انتقلت القافية في القصيدة الحديثة إلى مرحلة أكثر تعقيداً بفعل تطور كل أدوات الفعل الشعري، وبفعل اتساع حجم الوظائف التي تقوم بها هذه الأدوات. وفي الوقت الذي كانت فيه القافية الصغيرة لا تحقق في القصيدة الحديثة سوى قدر يسير من الغنى الفني الذي لا يرضي كثيراً مستقبلات المتلقي المعاصر، فإن التقفية المركبة تمتاز "بدقة الجمال الموسيقي وعذوبته"(1) .
وتركيبية القافية لا تأتي من فراغ إنما هي انعكاس لتعقيد العمل الفني الإبداعي الحديث كله بنحو خاص والحياة المعاصرة بنحو عام، لذلك فإن شعراء المدرسة الحديثة عموماً "اميل إلى الموسيقى المركبة منهم إلى الموسيقى البسيطة"(2) ، لأن القصيدة التي قطعت أشواطاً في مسيرة الحداثة لم تعد تسمح كثيراً باستخدام تقنيات بسيطة لا تتلاءم مع روح التجربة وتعقيدها. والقافية المركبة هي التي تخضع لأشكال متعددة من التنوع في الاستخدام التقفوي وهذا ما "يسهل للشاعر مهمة اختيار قوافيه والملاءمة بينها"(3) ، في سبيل إضفاء قوة تعبيرية وإيقاعية جديدة على النسيج الداخلي المشكل للقصيدة.
غير أن هذا التنوع ليس على مستوى واحد من التعقيد، فمنه ما يأتي لمجرد كسر الرتابة المتولدة عن القافية الموحدة من دون تدخل كبير للوعي، ومنه ما يجيء على مستوى كبير من التعقيد الذي ينم على وعي تركيبي واضح تحقق به القصيدة مهمة شعرية أكبر من مجرد كسر جمود ورتابة القافية الموحدة، وبهذا تتحقق أكثر مزايا القافية أهمية في بقية القصيدة الشعرية.
ويمكن حصر أنماط التقفية المركبة في ثلاثة أنواع رئيسة هي:
2-1 التقفية الحرة المقطعية:
إن النظام المقطعي الشعري الذي وفرت له القصيدة الحديثة الكثير من سبل النجاح والانتشار، استطاع أن يسهم بالمقابل- وفي مرحلة مهمة من مراحل تطور هذه القصيدة- في رفد القصيدة الحديثة بإمكانات بنائية جديدة، لما يتسم به من مرونة وفعالية في التغيير والتنوع.
فقابلية النظام المقطعي على احتواء الكثير من عناصر التجديد والتحديث، دفع الكثير من الشعراء العرب المحدثين إلى استخدامه وتطويره والبحث في إمكاناته البنائية الكبيرة، وكان لابد من أن ينعكس هذا الثراء البنائي الذي يتمتع به على موسيقى القصيدة وإمكاناتها الإيقاعية، وكانت القافية بخاصة من أهم البنى الموسيقية التي خضعت للتطور في هيكل القصيدة.
إن التقفية الحديثة المقطعية تكاد تكون أولى أنماط القافية المركبة "المنوعة" وروداً في القصيدة العربية الحرة المبنية على نظام المقاطع(4) ، إذ يتم فيها تنويع القوافي بحيث تقف كل قافية فيها عند حدود المقطع وتتغير مع كل مقطع جديد"(5) .
بمعنى أن كل مقطع يأتي مستقلاً عن سابقه في الاستخدام التقفوي، ويتمثل هذا الاستقلال "بتكرار قافية أساسية في كل مقطع سواء أكانت واحدة أم مزدوجة"(6) .
وتتناسب هذه القافية مع كل القيم البنائية الأخرى المكونة للمقطع، إذ على الرغم من أن خيطاً نسيجياً واحداً يربط بين مقاطع القصيدة بأجمعها، إلا أن كل مقطع يتمتع باستقلالية داخل الإطار العام للقصيدة، لذلك فإن التقفية بوصفها بنية جزئية وليست كلية في مثل هذا النوع من القصائد فإنها تنتمي انتماء حاسماً إلى استقلالية المقطع، أي أن لكل مقطع مستقل تقفيته المستقلة الخاصة، لكنها ترتبط في شكل من أشكالها مع تقفيات المقاطع الأخرى.
