من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الليالي العشر
وشرف تاج ليالي الدهر
إنَّ الحمدَ لله، نَحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فيا أيها الإخوة المؤمنون، استشعروا وعظِّموا هذه الأيامَ والليالي الكريمة التي مَنَّ الله علينا بإدراكها، فإنها ليالٍ وأيام ليس لها مثلٌ في أيام العام.
أيها الإخوة المؤمنون، كنَّا بالأمس نَستشرف حلول هذا الضيف الكريم، ونتطلَّع إلى بلوغ هذا الشهر الكريم، وقد مَنَّ الله علينا بأن أدركناه، وهيَّأ جل وعلا لمن شاء من عباده أن يكونوا مبادرين بالخيرات، فصاموا نهارَ هذا الشهر الكريم، وقاموا ما شاء الله من لياليه، وتسابق المسلمون في تلاوة كتاب ربهم، وتنافسوا في أعمال الخير، فيا بُشرى من بادر إلى الخيرات، ويا لعظمة مَن بادر إلى هذا الفضل العظيم، إنها نعمةٌ عظمى أن يُوفَّق العبدُ لاجتناءِ الحسنات وكسبِ الفضائل والارتقاءِ في الدرجات؛ لأنَّ هذا هو الذي عليه المعوَّل، وهو الذي ينبغي أن يكون فيه التنافس: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].
إنَّ تنافسَ الناسِ في الدنيا وفي حطامها، إنما هو تنافسٌ في أمرٍ زائل، لكن التنافس الحق يكون فيما يبقى وله العظمةُ الكبرى، وهو بلوغُ رضا الله جل وعلا وحلولُ جنته، ولذا قال جل وعلا: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].
والله سبحانه بيَّن أنَّ التوفيق للطاعات وحبَّها، والأُنس بها - نعمةٌ ومنحةٌ ربَّانية، إنما يوفَّق إليها من أحبَّهم رب العزة سبحانه؛ كما قال جل وعلا: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحجرات: 7، 8].
أيها الإخوة المؤمنون، وها نحن نستشرف حلول أفضل أيام وليالي هذا الشهر الكريم، وهي عَشرهُ الأخيرة، فمن المعلوم أنَّ العشر الأواخر من شهر رمضان هي أفضل لياليه وأيامه، وذلك لأنَّ فيها ليلة القدر التي هي أعظم الليالي وأشرفها؛ كما قال عز من قائل: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وهذه العشر الأخيرة من رمضان لها فضلها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعظِّمُها ويجتهدُ فيها بالعبادة ما لا يجتهدُ في بقية ليالي هذا الشهر الكريم، فقد ثبت في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل العشر، أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ، وشدَّ المئزر.
ومعنى قولها: (شدَّ المئزر)؛ يعني: اجتهد وشمَّر عن ساعد الجدِّ والرغبةِ في العبادة بمزيدٍ عما كان من قبل، وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء، وهذا هو مقتضى ما يكون في الاعتكاف؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم من سُنته الاعتكاف في العشر الأخيرة من رمضان.
وثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أيضًا أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجتهدُ في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.
وفي قولها رضي الله عنها: (إذا دخل العشر أحيا النبي صلى الله عليه وسلم الليل)، المعنى أنَّه يبادر بالطاعات من صلاةٍ وقرآنٍ وذكرٍ ودعاءٍ، وصدقةٍ وغيرها، وأخصُّ ما يكون به إحياء ليل العشر الأواخر هو الصلاة والتهجد، فإنَّ هذه الليالي والليل بعامة محلٌّ لهذه العبادة العظيمة: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]. فالقيام في هذه الليالي فضله عظيم، وله مزيةٌ على ما كان من الليالي السابقة، والسرُّ في هذا أنَّ في هذه العشر ليلةُ القدر، وأنتم تحفظون عن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه)، وهذا حاصلٌ بصلاة التراويح، وتحفظون أيضًا عن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه).
