يتحقق التماسك النصي في القصيدة عندما يبلغ الامتزاج أعلى مراحله بين جميع العناصر المكونة للنص وفي مقدمتها تحقيق تناسب حيوي بين إيقاع الأصوات وإيقاع الأفكار، فـ"موسيقية القصيدة إنما توجد في هيكلها كوحدة، وهذا الهيكل يتألف من نمطين، نمط الأصوات، ونمط المعاني الثانوية التي تحملها الألفاظ. وهذان النمطان متحدان في وحدة لا يمكن انفصامها. فمن الخطأ الادعاء بأن موسيقى الشعر تنشأ من صوته المجرد بصرف النظر عن معناه الأول ومعانيه الثانوية"(1) ، إذ إن طبيعة الأفكار تغذي الأصوات بألوان إيقاعية لا تحملها هذه الأصوات في وضعها المجرد ولا تكتسبها إلا من خلال "إيقاع الجملة والعلاقة بين الصوت والمعنى وقوة الكلمات الإيحائية"(2) ، التي تتألف جميعاً في التشكيل متحد على نحو منظوم يقوم على أهمية "ربط الأنماط الإيقاعية في الشعر بأنماط من المعنى ـ معنى الكلام أو معنى الجملة ـ دون الأنماط الموسيقية الصرف"(3) ، مما يستدعي قدرات شعرية خلاقة معززة بوعي شمولي قادر على تنشيط قوة الإيحاء في الإيقاع، وقد يصل الشاعر إلى اتباع طريقة تشبه طريقة التأليف الموسيقي التي تجعل من القصيدة "موسيقى أفكار"، وهذه "الطريقة الموسيقية لا تقدم موضوعات للتفكير أو التفسير بل تقدم موضوعات موسيقية للإيحاء"(4) ، وهي ربما لا تشكل ظاهرة واضحة في القصيدة العربية الحديثة كما هو الحال عند بعض الشعراء الإنكليز مثل ت.س. إليوت.
وغالباً ما يستخدم الشعر الحديث "إيقاع الأفكار الذي يقوم على التوازي والترديد ليحقق الانسجام والوحدة وللتعويض عن فقدان الانتظام في طول الأبيات وأنماط التقفية"(5) ، وقد يتضح ذلك على نحو أكبر في قصيدة النثر التي لا يظهر إيقاعها بغياب التقاليد المعروفة في موسيقى القصيدة العربية إلا "باستخدام موسيقى الفكر التي تعتمد على التوازن والترادف والتباين والتنظيم التصاعدي للأفكار. إلى جانب ترديد السطور والكلمات والأفكار في مجموعات متنوعة".(6)
إن إيقاع الأفكار يتشكل أساساً تشكلاً لغوياً بوصف أن اللغة رموز تثوي في التراكيب، ويقوم الشاعر بترتيب "اللغة بتشكيلات إيقاعية ترمز للأحاسيس معتمداً على التراكيب، ويمكن القول على وجه الدقة بأن ذلك يحدث لأن التركيب إيقاع لكن دون صوت"(7) .
وينبعث إيقاع الأفكار أساساً من طبيعة وفاعلية القيم الرمزية التي تحويها المفردات المكونة لنسيج القصيدة، وهو عادة إيقاع خفي يتشكل في النفس من خلال التأمل والاستغراق في عالم النص وأجوائه الخاصة.
ولو استقرينا على سبيل المثال قصيدة "المدينة" لأدونيس مثلاً، وحاولنا النظر فيما يمكن أن تقدمه من إيقاعية معينة تصدر عن رموز وأفكار النص، لأدركنا أن إيقاعاً خفياً يحاكي الذهن يلتمع هنا وهناك في أجزاء كثيرة من القصيدة:
نارنا تتقدم نحو المدينه
لتهد سرير المدينه
سنهد سرير المدينه
سنعيش ونعبر بين السهام
نحو أرض الشفافية الحائره
خلف ذلك القناع المعلق بالصخرة الدائره
حول دوامة الرعب
حول الصدى والكلام
وسنغسل بطن النهار وأمعاءه وجنينه
وسنحرق ذلك الوجود المرقع باسم المدينه
وسنعكس وجه الحضور
وأرض المسافات في ناظر المدينه،
نارنا تتقدم والعشب يولد في الجمرة الثائره
نارنا تتقدم نحو المدينه..(
إن مفردة "المدينه" التي تتكرر في القصيدة سبع مرات تشكل المحور الرمزي الأساس لها، وتكرارها يصل بها إلى مرحلة التشخيص إذ يبدأ بها كيان القصيدة وينتهي بها، فهي القطب المناوئ في الصراع الفكري والحضاري والوجودي الذي نهضت عليه القصيدة.
