الكتاب: علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
بين الكناية والتعريض
لعل ضياء الدين ابن الأثير أوضح من بحث أسلوبي الكناية والتعريض وفرّق بينهما.
ففي مستهل حديثه عنهما في كتابه المثل السائر يقول: «هذا النوع مقصور على الميل مع المعنى وترك اللفظ جانبا. وقد تكلم علماء البيان فيه فوجدتهم قد خلطوا الكناية بالتعريض ولم يفرقوا بينهما، ولا حدوا كلا منهما بحد يفصله عن صاحبه، بل أوردوا لهما أمثلة من النثر والنظم وأدخلوا أحدهما في الآخر، فذكروا للكناية أمثلة من التعريض وللتعريض أمثلة من الكناية، فمن فعل ذلك الغانمي وابن سنان الخفاجي والعسكري».
وفي محاولة لتحديد مفهوم «الكناية» فرق ابن الأثير بينها وبين غيرها من أقسام المجاز بقوله: «إن الكناية إذا وردت تجاذبها جانبا حقيقة ومجاز، وجاز حملها على الجانبين معا.
ألا ترى أن اللمس في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ* يجوز حمله على الحقيقة والمجاز، وكل منهما يصح به المعنى ولا يختل؟ ولهذا ذهب
الشافعي إلى أن اللمس هو مصافحة الجسد الجسد، فأوجب الوضوء على الرجل إذا لمس المرأة، وذلك هو
الحقيقة في اللمس.
وذهب غيره إلى أن المراد باللمس هو الجماع، وذلك مجاز فيه وهو الكناية، وكل موضع ترد فيه الكناية فإنه يتجاذبه جانبا حقيقة ومجاز، ويجوز حمله على كليهما معا.
أما التشبيه فليس كذلك ولا غيره من أقسام المجاز، لأنه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة، ولو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى. ألا ترى أنا إذا قلنا «زيد أسد» لا يصح إلا على جانب المجاز خاصة، وذاك أنا شبهنا زيدا بالأسد في شجاعته، ولو حملناه على جانب الحقيقة لاستحال المعنى، لأن زيدا ليس ذلك الحيوان ذا الأربع والذنب والوبر والأنياب والمخالب.
وقد خلص من هذا النقاش إلى تعريف الكناية بقوله: «حد الكناية الجامع لها هو أنها كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز» وطبقا لهذا التعريف فمثالها عنده قوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فكنى بذلك عن النساء، والوصف الجامع بين المعنى الحقيقي والمجازي هو التأنيث. ولولا ذلك لقيل في هذا الموضع إن هذا أخي له تسع وتسعون كبشا ولي كبش واحد، وقيل هذه كناية عن النساء.
فالوصف الجامع بين الحقيقة والمجاز شرط في صحة تعريف الكناية عنده.
...
بعد ذلك انتقل ابن الأثير إلى بيان ما بين الكناية والاستعارة من صلة فقال: «أما الكناية فإنها جزء من الاستعارة، ولا تأتي إلا على حكم
الاستعارة خاصة، لأن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له، أي المشبه، وكذلك الكناية فإنها لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المكنى عنه، أي لازم المعنى.
ونسبة الكناية إلى الاستعارة نسبة خاص إلى عام، فيقال كل كناية استعارة، وليس كل استعارة كناية، وهذا فرق بينهما. ويفرق بينهما من وجه آخر، وهو أن الاستعارة لفظها صريح، والصريح هو ما دل عليه ظاهر لفظه، والكناية ضد الصريح، لأنها عدول عن ظاهر اللفظ. وهذه فروق ثلاثة: أحدها الخصوص والعموم، والآخر الصريح، والثالث الحمل على جانب الحقيقة والمجاز. وإذا كانت الكناية جزءا من الاستعارة، وكانت الاستعارة جزءا من المجاز، فإن نسبة الكناية إلى المجاز هي نسبة جزء الجزء وخاص الخاص.
...
ومن بيان الصلة بين الكناية والاستعارة والتفرقة بينهما انتقل ابن الأثير لبحث الصلة بين التعريض والكناية. وقد بدأ بتعريف التعريض فقال: «أما التعريض فهو اللفظ الدال على الشيء من طريق المفهوم لا بالوضع
الحقيقي ولا المجازي»، فإنك إذا قلت لمن تتوقع صلته ومعروفه بغير طلب: «والله إني لمحتاج، وليس في يدي شيء، وأنا عريان، والبرد قد آذاني»، فإن هذا وأشباهه تعريض بالطلب، وليس هذا اللفظ موضوعا في مقابلة الطلب لا حقيقة ولا مجازا، إنما دل عليه من طريق المفهوم، بخلاف دلالة اللمس على الجماع. وعنده أن التعريض إنما سمي تعريضا لأن المعنى فيه يفهم من عرضه أي من جانبه، وعرض كل شيء جانبه.
