأسًا أو إحباطًا وأنَّنا على يقين من نصر الله لنا في النهاية، أننا لن نُظهر ألَمًا أو غمًّا نتيجة الضغوط التي تُمارَس علينا؟
إننا في الواقع لن نخرج أبدًا عن بشريَّتنا التي خلقها الله عز وجل، ولن نتصرَّف بعيدًا عن فطرتنا التي فطرنا الله عليها.
إنَّ البشر جميعًا يتألَّمون لمصابهم، ويحزنون لآلامهم، ويبكون على فراق أحبابهم، ويشتاقون لرؤية مرضاهم أصحَّاء، ولرؤية مبتليهم معافين.. ونحن -كعامَّة البشر- نشعر بما يشعرون به، والإسلام دينٌ لا يصطدم مع الفطرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حَزِنَ في حياته كثيرًا، وتألَّم في كثير من المواقف تألُّمـًا وصل به إلى البكاء؛ بل إلى النحيب والنشيج، فهو في النهاية بشر، والصحابة كذلك؛ ولذلك فمقبولٌ جدًّا أن نحزن في مثل هذه المراحل الصعبة من تاريخ الدعوة، التي نرى فيها المسلمين يُضطهدون ويُعَذَّبون، ونرى أهل الباطل يُمَكَّنون ويُسيطرون.. إنه من الطبيعي أن نحزن؛ ولكننا عندما نحزن نفعل ذلك بضوابط الشريعة، فلا يدفعنا الحزن إلى اليأس، ولا يُشَكِّكنا في قدرة الله، ولا نرتكب معه شيئًا نهى الله عنه، ولا نُخالف في صغيرة ولا كبيرة؛ بل يبقى القلب مطمئنًّا إلى قدر الله تعالى، وراضيًا بما قَسَم الله عز وجل، ولقد نَقَلَتْ لنا كتب السيرة مواقف تُشير إلى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الفترات، التي اشتدَّ فيها التكذيب، وقويت فيها شوكة الكافرين، واضطُهد فيها المسلمون اضطهادًا شديدًا.. نقلت لنا السيرة النبوية هذه المواقف لتُثبت لنا بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ولِتجعل من حزننا في هذه المواقف سُنَّةً من السنن نُقَلِّد فيها نبيَّنا صلى الله عليه وسلم؛ وذلك عند تَعَرُّض الدعوة والإسلام لهذه الظروف.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ قَدْ خُضِّبَ بِالدِّمَاءِ، قَدْ ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: «فَعَلَ بِي هَؤُلَاءِ وَفَعَلُوا». قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: «نَعَمْ، أَرِنِي». فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي، قَالَ: ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ. فَدَعَاهَا، فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: قُلْ لَهَا فَلْتَرْجِعْ. فَقَالَ لَهَا فَرَجَعَتْ حَتَّى عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «حَسْبِي»[1].
إنه موقف مؤثِّر حقًّا!
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى آيات جديدة حتى يَثْبُت أو يطمئنَّ، فهو على هذا اليقين العظيم من أول بعثته وإلى آخر حياته؛ لكنه حزين لما يفعل قومه به، فأراد الله عز وجل أن يُسلِّيَه في حزنه، فأرسل له جبريل عليه السلام ليُريه هذه الآية العجيبة، فسُرِّيَ عنه صلى الله عليه وسلم.
وفي موقف آخر يشعر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحزن الشديد لتهجُّم المشركين عليه، واستهزائهم به، والاستهزاء أمر بغيض سفيه لا يستطيع الحلماء والعقلاء التعامل معه بسهولة؛ لأنهم يتعاملون بالمنطق والحجَّة، والسفيه لا يردُّه منطق، ولا تُقنعه حُجَّة؛ ومن هنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحليم العاقل الخلوق لم يكن يجد ما يمكن أن يفعله مع هؤلاء المستهزئين، فلمَّا جاءه جبريل عليه السلام شكاهم إليه، وأظهر حزنه منهم، فما كان من جبريل عليه السلام -بأمر من الله- إلَّا أن أشار له إلى عاقبة هؤلاء المستهزئين، كل على حدة؛ وذلك حتى يُخْرِج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حزنه، ويُلَطِّف عليه ألمه، فكان هذا الموقف الخالد.
روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر: 95] قال: «الْمُسْتَهْزِئُونَ[2] الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري و الأسود بن المطلب أَبُو زَمْعَةَ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، و الحارث بن عيطل السهمي ، و العاص بن وائل ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فشَكَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرَاهُ الْوَلِيدَ أَبَا عَمْرِو بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَأَوْمَأَ جِبْرِيلُ إِلَى أَبْجَلِهِ[3]، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟». قَالَ: كُفِيتَهُ. ثمَّ أَرَاهُ الأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، فَأَوْمَأَ جِبْرِيلُ إِلَى عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟». قَالَ: كُفِيتَهُ. ثمَّ أَرَاهُ الأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيَّ، فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟». قَالَ: كُفِيتَهُ. ثمَّ أَرَاهُ الْحَارِثَ بْنَ عَيْطَلٍ السَّهْمِيَّ، فَأَوَمَأَ إِلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟» قَالَ: كُفِيتَهُ. وَمَرَّ بِهِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، فَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمَصِهِ[4]، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟». قَالَ: كُفِيتَهُ. فَأَمَّا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ يَرِيشُ نَبْلًا[5] لَهُ فَأَصَابَ أَبْجَلَهُ فَقَطَعَهَا، وَأَمَّا الأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَعَمِيَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَمِيَ هَكَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: نَزَلَ تَحْتَ سَمُرَةٍ[6]، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ أَلَا تَدْفَعُونَ عَنِّي قَدْ قُتِلْتُ. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شَيْئًا. وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ أَلَا تَمْنَعُونَ عَنِّي قَدْ هَلَكْتُ، هَا هُوَ ذَا أُطْعَنُ بِالشَّوْكِ فِي عَيْنِي. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شيئًا. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى عَمِيَتْ عَيْنَاهُ، وَأَمَّا الأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ فَخَرَجَ فِي رَأْسِهِ قُرُوحٌ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ عَيْطَلٍ فَأَخَذَهُ الْمَاءُ الأَصْفَرُ[7] فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ خُرْؤُهُ[8] مِنْ فِيهِ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ يومًا إِذَ دَخَلَ فِي رَأْسِهِ شِبْرِقَةٌ[9] حَتَّى امْتَلأَتْ[10] مِنْهَا فَمَاتَ مِنْهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: فَرَكِبَ إِلَى الطَّائِفِ عَلَى حِمَارٍ فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شِبْرِقَةٍ فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ»[11].
هذه المواقف السابقة تدلُّ على حُزن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشديد في هذه الفترة، ومع ذلك فحزنه هذا لم يمنعه من العمل، ولم يُوقفه عن الحركة؛ بل على العكس من ذلك؛ فقد حوَّل هذا الحزن إلى طاقة تدفعه إلى مزيد من النشاط؛ لكي يصل بكلمته بصورة أكبر إلى كل إنسان يمكن أن يصل إليه؛ سواء من أهل مكة، أم من زوَّارها، وهذا هو المطلوب من الداعية.
ومع أنَّ هذا الحزن كان يُمكن أن يُظَلِّل العهد المكي كلَّه؛ خاصَّةً مرحلة البطش والتعذيب، فإنَّ من لُطْفِ الله عز وجل أنَّه كان يرزق المؤمنين بعض المواقف التي تُسعدهم، وتُدخل السرور الكبير على نفوسهم، وهذا مثل بعض صور النصر غير التقليدية! وهذا ما سنُفصِّله في المقال القادم بإذن الله تعالى.
________________________________________
[1] ابن ماجه (4028)، أحمد (12133)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده قوي على شرط مسلم. والدارمي (23)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح. وأبو يعلى (3685)، وابن أبي شيبة: المصنف 6/317 (31732)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح. انظر: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه 4/189، وصححه الألباني، انظر: صحيح السيرة النبوية ص138، 139، وأكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/152، وصالح بن طه: سبل السلام 1/ 104، والفالوذة: الموسوعة في صحيح السيرة النبوية (العهد المكي) ص39، 305.
[2] للمزيد عن المستهزئين انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/667، 673، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 2/460-470.