تأمَّل يا عبد الله، تأمَّل قوله عليه الصلاة والسلام: (غُفِر له ما تقدم من ذنبه)، إنها فرصة عظمى ومنحة كبرى، لا يفرِّط فيها إلا محروم، تأمل يا عبد الله، يُقال لك أنك إذا قمت هذه الليلة - وهكذا قيامك رمضان كله - أنك ترجع كيوم ولدتك أُمك، ليس عليك سيئات، إنما يحسب لك الحسنات، إنَّ الذي يفرِّط في هذا متغافلٌ مغبونٌ أعظم الغبن؛ لأنه عرْضٌ كريم ومنحةٌ شريفة من رب كريم.
ثم تأملوا أيضًا أنه جاء في بعض الروايات لهذا الحديث، وهذا الحديث الذي قدمته ثابتٌ في الصحيحين: (مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه)، جاء في رواية عند الإمام أحمد في المسند أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر)، وهذه الرواية إسنادها عند بعض أهل العلم لا بأس به، وفضلُ الله واسع.
تأمَّلوا أيها الإخوة: (غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر)، والمعنى أنَّ الله جل وعلا يمنح هذا العبد السعادةَ الأبدية والحكم له بالجنة، فإنَّه يكون ما بقي في هذه الحياة الدنيا مغفورًا ذنبُه، وذلك بأنْ يوفَّق للطاعات، وأن يُحفَظَ من السيئات، وأنَّه إذا وقع منه خطيئة وزلَّت به القدم أن يوفَّق لعملٍ صالح يمحو هذه السيئات، فلا يلقى ربَّه إلا على عمل صالح، ليست عليه خطيئة ولا سيئة يُحاسب عليها يوم القيامة، يموت وليس عليه خطيئة يحاسب عليها يوم القيامة؛ لأنه قد كُفِّرت سيئاته في الدنيا، فوافى الآخرة سليمًا معافًى من هذه السيئات والموبقات، فما أعظمَه من فضل! وما أشرفَه من أجر! ولا يفرِّط في هذا إلا محرومٌ مغبون.
وقد نصَّ العلماء رحمهم الله على أنَّ تكفير السيئات هنا هو في الصغائر، ذلك أنَّ الكبائر لا بد لها من توبةٍ خاصةٍ بها؛ لأنَّه لا يُتصور من المؤمن أن يكون مقبلًا على الصالحات والأعمال الطيِّبات، وهو مُصِرٌّ على كبيرةٍ من الكبائر، المؤمن منزهٌ عن أن يصرَّ على الكبيرة، فهو قد يقع لأنه غير معصوم، لكنه لا يُتصورُ منه الإصرار وهو على إيمان يؤهِّله لهذه المنزلة العالية، ولذا قال عليه الصلاة والسلام في شأن من يقترفون الكبائر، قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة حين ينتهبها وهو مؤمن)، ذلك أنَّ الإيمان يمنع المسلم من أن يتصف بصفة الكبيرة هذه، فهو بمقتضى إيمانه أن زلَّت به القدم، بادر بالتوبةِ والإنابة، ولا يُتصورُ إصراره على ذلك، وإلا كان في إيمانه ضَعفٌ، وفيه بُعدٌ عن ربه جل وعلا، لا يؤهِّله لهذه المنازل العالية الشريفة.
وفي قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم (أحيا الليل)، وهذا كما تقدم يكون من أعظمِه ومن أبرزِ صوره هو التهجد والصلاة، والمعنى أن يكون معظم الليل في صلاةٍ وعبادةٍ، ولا يصرفه عن ذلك إلا ما لا بد له من طعامٍ وشرابٍ ونحوه، وهذا ما درج عليه عباد الله منذ عصر النبوة إلى يومنا هذا، بما يكون من صلاة التراويح، ومن صلاة الليل في أوله، وما يكون من صلاة الليل في آخره؛ وهي صلاة القيام، ولا يفرِّط فيها إلا محروم.