ووصف هذه التقفية بأنها "حرة" يأتي من إمكانية كل مقطع في تقديم صورة تقفوية خاصة ليس شرطاً أن تكون لها صلة ما بتقفيات المقاطع الأخرى للقصيدة، فقد تستمر تقفية معينة عبر مقاطع القصيدة كلها أو تتوقف في مقطع معين، وقد يستقل كل مقطع بتقنياته الخاصة.
فلو أخذنا قصيدة أدونيس "ريشة الغراب" مثلاً لرأينا أنها تنقسم مقطعياً على أربعة مقاطع مرقمة ترقيماً عددياً بالأعداد اللاتينية:
I
آت بلا زهر ولا حقول
آت بلا فصول
لا شيء لي في الرمل في الرياح
في روعة الصباح
إلا دم فتي
يجري مع السماء
والأرض في جبيني النبي
رف عصافير بلا انتهاء
آت بلا فصول
آت بلا زهر ولا حقول
وفي دمي نبع من الغبار
أعيش في عيني
آكل من عيني
أحيا، أسوق العمر في انتظار
سفينة تعانق الوجود
تغوص للقرار
كأنها تحلم أو تحار
كأنها تمضي ولا تعود
II
في سرطان الصمت في الحصار
أكتب أشعاري على التراب
بريشة الغراب،
أعرف، لا ضوء على جنوني
لا شيء إلا حكمة الغبار
أجلس في المقهى مع النهار
مع خشب الكرسي
وعقب اللفافة المرمي
أجلس في انتظار
موعدي المنسي
III
أريد أن أجثو أن أصلي
للبومة المكسورة الجناح
للجمر للرياح،
أريد أن أصلي
للكوكب المشدوه في السماء
للموت للوباء،
أريد أن أحرق في بخوري
أيامي البيض وأغنياتي
ودفتري والحبر والدواة
أريد أن أًصلّي
لأي شيء يجهل الصلاة
بيروت لم تظهر على طريقي
بيروت لم تزهر وها حقولي
وحدي بلا زهر ولا فصول
وحدي مع الثمار
من مغرب الشمس إلى ضحاها
أعبر بيروت ولا أراها
أسكن بيروت ولا أراها
وحدي أنا والحب والثمار
نمضي مع النهار
نمضي إلى سواها(7)
لو فحصنا الواقع التقفوي لهذه المقاطع جميعاً لعرفنا أن عدد القوافي المنوعة التي تتكرر في القصيدة هو "10" قواف، سنرمز لها حسب تسلسلها في القصيدة بتسلسل الحروف الهجائية، بمعنى أن أ) هو رمز القافية الأولى وب) هو رمز القافية الثانية وهكذا، وعلى هذا الأساس فإن تنوع القوافي سيتوزع حسب مقاطع القصيدة على النحو الآتي:
المقطع الأول = أ أ ب ب ج د ج د أ أ هـ ج ج هـ و هـ هـ و.
المقطع الثاني = هـ ز ز هـ هـ ج ج هـ ج.
المقطع الثالث = ح ب ب ح د د ح ط.
المقطع الرابع = ي ي هـ ك ك ك هـ هـ ك.
فالمقطع الأول يتكون من ست قواف منوعة، فئة "أ" وهي حقول- فصول- فصول- حقول). وفئة "ب" وهي الرياح- الصباح). وفئة "ج" وهي فتي- النبي-عيني- عيني). وفئة "د" وهي السماء- انتهاء). وفئة "هـ" وهي الغبار- انتظار- القرار- تحار). وفئة "و" وهي الوجود- تعود). ولا يقدم المقطع الثاني أية قوافي جديدة سوى قافية واحدة هي التراب- الغراب) نرمز لها بالرمز "ز"، وفيما تبقى تتكرر بمعنى قوافي المقطع الأول، إذ تتكرر القافية "ج" ثلاث مرات الكرسي- المرمي- المنسي)، وتتكرر "هـ" أربع مرات الحصار- الغبار- النهار- انتظار).