[3] الأَبْجَل: عِرْق في باطن الذراع، وقيل: هو عرق غليظ في الرِّجل فيما بين العصب والعظم.
[4] الأخمص: باطن القدم الذي يتجافى عن الأرض.
[5] يريش السهم: يُرَكِّب عليه الريش.
[6] سمرة: نوع من شجر الطلح، وقيل: هو من الشَّجَرِ صغار الورق قِصار الشوك.
[7] الماء الأصفر: هو حالة مرضية تسمى اليرقان تمنع الصفراء من بلوغ المعي بسهولة، فتختلط بالدم. انظر: المعجم الوسيط 2/1064.
[8] الخرء: العذرة والغائط، وهو ما يطرحه الجهاز الهضمي من فضلات الطعام.
[9] الشبرقة: نبت حجازيٌّ له شوك.
[10] امتلأت: انتفخت وورمت.
[11] الطبراني: المعجم الأوسط (4986)، وأبو نعيم: دلائل النبوة (203)، والبيهقي: دلائل النبوة 2/318، وأبو القاسم إسماعيل الأصبهاني: دلائل النبوة ص63، والضياء المقدسي: الأحاديث المختارة 10/96، والسهيلي: الروض الأنف 4/5 وما بعدها، والكلاعي: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء 1/241، وقال الذهبي: حديث صحيح. انظر: تاريخ الإسلام 1/225، وابن كثير: البداية والنهاية 3/130، وابن إسحاق: السير والمغازي ص273، وابن هشام: السيرة النبوية 1/408، وقال السيوطي: وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل وابن مردويه بسند حسن والضياء في المختارة عن ابن عباس رضي الله عنهما... انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5/101، وذكره الصالحي قال: وروى أبو نعيم والبيهقي وصححه الضياء في المختارة عن ابن عباس رضي الله عنهما... انظر: سبل الهدى والرشاد 10/254.
د. راغب السرجاني
ثم يأتي سؤال مهم!
هل معنى ما سبق أنَّ المسلمين لا يحزنون على ما يتعرَّضون له من آلام؛ ما دام أنَّ هذا قدر مقدور، وما دام أنَّ مِن ورائه حكمة بالغة؟ وهل معنى أنَّنا لا نُريد يأسًا أو إحباطًا وأنَّنا على يقين من نصر الله لنا في النهاية، أننا لن نُظهر ألَمًا أو غمًّا نتيجة الضغوط التي تُمارَس علينا؟
إننا في الواقع لن نخرج أبدًا عن بشريَّتنا التي خلقها الله عز وجل، ولن نتصرَّف بعيدًا عن فطرتنا التي فطرنا الله عليها.
إنَّ البشر جميعًا يتألَّمون لمصابهم، ويحزنون لآلامهم، ويبكون على فراق أحبابهم، ويشتاقون لرؤية مرضاهم أصحَّاء، ولرؤية مبتليهم معافين.. ونحن -كعامَّة البشر- نشعر بما يشعرون به، والإسلام دينٌ لا يصطدم مع الفطرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حَزِنَ في حياته كثيرًا، وتألَّم في كثير من المواقف تألُّمـًا وصل به إلى البكاء؛ بل إلى النحيب والنشيج، فهو في النهاية بشر، والصحابة كذلك؛ ولذلك فمقبولٌ جدًّا أن نحزن في مثل هذه المراحل الصعبة من تاريخ الدعوة، التي نرى فيها المسلمين يُضطهدون ويُعَذَّبون، ونرى أهل الباطل يُمَكَّنون ويُسيطرون.. إنه من الطبيعي أن نحزن؛ ولكننا عندما نحزن نفعل ذلك بضوابط الشريعة، فلا يدفعنا الحزن إلى اليأس، ولا يُشَكِّكنا في قدرة الله، ولا نرتكب معه شيئًا نهى الله عنه، ولا نُخالف في صغيرة ولا كبيرة؛ بل يبقى القلب مطمئنًّا إلى قدر الله تعالى، وراضيًا بما قَسَم الله عز وجل، ولقد نَقَلَتْ لنا كتب السيرة مواقف تُشير إلى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الفترات، التي اشتدَّ فيها التكذيب، وقويت فيها شوكة الكافرين، واضطُهد فيها المسلمون اضطهادًا شديدًا.. نقلت لنا السيرة النبوية هذه المواقف لتُثبت لنا بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ولِتجعل من حزننا في هذه المواقف سُنَّةً من السنن نُقَلِّد فيها نبيَّنا صلى الله عليه وسلم؛ وذلك عند تَعَرُّض الدعوة والإسلام لهذه الظروف.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ قَدْ خُضِّبَ بِالدِّمَاءِ، قَدْ ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: «فَعَلَ بِي هَؤُلَاءِ وَفَعَلُوا». قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: «نَعَمْ، أَرِنِي». فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي، قَالَ: ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ. فَدَعَاهَا، فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: قُلْ لَهَا فَلْتَرْجِعْ. فَقَالَ لَهَا فَرَجَعَتْ حَتَّى عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «حَسْبِي»[1].