وإنَّه لمن الأسف الشديد أنَّ كثيرًا منا نحن وأهلينا وأولادنا، ومَن حولنا من أحبَّتنا - يفرِّط في هذا، فتجده ربما جلس في داره ليس وراءه شغلٌ ولا مانعٌ يمنعه من مرضٍ ولا غيره، ويسمع المسلمين يتهجدون في مساجد الله، ثم لا تنبعث نفسُه لأنْ ينال حظَّه وغنيمته من هذا الخير العظيم، وأعظمُ من ذلك مَن يستبدلُ العمل الصالح في هذا الوقت بعمل سيئ؛ بمتابعة الشاشات وما يُعرض فيها من المحرمات، ومن الغبن أيضًا أنَّ بعض الناس يستغرق هذا الوقت في الذهاب للأسواق؛ لقضاء الحاجات وتوفير لوازمه للعيد وغيره، مع أنَّه وقتٌ شريف، وكان الأولى أن يؤجَّل ذلك إلى وقت النهار؛ لأنَّ النهار أقل شرفًا من الليل؛ لأنَّ الليل فيه ليلة القدر، وفيه هذه العبادة العظيمة.
فحريٌّ بالمؤمن ألا يفرِّط في هذا الخير، وفي هذه الفرصة العظمى، وبخاصة أنَّه لا يدري - وقد أدرك هذا العام - أيدرك عامَ قابلٍ أو لا يدركه؟ وبخاصةٍ أيضًا أنَّه لا يدري - وقد أدرك أول الشهر - هل يدرك آخره مع الأحياء، أم أنَّه يكون في بطن قبره؟
وفي قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (وأيقظ أهله)، هذا يُبيِّن ما كان من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في متابعةِ الأهل في شأن الصلاة - صلاة الليل - فإنَّ من هديه عليه الصلاة والسلام أنَّه كان يذكِّر أهل بيته وأزواجه وبناته، بما ينبغي من الصلاة في الليل، لكنَّه ما كان يأمرُهم بعزيمة، وإنما يذكِّرهم كما قال لعلي وفاطمة رضي الله عنهما: (ألا تُصليان).
أما في العشر الأواخر من رمضان، فإنَّه عليه الصلاة والسلام كان يؤكِّد عليهم في قيام الليل بعزيمة، مع اجتهاده عليه الصلاة والسلام، وكان يُوقظ النائمين في الدار؛ لأجل أن يصلوا وينالوا حظَّهم من فضل هذه الليالي.
فحريٌّ بالمؤمن أن ينبِّه على أهل بيته أن يدركوا هذا الفضل، بأن يشهد الذكور الصلاةَ مع المسلمين في المساجد، وهكذا النِّساء أن كنَّ لا يَنشطن إلا بالصلاة في المسجد، وإلا فإنَّ صلاتها في دارها لها فضلٌ كبير، والأجر لها في دارها بإحياء الليل أعظم من أجرها بإحيائه في المسجد مع المسلمين؛ لعموم ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنَّ صلاة المرأة في دارها خيرٌ لها من صلاتها في المسجد، ولكنها إذا كانت لا تنشط إلا بالحضور، وترغب أن يكون لها سماع للقرآن الكريم من تلاوة الإمام، فإنَّه لا بأس عليها في ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله).
والمقصود أيها الإخوة المؤمنون أنَّه ينبغي تذكير الأهل وحثُّهم على الصلاة في هذه الليالي العظيمة، ومن نافلة القول أن يكون التأكيد على الصلوات الفرائض مقدَّمًا على التأكيد على الصلوات النوافل، وقد ذكر الله جل وعلا عن بعض أنبيائه: ﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ ﴾ [مريم: 55]، وهكذا كان هدي نبينا عليه الصلاة والسلام: (الصلاة.. الصلاة)، يكرِّرها على أهل داره، وتقول عائشة رضي الله عنها كان أيضًا من هديه عليه الصلاة والسلام: (جدَّ وشدَّ المئزر)، وهي تؤكِّد في هذا ما كان يسلكه النبي صلى الله عليه وسلم من العنايةِ بهذه العشر الأخيرة من رمضان.
وبعدُ أيها الإخوة المؤمنون، فهذه العشر فرصةٌ لمنْ كان قد فرَّط في أول الشهر أن ينال من الخير الذي فاته ما يختم به شهرَه، والأعمالُ بالخواتيم، يختمه بالخير والطاعة والإقبال على الله جل وعلا، وهو فرصةٌ لمضاعفةِ الثواب لمن قدَّم من الخير ما قدَّم، فهو فضلٌ عظيم وشرفٌ رفيع أن يكون المؤمن من أهل هذه الليالي، ويكون مدركًا لثوابها وفضلها.