في حين يقدم المقطع الثالث قافيتين هما أصلي- أصلي- أصلي) ونرمز لها بالرمز "ح"، والدواة- الصلاة) ونرمز لها بالرمز "ط"، وتتكرر فيها قافيتان وردتا في المقطع الأول هما "ب" في الجناح- الرياح) و"د" في السماء- الوباء).
أما المقطع الرابع والأخير فيقدم كذلك قافيتين جديدتين هما حقولي- فصولي) ويرمز لها بالرمز "ي" وضحاها- أراها- أراها- سواها) ونرمز لها بالرمز "ك"، كما تتكرر فيه قافية واحدة وردت في المقطع الأول هي "هـ" في الثمار- الثمار- النهار).
هذا يعني أن قوافي المقطع الأول تكاد تكون مركزية، إذ تتوزع فيها فئات معينة على المقاطع الثلاثة الأخيرة للقصيدة، فضلاً عن تقديم كل مقطع من هذه المقاطع قوافي جديدة يستقل بها.
ولو دققنا في نسبة تكرار التقفيات بجميع فئاتها في كل مقطع، لتأكدنا من هيمنة تقفيات المقطع الأول، فقد بلغ عدد تقفياته "18" تقفية، في حين بلغ عدد تقفيات كل مقطع من المقاطع الثلاثة المتبقية نصف هذا العدد بالضبط "9" تقفيات.
ثمة كثافة كبيرة للتقفيات في القصيدة بحيث لا تختلف عن "التقفية السطرية الموحدة" إلا بأنها منوعة، إذ أن التقفية تكاد تتحقق في كل سطر من سطور مقاطع القصيدة الأربعة، فضلاً عن تكرار عدد لابأس به من التقفيات حقول- حقول/ فصول- فصول/ الرياح- الرياح/ الغبار- الغبار/ انتظار- انتظار/ السماء- السماء/ أصلي- أصلي- أصلي/ النهار- النهار/ أراها- أراها)، وهذا يقود ضرورة إلى التقليل من فرص نجاح الاستخدام التقفوي المركب في القصيدة، إذ جاء الكثير من التقفيات زائداً ومقحماً ولا يمتلك أي مبرر شعري سوى تحقيق التوافق الإيقاعي المجرد مع مثيلاته في القصيدة.
إن تعاظم الهم الإيقاعي في القصيدة والاحتفاء الكبير بالتقفيات وموازناتها أدى بالمقابل إلى تسطيح البنية الدلالية في القصيدة وانعدام التماسك النصي الذي يقضي عادة بإيجاد توافق وانسجام كبيرين بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية في القصيدة.
في حين تنحو قصيدة محمود درويش "عازف الجيتار المتجول" منحى مختلفاً، بالرغم من أنها تعتمد التقفية التشكيلية نفسها التي اعتمدتها قصيدة أدونيس في تقسيم القصيدة على مقاطع تتوزع فيها القوافي توزيعاً حراً:
كان رساماً،
ولكن الصور
عادة،
لا تفتح الأبواب
لا تكسرها..
لا ترد الحوت من وجه القمر
يا صديقي، أيها الجيتار
خذني..
للشبابيك البعيدة)
***
شاعراً كان،
ولكن القصيدة
يبست في الذاكرة
عندما شاهد يافا
فوق سطح الباخرة
يا صديقي، أيها الجيتار
خذني..
للعيون العسلية)
كان جندياً
ولكن شظية
طحنت ركبته اليسرى
فأعطوه هدية:
رتبة أخرى
ورجلاً خشبية!
يا صديقي، أيها الجيتار
خذني..