إنه موقف مؤثِّر حقًّا!
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى آيات جديدة حتى يَثْبُت أو يطمئنَّ، فهو على هذا اليقين العظيم من أول بعثته وإلى آخر حياته؛ لكنه حزين لما يفعل قومه به، فأراد الله عز وجل أن يُسلِّيَه في حزنه، فأرسل له جبريل عليه السلام ليُريه هذه الآية العجيبة، فسُرِّيَ عنه صلى الله عليه وسلم.
وفي موقف آخر يشعر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحزن الشديد لتهجُّم المشركين عليه، واستهزائهم به، والاستهزاء أمر بغيض سفيه لا يستطيع الحلماء والعقلاء التعامل معه بسهولة؛ لأنهم يتعاملون بالمنطق والحجَّة، والسفيه لا يردُّه منطق، ولا تُقنعه حُجَّة؛ ومن هنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحليم العاقل الخلوق لم يكن يجد ما يمكن أن يفعله مع هؤلاء المستهزئين، فلمَّا جاءه جبريل عليه السلام شكاهم إليه، وأظهر حزنه منهم، فما كان من جبريل عليه السلام -بأمر من الله- إلَّا أن أشار له إلى عاقبة هؤلاء المستهزئين، كل على حدة؛ وذلك حتى يُخْرِج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حزنه، ويُلَطِّف عليه ألمه، فكان هذا الموقف الخالد.
روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر: 95] قال: «الْمُسْتَهْزِئُونَ[2] الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري و الأسود بن المطلب أَبُو زَمْعَةَ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، و الحارث بن عيطل السهمي ، و العاص بن وائل ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فشَكَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرَاهُ الْوَلِيدَ أَبَا عَمْرِو بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَأَوْمَأَ جِبْرِيلُ إِلَى أَبْجَلِهِ[3]، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟». قَالَ: كُفِيتَهُ. ثمَّ أَرَاهُ الأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، فَأَوْمَأَ جِبْرِيلُ إِلَى عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟». قَالَ: كُفِيتَهُ. ثمَّ أَرَاهُ الأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيَّ، فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟». قَالَ: كُفِيتَهُ. ثمَّ أَرَاهُ الْحَارِثَ بْنَ عَيْطَلٍ السَّهْمِيَّ، فَأَوَمَأَ إِلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟» قَالَ: كُفِيتَهُ. وَمَرَّ بِهِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، فَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمَصِهِ[4]، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟». قَالَ: كُفِيتَهُ. فَأَمَّا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ يَرِيشُ نَبْلًا[5] لَهُ فَأَصَابَ أَبْجَلَهُ فَقَطَعَهَا، وَأَمَّا الأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَعَمِيَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَمِيَ هَكَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: نَزَلَ تَحْتَ سَمُرَةٍ[6]، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ أَلَا تَدْفَعُونَ عَنِّي قَدْ قُتِلْتُ. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شَيْئًا. وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ أَلَا تَمْنَعُونَ عَنِّي قَدْ هَلَكْتُ، هَا هُوَ ذَا أُطْعَنُ بِالشَّوْكِ فِي عَيْنِي. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شيئًا. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى عَمِيَتْ عَيْنَاهُ، وَأَمَّا الأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ فَخَرَجَ فِي رَأْسِهِ قُرُوحٌ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ عَيْطَلٍ فَأَخَذَهُ الْمَاءُ الأَصْفَرُ[7] فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ خُرْؤُهُ[8] مِنْ فِيهِ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ يومًا إِذَ دَخَلَ فِي رَأْسِهِ شِبْرِقَةٌ[9] حَتَّى امْتَلأَتْ[10] مِنْهَا فَمَاتَ مِنْهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: فَرَكِبَ إِلَى الطَّائِفِ عَلَى حِمَارٍ فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شِبْرِقَةٍ فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ»[11].