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
أيها الإخوة المؤمنون، إنَّ الله جل وعلا قد شرَّف هذه الأمة وعظَّمها، فجعل لها أفضلَ رسلِهِ وأكرمهم محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم، وأنزل على هذه الأمة - على نبيِّها - أفضل كُتبه وأعظمها القرآن الكريم، وخصَّها بأفضل الشرائع وأكملها: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وجعل الله جل وعلا لهذه الأمة من مواسم الشرف وأوقات الفضل - ما يتوالى في كل أيام العام ولياليه، بل في كل ساعة ولحظة، بما جعل الله تعالى من فرصِ المغفرة وإجابة الدعوات، وغير ذلك مما يقرِّب من رب البريات، ويحلُّ المسلم عالي الدرجات في جنة عرضها السموات والأرض.
وهذه الليالي العشر التي أظلتنا ونستقبلها، ونسأل الله بلوغها على خيرٍ وعافية وعلى ما يحبُّه جل وعلا من الطاعة - فيها ليلةٌ مباركة هي تاج ليالي الدهر، ليلة كثيرة البركات، عزيزة الساعات، القليلُ من العمل فيها كثير، والكثيرُ من العمل فيها مضاعف: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3]، وفي هذه الليلة العظيمة ينزل من السماء خلقٌ عظيم لشهود تلك الليلة؛ كما قال جل وعلا: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ [القدر: 4]، القائمُ في هذه الليلة بالتعبُّد مغفورٌ ذنبُه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه).
ليلة فيها تفتح الأبواب، ويُسمع الخطاب، وفيها يصل ربنا جل وعلا من عباده بصلات الخير وحسن العقبى ما لا يخطر على البال، فيعطي الله جل وعلا فيها من عباده ما يشاء سبحانه بما فيه السعادة الأبدية، وهذه الليلة ينبغي للمؤمن أن يكون من جملة عباد الله الذين استشرفوا فضلها، وتحرَّوا خيرها، ومن هؤلاء الصحب الكرام رضي الله عنهم، فإنهم لما سمعوا من نبيهم صلى الله عليه وسلم ما لليلة القدر من الفضل والخير، اجتهدوا في معرفتها حتى يبادروا بالخير، ولذلك كانت الرؤى في مناماتهم تتوالى لشدة حرصهم، ويسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم متى هذه الليلة؟ واستقرَّ من خبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ ليلة القدر في هذه العشر الأواخر من رمضان، وأنها في ليالي الوتر أرجى، وأنها تتنقل من عامٍ إلى آخر في ليلةٍ إلى أخرى، بمعنى أنها قد تكون في عامٍ ليلةَ إحدى وعشرين، وفي عامٍ آخر ليلةَ سبع وعشرين، أو ليلةَ خمسٍ وعشرين، أو غير ذلك من ليالي العشر.
ولذلك قال العلماء: إنها أُخفيت كما أُخفيت أمورٌ أخرى مثل ساعة الإجابة يوم الجمعة، وكذلك غيرها مما أُخْفِي؛ حتى يجتهد أهل الإيمان في تقرُّبهم إلى الله جل وعلا، فينالوا فضل الليلة وفضل الليالي الأُخَر، ولئلا يتَّكل متَّكل بأن يقول: صليت ليلة القدر، ثم يدع العمل، فيسبب له ذلك هلكة بإقباله على السيئات وتركه للطاعات؛ اتِّكالًا على ما كان من عمله، ولكن المؤمن هو الذي يبادر بالخير، ولا يزال محاسبًا نفسه أنها مقصرة، حتى يوافي أجله وهو على عمل صالح.
ومِن حِرصِ الصحابة رضي الله عنهم ما يبيِّنه ما ثبت في جامع الترمذي عن أُمِّنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ يا رسول الله، أرأيت إن علمتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ القدر، ما أقول؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).