للبلاد النائمة)
***
عازف الجيتار يأتي
في الليالي القادمة
عندما ينصرف الناس إلى جمع تواقيع الجنود
عازف الجيتار يأتي
من مكان لا نراه
عندما يحتفل الناس بميلاد الشهود
عازف الجيتار يأتي
عارياً، أو بثياب داخلية
عازف الجيتار يأتي
وأنا كدت أراه
سائراً في كل شارع
كدت أن أسمعه
صارخاً ملء الزوابع
حدقوا
تلك رجل خشبية
واسمعوا:
تلك موسيقى اللحوم البشرية(
إن مقاطع قصيدة درويش خالية من الترقيم العددي، ويفصل بين مقطع وآخر إشارة مكونة من ثلاث نقاط أفقية "***" والقصيدة مكونة أيضاً من أربعة مقاطع، تتقارب المقاطع الثلاثة الأولى في أعداد أسطرها، ويتفوق المقطع الرابع بذلك، إذ تتجاوز أعداد أسطره مقطعين مجتمعين من مقاطع القصيدة الأخر، وتنتظم فيها القوافي- حسب النظام الذي اعتمدناه في قصيدة أدونيس-بالشكل الآتي:
المقطع الأول = أ أ ب
المقطع الثاني = ب ج ج د
المقطع الثالث = د هـ د هـ د و
المقطع الرابع = ز و ح ز ط ح ز د ط ط ي ي د د
إذ يتكون المقطع الأول من القافية "أ" المؤلفة من الصور- القمر) ومن الجزء الأول من القافية "ب" البعيدة) التي لا تتحقق إلا بورود تقفيتها الثانية القصيدة) في بداية المقطع الثاني. كما يتكون المقطع الثاني من القافية "ج" المؤلفة من الذاكرة- الباخرة) ومن الجزء الأول من القافية "د" العسلية) التي لا تتحقق كذلك إلا في بداية المقطع الثالث "شظية" وتتكرر في هدية-خشبية). ويتكون المقطع الثالث أيضاً من القافية "هـ" المؤلفة من اليسرى- أخرى) والجزء الأول من القافية "و" النائمة) التي لا تتحقق إلا في مطلع المقطع الرابع القادمة).
في حين يتكون المقطع الرابع من أربع قواف جديدة هي على التوالي "ز" المؤلفة من "يأتي- يأتي- يأتي"، و "ح" المؤلفة من الجنود-الشهود)، و "ط" المؤلفة من أراه- أراه)، و "ي" المؤلفة من شارع-الزوابع)، فضلاً عن تكرار قافية "د" في خشبية-البشرية).
إذن ثمة تواصل إيقاعي بين مقطع وآخر، فكل مقطع ترتبط نهايته تقفوياً بمطلع المقطع اللاحق له، وينسجم هذا الترابط مع واقع القصيدة الدلالي، فالشخصية الرئيسة في القصيدة "عازف الجيتار المتجول" نموذج الثائر الحالم، يتمظهر في كل مقطع بمظهر خاص من مظاهره المكونة، ففي حين يظهر في المقطع الأول "رساماً"، يظهر في المقطع الثاني "شاعراً" وفي الثالث "جندياً"، لتجتمع كلها في المقطع الرابع في "عازف الجيتار" حيث يختلط اللحن بالدم والإيقاع الموسيقي باللحم البشري.
إن تنوع القوافي وتلاحمها بهذا الشكل إنما يعبر عن تلون الصورة الشعرية وحيويتها وتحولاتها.
وفي حين تعتمد قصيدتا أدونيس ودرويش على تداخل القوافي بين المقاطع، كل قصيدة منهما على طريقتها الخاصة، فإن قصيدة مقطعية لسعدي يوسف بعنوان "حديث يومي" تعتمد على استقلالية القوافي في كل مقطع من مقاطعها الثلاثة:
حين قال "انتهينا ولم نبتدئ"،
سقطت في فراغ المعاني يداه
يومها، كنت منتظراً أن أراه
أن أرى العشب في صوته والجبل
أن أرى ما يراه
غير أنا انتهينا ولم نبتدئ
وامتهنا ولم نبتدئ
وتركنا بذاكرة العشب كل مراقي الجبل
*
هل تكون النهاية أن تشتري ورقاً
للسقوف التي تستر الخاتمة؟
هل تكون النهاية أن نحذق الكلمات
التي لا تغادر بسمتنا الدائمة؟
هل تكون النهاية فينا؟
هل تكون المرائي أغاني المهود التي ترتضينا؟
*
كم أقول: انتظرتك
ها أنتذا جئت...
قلت انتهينا ولم نبتدئ
-حسناً. فلنغادر معاً...