يقابلها في القطب الآخر "نارنا" المتكررة ثلاث مرات، وهي تكون باتصالها بـ"نا" المتكلمين الضمير المعبر عن الكائن المجموع الممتزج "نحن"، والممثلة في سيطرة الأفعال المضارعة المسبوقة بصوت الاستقبال "سنهد ـ سنعيش ـ سنغسل ـ سنحرق ـ سنعكس" وما تؤديه من إنجازات تقوي مركز المجموع ذي الوجود الأصيل في عملية الصراع الفكري الدائر بينهما وبين "المدينه" ذات الوجود الطارئ القلق" "الوجود المرقع".
ويتأكد جزء كبير من إمكانية حسم الصراع لصالح ضمير المجموع ضد المدينة في هيمنة الجملة الاسمية "نارنا تتقدم"، إذ تتكرر مرة في بداية القصيدة ومرتين في خاتمتها.
إن هذه المعادلات التي تقدمها القصيدة بوصفها الواقع الفكري المجسد لبنيتها، تبعث بانسجامها وتنافرها وصراعها وتكرار صيغها ورموزها واكتناز دلالاتها إيقاعاً معيناً لا يمكن القبض عليه باستعمال الوسائل التقليدية في كشف النظم الإيقاعية المعروفة والمألوفة القائمة على التصويت والغنائية العالية.
وتنهض بعض القصائد الحديثة في تشكيل رؤاها الذهنية على تقسيم البنية الهيكلية العامة للنص على مجموعة من البنى الصغيرة التي تستقل في عوالمها الداخلية الخاصة، وتبعث في اشتراكها بسياق البنية العامة إيقاعاً منشؤه الأفكار.
ففي قصيدة "المنازل" للشاعر عبد الرحمن طهمازي مثلاً تولد الأفكار بإيقاعاتها الخاصة عبر أربعة نماذج من الصور تشكل في اجتماعها وامتزاجها حياة النص، ولكل صورة وجه تشكيلي يبعث إيقاعاً خاصاً:
سأخدش للنهر ليلا
وللبحر بابا
وأصلح وجهي لعمري
أخف
أخف
ويزداد سري
وللسيل خوف الحديقه
وبعد المياه أنام
فما زرعت في الوجوه الأجنة
ولا أنتهز الظل موت البريق(9)
ففي الصورة الأولى التي تبتدئ بها القصيدة بجملة فعلية مسبوقة بصوت الاستقبال، ينشأ الإيقاع من تركيب معادلة تتحقق فيها أفكار الصورة، ويمكن توضيحها بالشكل الآتي:
إذ تتمظهر المعادلة بثلاثة أشكال، يخضع الشكلان الأول والثاني لموحيات الفعل "سأخدش"، في حين يخضع الشكل الثالث لموحيات الفعل "أصلح" وتسير المفردات المجرورة "للنهر" ـ للبحرـ لعمري "بنسق تشكيلي ودلالي واحد،تقابلها في الجهة الأخرى المفردات "دليلا ـ بابا ـ وجهي " الذي هو قناع تقليدي لـ"عمري"، وهذا التوازن في التوزيع هو الذي ينشئ إيقاعاً من نمط خاص يقوم على الأفكار.
أما الصورة الثانية أخف/ أخف/ ويزداد سري)، فإن إيقاعها ينبعث من سياقها الفعلي الموحي "أخف ـ أخف ـ ويزداد"، في حين يشكل إيقاع الصورة الثالثة وللسيل خوف الحديقة/ وبعد المياه أنام) من التوازن الدلالي الخفي الناشئ بين "للسيل"، و"المياه" وبين "خوف" و"أنام"، إذ أن "السيل" مادته "المياه" و"المياه" هي المنفذ المضموني لنية "السيل" وأدائه، كما أن العلاقة بين "الخوف والنوم"، علاقة متشابكة تنطوي على شيء من الغموض لاسيما في احتوائه أداء وفعاليات الواحد للآخر.
وتحظى الصورة الرابعة والأخيرة بقدرات دلالية وإيقاعية أكبر فما زرعت في الوجوه الأجنة/ولا انتهز الظل موت البريق)، حتى تبدو وكأنها المصب الدلالي لصور القصيدة بأجمعها، فزراعة الأجنة في الوجوه بوصفها جزءاً من تشكيل صوري تقف في نسق دلالي مع انتهاز الظل لموت البريق، بمعنى أن الوجوه هي الظل مثلما الأجنة هي البريق، وبهذا كان التحكم في إيجاد تناظر دلالي هو الذي يولد إيقاعاً من نوع خاص تنشئه الأفكار.