وشرف تاج ليالي الدهر
إنَّ الحمدَ لله، نَحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فيا أيها الإخوة المؤمنون، استشعروا وعظِّموا هذه الأيامَ والليالي الكريمة التي مَنَّ الله علينا بإدراكها، فإنها ليالٍ وأيام ليس لها مثلٌ في أيام العام.
أيها الإخوة المؤمنون، كنَّا بالأمس نَستشرف حلول هذا الضيف الكريم، ونتطلَّع إلى بلوغ هذا الشهر الكريم، وقد مَنَّ الله علينا بأن أدركناه، وهيَّأ جل وعلا لمن شاء من عباده أن يكونوا مبادرين بالخيرات، فصاموا نهارَ هذا الشهر الكريم، وقاموا ما شاء الله من لياليه، وتسابق المسلمون في تلاوة كتاب ربهم، وتنافسوا في أعمال الخير، فيا بُشرى من بادر إلى الخيرات، ويا لعظمة مَن بادر إلى هذا الفضل العظيم، إنها نعمةٌ عظمى أن يُوفَّق العبدُ لاجتناءِ الحسنات وكسبِ الفضائل والارتقاءِ في الدرجات؛ لأنَّ هذا هو الذي عليه المعوَّل، وهو الذي ينبغي أن يكون فيه التنافس: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].
إنَّ تنافسَ الناسِ في الدنيا وفي حطامها، إنما هو تنافسٌ في أمرٍ زائل، لكن التنافس الحق يكون فيما يبقى وله العظمةُ الكبرى، وهو بلوغُ رضا الله جل وعلا وحلولُ جنته، ولذا قال جل وعلا: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].
والله سبحانه بيَّن أنَّ التوفيق للطاعات وحبَّها، والأُنس بها - نعمةٌ ومنحةٌ ربَّانية، إنما يوفَّق إليها من أحبَّهم رب العزة سبحانه؛ كما قال جل وعلا: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحجرات: 7، 8].
أيها الإخوة المؤمنون، وها نحن نستشرف حلول أفضل أيام وليالي هذا الشهر الكريم، وهي عَشرهُ الأخيرة، فمن المعلوم أنَّ العشر الأواخر من شهر رمضان هي أفضل لياليه وأيامه، وذلك لأنَّ فيها ليلة القدر التي هي أعظم الليالي وأشرفها؛ كما قال عز من قائل: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وهذه العشر الأخيرة من رمضان لها فضلها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعظِّمُها ويجتهدُ فيها بالعبادة ما لا يجتهدُ في بقية ليالي هذا الشهر الكريم، فقد ثبت في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل العشر، أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ، وشدَّ المئزر.
ومعنى قولها: (شدَّ المئزر)؛ يعني: اجتهد وشمَّر عن ساعد الجدِّ والرغبةِ في العبادة بمزيدٍ عما كان من قبل، وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء، وهذا هو مقتضى ما يكون في الاعتكاف؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم من سُنته الاعتكاف في العشر الأخيرة من رمضان.
وثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أيضًا أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجتهدُ في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.
وفي قولها رضي الله عنها: (إذا دخل العشر أحيا النبي صلى الله عليه وسلم الليل)، المعنى أنَّه يبادر بالطاعات من صلاةٍ وقرآنٍ وذكرٍ ودعاءٍ، وصدقةٍ وغيرها، وأخصُّ ما يكون به إحياء ليل العشر الأواخر هو الصلاة والتهجد، فإنَّ هذه الليالي والليل بعامة محلٌّ لهذه العبادة العظيمة: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]. فالقيام في هذه الليالي فضله عظيم، وله مزيةٌ على ما كان من الليالي السابقة، والسرُّ في هذا أنَّ في هذه العشر ليلةُ القدر، وأنتم تحفظون عن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه)، وهذا حاصلٌ بصلاة التراويح، وتحفظون أيضًا عن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه).