غير أني سأبحث في حانتي عنك،
أو عن سواك
في الليالي التي لا تراك
والليالي التي طعمها أول(9)
اعتمدت القصيدة على الفصل بين مقطع وآخر إشارة مكونة من نقطة واحدة "*" تتوسط المسافة بين كل مقطعين متلاحقين.
وتتوزع القوافي على المقاطع - حسب النظام الذي اعتمدناه في القصيدتين آنفتي الذكر على الشكل الآتي:
المقطع الأول = أ ب ب ج ب أ أ ج.
المقطع الثاني = د د هـ هـ.
المقطع الثالث = و و.
إذ تتنوع في المقطع الأول قواف هي قافية "أ" في نبتدئ- نبتدئ- نبتدئ)، وقافية "ب" في يداه- أراه- يراه)، وقافية "ج" في الجبل- الجبل)، وواضح التكرار الذي جاءت عليه القافيتان الأولى والثالثة. وتتنوع في المقطع الثاني قافيتان، قافية "د" في الخاتمة-الدائمة)، وقافية "هـ" في فينا- ترتضينا). ويكتفي المقطع الثالث بقافية واحدة هي "و" في سواك-تراك). وقد حققت المقاطع كما هو واضح استقلالية كاملة في قوافيها بسبب انعدام أي تداخل تقفوي بين المقاطع.
إن البنية الدلالية تحققت عبر ثلاث صور ترتبط بعضها ببعض بأفق دلالي واضح. فالمقطع الأول قدم الصورة الأولى المبنية على سقوط الحالة الشعرية قبل أن يبدأ زمنها انتهينا ولم نبتدئ)، وقدم المقطع الثاني -بعد تدخل أسلوب الاستفهام- الصورة الثانية الساقطة في دائرة الخيبة والأسى وتوقع "النهاية" التي تتكرر في هذا المقطع أربع مرات إحداها بمظهر لغوي آخر "الخاتمة". أما المقطع الثالث فإنه يقدم الصورة الثالثة القائمة على تمثل مرارة التجربة واستيعابها والتآلف معها، يقلل من نسبة التوتر الذي بلغ أعلى حد له في المقطع الأول من القصيدة، وكلما زادت نسبة التوتر احتاجت القصيدة إلى غنائية أعلى تستدعي ما ممكن من التقفيات، وهذا ما يفسر نزول نسبة التقفيات من المقطع الأول بانحسار مستوى التوتر فيها.
إن نمط "التقفية الحرة المقطعية" بوصفه أحد أنماط القافية المركبة "المنوعة" يمكن أن نعده البداية التشكيلية الأولى للتخلص من الموروث الشكلي للقصيدة العربية التقليدية "العمودية"، وقد استخدمه معظم الشعراء من الرواد والجيل الذي أعقبهم، وإذا كانت استخداماته الأولى فيها الكثير من السذاجة وانعدام التماسك النصي، فإنه بتطور الحركة قدم نماذج جيدة.
وعلى الرغم من استمرار هذا النمط لمرحلة زمنية معينة، إلا أن الشعراء المحدثين ما لبثوا أن تجاوزوه إلى نماذج أكثر حداثة وتطوراً. وقد مثلنا لثلاثة نماذج مختلفة في قيمتها الشعرية من عشرات بل مئات النماذج التي يعتمد نظام القافية فيها على هذا الأسلوب.
2-2-التقفية الحرة المتقاطعة:
يقدم هذا النوع من التقفية أسلوباً جديداً يقدم على أساس تحقيق نظام هندسي معين في توزيع القوافي، غير أن كل نظام ينتمي فقط إلى قصيدته ولا يفرض قوانين على قصيدة أخرى، ولا تتوزع القوافي داخل القصيدة توزيعاً عفوياً إنما يتحكم بها نظام خاص تتقاطع فيه القوافي تقاطعاً هندسياً منتظماً، وحتى هذا التقاطع الهندسي يختلف في نظمه بين قصيدة وأخرى، وانطلاقاً من طبيعة المناخ والتجربة التي تقدمها كل قصيدة.