وكما فرق بين الكناية والتعريض من جهة خفاء الدلالة ووضوحها، فرق بينهما كذلك من جهة اللفظ فقال: «واعلم أن الكناية تشمل اللفظ
المفرد والمركب معا، فتأتي على هذا تارة وعلى هذا أخرى. وأما التعريض فإنه يختص باللفظ المركب، ولا يأتي في اللفظ المفرد البتّة. والدليل على ذلك أن التعريض لا يفهم المعنى فيه من جهة الحقيقة ولا من جهة المجاز، وإنما يفهم من جهة التلويح والإشارة، وذلك لا يستقل به اللفظ المفرد، ولكنه يحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب».
ومن أمثلة التعريض:
1 - قوله تعالى في شأن قوم نوح: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ.
فقوله: «ما نراك إلا بشرا مثلنا» تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة فما جعلك أحق منهم بها؟ ومما يؤكد ذلك قولهم: «وما نرى لكم علينا من فضل».
2 - كان عمر بن الخطاب يخطب يوم جمعة، فدخل عثمان فقال عمر: أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: يا أمير المؤمنين انقلبت من أمر السوق فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت. فقال عمر: والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله كان يأمرنا بالغسل؟ فقوله: «أية ساعة هذا؟» تعريض بالإنكار عليه لتأخره عن المجيء إلى الصلاة وترك السبق إليها.
وهو من التعريض المعرب عن الأدب.
3 - وقفت امرأة على قيس بن عبادة فقالت: «أشكو إليك قلة الفأر في بيتي». فقال: «ما أحسن ما وردت عن حاجتها، املأوا لها بيتها خبزا وسمنا ولحما». فهذا تعريض من المرأة حسن الموقع.
4 - كتب عمرو بن مسعدة الكاتب إلى المأمون في أمر بعض أصحابه وهو: «أما بعد فقد استشفع بي فلان إلى أمير المؤمنين ليتطول في إلحاقة بنظر أنه من الخاصة، فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدى طاعته». فوقع المأمون في ظهر كتابه قد عرفت تصريحك له وتعريضك لنفسك، وقد أجبناك إليهما. وهذا من أحسن التعريضات (1).
المؤلف: عبد العزيز عتيق (المتوفى: 1396 هـ)
بين الكناية والتعريض
لعل ضياء الدين ابن الأثير أوضح من بحث أسلوبي الكناية والتعريض وفرّق بينهما.
ففي مستهل حديثه عنهما في كتابه المثل السائر يقول: «هذا النوع مقصور على الميل مع المعنى وترك اللفظ جانبا. وقد تكلم علماء البيان فيه فوجدتهم قد خلطوا الكناية بالتعريض ولم يفرقوا بينهما، ولا حدوا كلا منهما بحد يفصله عن صاحبه، بل أوردوا لهما أمثلة من النثر والنظم وأدخلوا أحدهما في الآخر، فذكروا للكناية أمثلة من التعريض وللتعريض أمثلة من الكناية، فمن فعل ذلك الغانمي وابن سنان الخفاجي والعسكري».
وفي محاولة لتحديد مفهوم «الكناية» فرق ابن الأثير بينها وبين غيرها من أقسام المجاز بقوله: «إن الكناية إذا وردت تجاذبها جانبا حقيقة ومجاز، وجاز حملها على الجانبين معا.
ألا ترى أن اللمس في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ* يجوز حمله على الحقيقة والمجاز، وكل منهما يصح به المعنى ولا يختل؟ ولهذا ذهب
الشافعي إلى أن اللمس هو مصافحة الجسد الجسد، فأوجب الوضوء على الرجل إذا لمس المرأة، وذلك هو
الحقيقة في اللمس.
وذهب غيره إلى أن المراد باللمس هو الجماع، وذلك مجاز فيه وهو الكناية، وكل موضع ترد فيه الكناية فإنه يتجاذبه جانبا حقيقة ومجاز، ويجوز حمله على كليهما معا.
أما التشبيه فليس كذلك ولا غيره من أقسام المجاز، لأنه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة، ولو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى. ألا ترى أنا إذا قلنا «زيد أسد» لا يصح إلا على جانب المجاز خاصة، وذاك أنا شبهنا زيدا بالأسد في شجاعته، ولو حملناه على جانب الحقيقة لاستحال المعنى، لأن زيدا ليس ذلك الحيوان ذا الأربع والذنب والوبر والأنياب والمخالب.