تأمَّل يا عبد الله، تأمَّل قوله عليه الصلاة والسلام: (غُفِر له ما تقدم من ذنبه)، إنها فرصة عظمى ومنحة كبرى، لا يفرِّط فيها إلا محروم، تأمل يا عبد الله، يُقال لك أنك إذا قمت هذه الليلة - وهكذا قيامك رمضان كله - أنك ترجع كيوم ولدتك أُمك، ليس عليك سيئات، إنما يحسب لك الحسنات، إنَّ الذي يفرِّط في هذا متغافلٌ مغبونٌ أعظم الغبن؛ لأنه عرْضٌ كريم ومنحةٌ شريفة من رب كريم.
ثم تأملوا أيضًا أنه جاء في بعض الروايات لهذا الحديث، وهذا الحديث الذي قدمته ثابتٌ في الصحيحين: (مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه)، جاء في رواية عند الإمام أحمد في المسند أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر)، وهذه الرواية إسنادها عند بعض أهل العلم لا بأس به، وفضلُ الله واسع.
تأمَّلوا أيها الإخوة: (غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر)، والمعنى أنَّ الله جل وعلا يمنح هذا العبد السعادةَ الأبدية والحكم له بالجنة، فإنَّه يكون ما بقي في هذه الحياة الدنيا مغفورًا ذنبُه، وذلك بأنْ يوفَّق للطاعات، وأن يُحفَظَ من السيئات، وأنَّه إذا وقع منه خطيئة وزلَّت به القدم أن يوفَّق لعملٍ صالح يمحو هذه السيئات، فلا يلقى ربَّه إلا على عمل صالح، ليست عليه خطيئة ولا سيئة يُحاسب عليها يوم القيامة، يموت وليس عليه خطيئة يحاسب عليها يوم القيامة؛ لأنه قد كُفِّرت سيئاته في الدنيا، فوافى الآخرة سليمًا معافًى من هذه السيئات والموبقات، فما أعظمَه من فضل! وما أشرفَه من أجر! ولا يفرِّط في هذا إلا محرومٌ مغبون.
وقد نصَّ العلماء رحمهم الله على أنَّ تكفير السيئات هنا هو في الصغائر، ذلك أنَّ الكبائر لا بد لها من توبةٍ خاصةٍ بها؛ لأنَّه لا يُتصور من المؤمن أن يكون مقبلًا على الصالحات والأعمال الطيِّبات، وهو مُصِرٌّ على كبيرةٍ من الكبائر، المؤمن منزهٌ عن أن يصرَّ على الكبيرة، فهو قد يقع لأنه غير معصوم، لكنه لا يُتصورُ منه الإصرار وهو على إيمان يؤهِّله لهذه المنزلة العالية، ولذا قال عليه الصلاة والسلام في شأن من يقترفون الكبائر، قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة حين ينتهبها وهو مؤمن)، ذلك أنَّ الإيمان يمنع المسلم من أن يتصف بصفة الكبيرة هذه، فهو بمقتضى إيمانه أن زلَّت به القدم، بادر بالتوبةِ والإنابة، ولا يُتصورُ إصراره على ذلك، وإلا كان في إيمانه ضَعفٌ، وفيه بُعدٌ عن ربه جل وعلا، لا يؤهِّله لهذه المنازل العالية الشريفة.
وفي قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم (أحيا الليل)، وهذا كما تقدم يكون من أعظمِه ومن أبرزِ صوره هو التهجد والصلاة، والمعنى أن يكون معظم الليل في صلاةٍ وعبادةٍ، ولا يصرفه عن ذلك إلا ما لا بد له من طعامٍ وشرابٍ ونحوه، وهذا ما درج عليه عباد الله منذ عصر النبوة إلى يومنا هذا، بما يكون من صلاة التراويح، ومن صلاة الليل في أوله، وما يكون من صلاة الليل في آخره؛ وهي صلاة القيام، ولا يفرِّط فيها إلا محروم.
