كانت مشيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
مشيةَ رجلٍ مليءٍ حيويةً ونشاطاً، ولذلك كانت أقرب إلى السرعة منها إلا الاعتدال، كما وصفه الواصفون.
ففي صحيح مسلم عن أنس قال: "كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفَّأ"[1].
وعند أبي داود عن لقيط بن صبرة، أنه أتى عائشة يطلب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجده، فلم ينشب أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلع، يتكفأ[2].
وعند الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤًا كأنما انحطَّ من صبب"[3].
وعن أبي الطفيل قال: "كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما يهوي من صبوب"[4].
وهذه النصوص وغيرها تسجل لنا الأمور الآتية.
1- القوة والنشاط وشيء من السرعة، وهذا معنى "كأنما انحط من صبب" فالذي يهبط من أعلى إلى أسفل هذه صفته.
2- والتقلع، يعني القوة في المشي، والارتفاع من الأرض.
3- أنه يرفع قدمه عن الأرض ثم يضعها، ولا يمسح قدميه على الأرض مسحًا. وهذا ما فسرت به كلمة يتكفأ.
وهذه المشية وسط بين مشيتين، فلا هي مشية التماوت، ولا هي مشية من يمشي بانزعاج واضطراب. ولا هي مشية التكبر والتعالي.
إنها المشية التي وصف القرآن بها عباد الرحمن في قوله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾[5].
قال سيد قطب - رحمه الله تعالى -: "إنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة، ليس فيها تكلف ولا تصنع، وليس فيها خيلاء ولا تنفج، ولا تصعير خد، ولا تخلع أو ترهل، فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية، وعما يستكن فيها من مشاعر، والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة، فيها وقار وسكينة، وفيها جد وقوة، وليس معنى ﴿ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس، متداعي الأركان، متهاوي البنيان، كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح.."[6].
وقال ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير الآية الكريمة: أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار. كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ﴾[7] الآية، فأما هؤلاء، فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح ولا أشر ولا بطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعًا ورياء، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب وكأنما الأرض تطوى له. وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع حتى روي عن عمر أنه رأى شابًا يمشي رويدًا فقال: ما بالك، أأنت مريض؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة..." انتهى.
ويعدد الإمام ابن القيم عشرة أنواع للمشي، ثم يقول: "وأعدل هذا المشيات مشية الهَوْن والتكفؤ"[8] يعني مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[1] أخرجه مسلم برقم (2330).
[2] أخرجه أبو داود برقم (143).
[3] أخرجه الترمذي برقم (3637).
[4] أخرجه أبو داود برقم (4864).
[5] سورة الفرقان، الآية (63).
[6] في ظلال القرآن في تفسيره الآية الكريمة.
[7] سورة الإسراء، الآية (37) وسورة لقمان، الآية (18).
[8] زاد المعاد (1/ 169).