وقد خلص من هذا النقاش إلى تعريف الكناية بقوله: «حد الكناية الجامع لها هو أنها كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز» وطبقا لهذا التعريف فمثالها عنده قوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فكنى بذلك عن النساء، والوصف الجامع بين المعنى الحقيقي والمجازي هو التأنيث. ولولا ذلك لقيل في هذا الموضع إن هذا أخي له تسع وتسعون كبشا ولي كبش واحد، وقيل هذه كناية عن النساء.
فالوصف الجامع بين الحقيقة والمجاز شرط في صحة تعريف الكناية عنده.
...
بعد ذلك انتقل ابن الأثير إلى بيان ما بين الكناية والاستعارة من صلة فقال: «أما الكناية فإنها جزء من الاستعارة، ولا تأتي إلا على حكم
الاستعارة خاصة، لأن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له، أي المشبه، وكذلك الكناية فإنها لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المكنى عنه، أي لازم المعنى.
ونسبة الكناية إلى الاستعارة نسبة خاص إلى عام، فيقال كل كناية استعارة، وليس كل استعارة كناية، وهذا فرق بينهما. ويفرق بينهما من وجه آخر، وهو أن الاستعارة لفظها صريح، والصريح هو ما دل عليه ظاهر لفظه، والكناية ضد الصريح، لأنها عدول عن ظاهر اللفظ. وهذه فروق ثلاثة: أحدها الخصوص والعموم، والآخر الصريح، والثالث الحمل على جانب الحقيقة والمجاز. وإذا كانت الكناية جزءا من الاستعارة، وكانت الاستعارة جزءا من المجاز، فإن نسبة الكناية إلى المجاز هي نسبة جزء الجزء وخاص الخاص.
...
ومن بيان الصلة بين الكناية والاستعارة والتفرقة بينهما انتقل ابن الأثير لبحث الصلة بين التعريض والكناية. وقد بدأ بتعريف التعريض فقال: «أما التعريض فهو اللفظ الدال على الشيء من طريق المفهوم لا بالوضع
الحقيقي ولا المجازي»، فإنك إذا قلت لمن تتوقع صلته ومعروفه بغير طلب: «والله إني لمحتاج، وليس في يدي شيء، وأنا عريان، والبرد قد آذاني»، فإن هذا وأشباهه تعريض بالطلب، وليس هذا اللفظ موضوعا في مقابلة الطلب لا حقيقة ولا مجازا، إنما دل عليه من طريق المفهوم، بخلاف دلالة اللمس على الجماع. وعنده أن التعريض إنما سمي تعريضا لأن المعنى فيه يفهم من عرضه أي من جانبه، وعرض كل شيء جانبه.
وكما فرق بين الكناية والتعريض من جهة خفاء الدلالة ووضوحها، فرق بينهما كذلك من جهة اللفظ فقال: «واعلم أن الكناية تشمل اللفظ
المفرد والمركب معا، فتأتي على هذا تارة وعلى هذا أخرى. وأما التعريض فإنه يختص باللفظ المركب، ولا يأتي في اللفظ المفرد البتّة. والدليل على ذلك أن التعريض لا يفهم المعنى فيه من جهة الحقيقة ولا من جهة المجاز، وإنما يفهم من جهة التلويح والإشارة، وذلك لا يستقل به اللفظ المفرد، ولكنه يحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب».
ومن أمثلة التعريض:
1 - قوله تعالى في شأن قوم نوح: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ.
فقوله: «ما نراك إلا بشرا مثلنا» تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة فما جعلك أحق منهم بها؟ ومما يؤكد ذلك قولهم: «وما نرى لكم علينا من فضل».
2 - كان عمر بن الخطاب يخطب يوم جمعة، فدخل عثمان فقال عمر: أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: يا أمير المؤمنين انقلبت من أمر السوق فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت. فقال عمر: والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله كان يأمرنا بالغسل؟ فقوله: «أية ساعة هذا؟» تعريض بالإنكار عليه لتأخره عن المجيء إلى الصلاة وترك السبق إليها.
وهو من التعريض المعرب عن الأدب.
3 - وقفت امرأة على قيس بن عبادة فقالت: «أشكو إليك قلة الفأر في بيتي». فقال: «ما أحسن ما وردت عن حاجتها، املأوا لها بيتها خبزا وسمنا ولحما». فهذا تعريض من المرأة حسن الموقع.
4 - كتب عمرو بن مسعدة الكاتب إلى المأمون في أمر بعض أصحابه وهو: «أما بعد فقد استشفع بي فلان إلى أمير المؤمنين ليتطول في إلحاقة بنظر أنه من الخاصة، فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدى طاعته». فوقع المأمون في ظهر كتابه قد عرفت تصريحك له وتعريضك لنفسك، وقد أجبناك إليهما. وهذا من أحسن التعريضات (1).