وإنَّه لمن الأسف الشديد أنَّ كثيرًا منا نحن وأهلينا وأولادنا، ومَن حولنا من أحبَّتنا - يفرِّط في هذا، فتجده ربما جلس في داره ليس وراءه شغلٌ ولا مانعٌ يمنعه من مرضٍ ولا غيره، ويسمع المسلمين يتهجدون في مساجد الله، ثم لا تنبعث نفسُه لأنْ ينال حظَّه وغنيمته من هذا الخير العظيم، وأعظمُ من ذلك مَن يستبدلُ العمل الصالح في هذا الوقت بعمل سيئ؛ بمتابعة الشاشات وما يُعرض فيها من المحرمات، ومن الغبن أيضًا أنَّ بعض الناس يستغرق هذا الوقت في الذهاب للأسواق؛ لقضاء الحاجات وتوفير لوازمه للعيد وغيره، مع أنَّه وقتٌ شريف، وكان الأولى أن يؤجَّل ذلك إلى وقت النهار؛ لأنَّ النهار أقل شرفًا من الليل؛ لأنَّ الليل فيه ليلة القدر، وفيه هذه العبادة العظيمة.
فحريٌّ بالمؤمن ألا يفرِّط في هذا الخير، وفي هذه الفرصة العظمى، وبخاصة أنَّه لا يدري - وقد أدرك هذا العام - أيدرك عامَ قابلٍ أو لا يدركه؟ وبخاصةٍ أيضًا أنَّه لا يدري - وقد أدرك أول الشهر - هل يدرك آخره مع الأحياء، أم أنَّه يكون في بطن قبره؟
وفي قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (وأيقظ أهله)، هذا يُبيِّن ما كان من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في متابعةِ الأهل في شأن الصلاة - صلاة الليل - فإنَّ من هديه عليه الصلاة والسلام أنَّه كان يذكِّر أهل بيته وأزواجه وبناته، بما ينبغي من الصلاة في الليل، لكنَّه ما كان يأمرُهم بعزيمة، وإنما يذكِّرهم كما قال لعلي وفاطمة رضي الله عنهما: (ألا تُصليان).
أما في العشر الأواخر من رمضان، فإنَّه عليه الصلاة والسلام كان يؤكِّد عليهم في قيام الليل بعزيمة، مع اجتهاده عليه الصلاة والسلام، وكان يُوقظ النائمين في الدار؛ لأجل أن يصلوا وينالوا حظَّهم من فضل هذه الليالي.
فحريٌّ بالمؤمن أن ينبِّه على أهل بيته أن يدركوا هذا الفضل، بأن يشهد الذكور الصلاةَ مع المسلمين في المساجد، وهكذا النِّساء أن كنَّ لا يَنشطن إلا بالصلاة في المسجد، وإلا فإنَّ صلاتها في دارها لها فضلٌ كبير، والأجر لها في دارها بإحياء الليل أعظم من أجرها بإحيائه في المسجد مع المسلمين؛ لعموم ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنَّ صلاة المرأة في دارها خيرٌ لها من صلاتها في المسجد، ولكنها إذا كانت لا تنشط إلا بالحضور، وترغب أن يكون لها سماع للقرآن الكريم من تلاوة الإمام، فإنَّه لا بأس عليها في ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله).
والمقصود أيها الإخوة المؤمنون أنَّه ينبغي تذكير الأهل وحثُّهم على الصلاة في هذه الليالي العظيمة، ومن نافلة القول أن يكون التأكيد على الصلوات الفرائض مقدَّمًا على التأكيد على الصلوات النوافل، وقد ذكر الله جل وعلا عن بعض أنبيائه: ﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ ﴾ [مريم: 55]، وهكذا كان هدي نبينا عليه الصلاة والسلام: (الصلاة.. الصلاة)، يكرِّرها على أهل داره، وتقول عائشة رضي الله عنها كان أيضًا من هديه عليه الصلاة والسلام: (جدَّ وشدَّ المئزر)، وهي تؤكِّد في هذا ما كان يسلكه النبي صلى الله عليه وسلم من العنايةِ بهذه العشر الأخيرة من رمضان.
وبعدُ أيها الإخوة المؤمنون، فهذه العشر فرصةٌ لمنْ كان قد فرَّط في أول الشهر أن ينال من الخير الذي فاته ما يختم به شهرَه، والأعمالُ بالخواتيم، يختمه بالخير والطاعة والإقبال على الله جل وعلا، وهو فرصةٌ لمضاعفةِ الثواب لمن قدَّم من الخير ما قدَّم، فهو فضلٌ عظيم وشرفٌ رفيع أن يكون المؤمن من أهل هذه الليالي، ويكون مدركًا لثوابها وفضلها.