هذه المواقف السابقة تدلُّ على حُزن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشديد في هذه الفترة، ومع ذلك فحزنه هذا لم يمنعه من العمل، ولم يُوقفه عن الحركة؛ بل على العكس من ذلك؛ فقد حوَّل هذا الحزن إلى طاقة تدفعه إلى مزيد من النشاط؛ لكي يصل بكلمته بصورة أكبر إلى كل إنسان يمكن أن يصل إليه؛ سواء من أهل مكة، أم من زوَّارها، وهذا هو المطلوب من الداعية.
ومع أنَّ هذا الحزن كان يُمكن أن يُظَلِّل العهد المكي كلَّه؛ خاصَّةً مرحلة البطش والتعذيب، فإنَّ من لُطْفِ الله عز وجل أنَّه كان يرزق المؤمنين بعض المواقف التي تُسعدهم، وتُدخل السرور الكبير على نفوسهم، وهذا مثل بعض صور النصر غير التقليدية! وهذا ما سنُفصِّله في المقال القادم بإذن الله تعالى.
________________________________________
[1] ابن ماجه (4028)، أحمد (12133)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده قوي على شرط مسلم. والدارمي (23)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح. وأبو يعلى (3685)، وابن أبي شيبة: المصنف 6/317 (31732)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح. انظر: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه 4/189، وصححه الألباني، انظر: صحيح السيرة النبوية ص138، 139، وأكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/152، وصالح بن طه: سبل السلام 1/ 104، والفالوذة: الموسوعة في صحيح السيرة النبوية (العهد المكي) ص39، 305.
[2] للمزيد عن المستهزئين انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/667، 673، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 2/460-470.
[3] الأَبْجَل: عِرْق في باطن الذراع، وقيل: هو عرق غليظ في الرِّجل فيما بين العصب والعظم.
[4] الأخمص: باطن القدم الذي يتجافى عن الأرض.
[5] يريش السهم: يُرَكِّب عليه الريش.
[6] سمرة: نوع من شجر الطلح، وقيل: هو من الشَّجَرِ صغار الورق قِصار الشوك.
[7] الماء الأصفر: هو حالة مرضية تسمى اليرقان تمنع الصفراء من بلوغ المعي بسهولة، فتختلط بالدم. انظر: المعجم الوسيط 2/1064.
[8] الخرء: العذرة والغائط، وهو ما يطرحه الجهاز الهضمي من فضلات الطعام.
[9] الشبرقة: نبت حجازيٌّ له شوك.
[10] امتلأت: انتفخت وورمت.
[11] الطبراني: المعجم الأوسط (4986)، وأبو نعيم: دلائل النبوة (203)، والبيهقي: دلائل النبوة 2/318، وأبو القاسم إسماعيل الأصبهاني: دلائل النبوة ص63، والضياء المقدسي: الأحاديث المختارة 10/96، والسهيلي: الروض الأنف 4/5 وما بعدها، والكلاعي: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء 1/241، وقال الذهبي: حديث صحيح. انظر: تاريخ الإسلام 1/225، وابن كثير: البداية والنهاية 3/130، وابن إسحاق: السير والمغازي ص273، وابن هشام: السيرة النبوية 1/408، وقال السيوطي: وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل وابن مردويه بسند حسن والضياء في المختارة عن ابن عباس رضي الله عنهما... انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5/101، وذكره الصالحي قال: وروى أبو نعيم والبيهقي وصححه الضياء في المختارة عن ابن عباس رضي الله عنهما... انظر: سبل الهدى والرشاد 10/254.
د. راغب السرجاني