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
أيها الإخوة المؤمنون، إنَّ الله جل وعلا قد شرَّف هذه الأمة وعظَّمها، فجعل لها أفضلَ رسلِهِ وأكرمهم محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم، وأنزل على هذه الأمة - على نبيِّها - أفضل كُتبه وأعظمها القرآن الكريم، وخصَّها بأفضل الشرائع وأكملها: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وجعل الله جل وعلا لهذه الأمة من مواسم الشرف وأوقات الفضل - ما يتوالى في كل أيام العام ولياليه، بل في كل ساعة ولحظة، بما جعل الله تعالى من فرصِ المغفرة وإجابة الدعوات، وغير ذلك مما يقرِّب من رب البريات، ويحلُّ المسلم عالي الدرجات في جنة عرضها السموات والأرض.
وهذه الليالي العشر التي أظلتنا ونستقبلها، ونسأل الله بلوغها على خيرٍ وعافية وعلى ما يحبُّه جل وعلا من الطاعة - فيها ليلةٌ مباركة هي تاج ليالي الدهر، ليلة كثيرة البركات، عزيزة الساعات، القليلُ من العمل فيها كثير، والكثيرُ من العمل فيها مضاعف: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3]، وفي هذه الليلة العظيمة ينزل من السماء خلقٌ عظيم لشهود تلك الليلة؛ كما قال جل وعلا: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ [القدر: 4]، القائمُ في هذه الليلة بالتعبُّد مغفورٌ ذنبُه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه).
ليلة فيها تفتح الأبواب، ويُسمع الخطاب، وفيها يصل ربنا جل وعلا من عباده بصلات الخير وحسن العقبى ما لا يخطر على البال، فيعطي الله جل وعلا فيها من عباده ما يشاء سبحانه بما فيه السعادة الأبدية، وهذه الليلة ينبغي للمؤمن أن يكون من جملة عباد الله الذين استشرفوا فضلها، وتحرَّوا خيرها، ومن هؤلاء الصحب الكرام رضي الله عنهم، فإنهم لما سمعوا من نبيهم صلى الله عليه وسلم ما لليلة القدر من الفضل والخير، اجتهدوا في معرفتها حتى يبادروا بالخير، ولذلك كانت الرؤى في مناماتهم تتوالى لشدة حرصهم، ويسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم متى هذه الليلة؟ واستقرَّ من خبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ ليلة القدر في هذه العشر الأواخر من رمضان، وأنها في ليالي الوتر أرجى، وأنها تتنقل من عامٍ إلى آخر في ليلةٍ إلى أخرى، بمعنى أنها قد تكون في عامٍ ليلةَ إحدى وعشرين، وفي عامٍ آخر ليلةَ سبع وعشرين، أو ليلةَ خمسٍ وعشرين، أو غير ذلك من ليالي العشر.
ولذلك قال العلماء: إنها أُخفيت كما أُخفيت أمورٌ أخرى مثل ساعة الإجابة يوم الجمعة، وكذلك غيرها مما أُخْفِي؛ حتى يجتهد أهل الإيمان في تقرُّبهم إلى الله جل وعلا، فينالوا فضل الليلة وفضل الليالي الأُخَر، ولئلا يتَّكل متَّكل بأن يقول: صليت ليلة القدر، ثم يدع العمل، فيسبب له ذلك هلكة بإقباله على السيئات وتركه للطاعات؛ اتِّكالًا على ما كان من عمله، ولكن المؤمن هو الذي يبادر بالخير، ولا يزال محاسبًا نفسه أنها مقصرة، حتى يوافي أجله وهو على عمل صالح.
ومِن حِرصِ الصحابة رضي الله عنهم ما يبيِّنه ما ثبت في جامع الترمذي عن أُمِّنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ يا رسول الله، أرأيت إن علمتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ القدر، ما أقول؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).