وهذه الهندسة في رسم خطوط التقفية في القصيدة لا بد أنها تتجاوز حدود التخطيط الشكلي المجرد وتدخل في صميم تجربة القصيدة، لتكسب وظيفة دلالية تؤكد مشروعية النظام وتعزز حيويته وضرورته.
ويكاد يقف الرواد الثلاثة السياب والبياتي ونازك الملائكة في مقدمة شعراء المدرسة الحديثة في مدى احتفائهم بهذا النوع من التقفية، وتعد نازك بالذات أكثر الثلاثة تجريباً لهذا النوع إذ جاء الكثير من قصائدها -لا سيما في المرحلة التي بدأت تنظر فيها لأهمية القافية-. وسنمثل بقصائد لهؤلاء الثلاثة استخدمت هذه التقفية بنظم مختلفة.
ففي قصيدة "متى نلتقي" للسياب يتحرك نظام التقفية على ثماني مجموعات بثلاثة أشكال:
ألا يأكل الرعب منا الضلوع
إذا ما نظرنا على ظل تينة،
فلاحت لنا، من ظلام، قلوع
تهدهدها غمغمات حزينة؟
ألا يأكل الرعب منا الضلوع؟
ألا تتحجر منا العيون
إذا لاح في الليل ظل البيوت
هزيلاً كما ينسج العنكبوت
ألا تتحجر منا العيون
ويلمع فيها بريق الجنون؟
وبالأمس كنا يذيب العناق
دماً في دم
كنور ونار، سنا واحتراق
يجولان في منزل مظلم
ولكن ما بيننا كان بحراً
تغنيك أمواجه العاتية:
"سنرعاك من قلعة شد منها حديد وصخر
فما الحب هدم لجدرانك العاليه".
ولكن ما بيننا كان بحر
وصحراء تنشج فيها النجوم
ولا نلتقي في دجى أو صباح
تموت على رملها عاصفات الرياح
وتأكل عين الدليل التخوم
وصحراء تنشج فيها النجوم
وطارت بي الريح عبر البحار
إلى الليل والثلج والمجهل
فصرنا إلى واقع لا نحار
بالغازه فاسألي:
-وطارت بي الريح عبر البحار-
"أما من لقاء لنا في الزمان؟"
بلى.. حينما تفهمين اللقاء
فيأوي إلى اللوحة المغرقان
يشدانها، يرفعان الدعاء:
"ألا بخفايا إله السماء!"
ألا يأكل الرعب منا الضلوع
إذا ما نظرنا إلى ظل تينة
فلاحت لنا، من ظلام، قلوع
تهدهدها غمغمات حزينة؟
ألا يأكل الرعب منا الضلوع؟(10)
يتحرك نظام التقفية وفقاً للتقسيم الآتي -وحسب تسلسل القوافي في القصيدة مع الترميز لها بالحروف الهجائية-:
المجموعة الأولى = أ ب أ ب أ شكل رقم (1)
المجموعة الثانية = ج د د ج ج شكل رقم (2)
المجموعة الثالثة = هـ و هـ و شكل رقم (3)
المجموعة الرابعة = ز ح ز ح ز شكل رقم (1)
المجموعة الخامسة = ط ي ي ط ط شكل رقم (2)
المجموعة السادسة = ك م ك م ك شكل رقم (1)
المجموعة السابعة = ن س ن س س شكل رقم (2) معدل
المجموعة الثامنة = أ ب أ ب أ شكل رقم (1) مكرر
فالمجموعة الأولى التي تمثل الشكل الأول تتألف من قافيتين، الأولى "أ" وتتكون من الضلوع- قلوع-الضلوع) والثانية "ب" وتتكون من تينة- حزينة)، وتتوالى هذه التقفيات الخمس توالياً منتظماً أ ب أ ب أ).
ويتحقق الشيء نفسه في المجموعة الرابعة بحر "ز" - العاتية "ح" -صخر "ز" - العالية "ح" - بحر "ز"). وفي المجموعة السادسة أيضاً البحار "ك"- المجهل "م"- لا نحار "ك" -فاسألي "م" -البحار "ك"). وتكرر المجموعة الأولى نفسها في المجموعة الثامنة الضلوع "أ"- تينة "ب" - قلوع "أ"- حزينة "ب" - الضلوع "أ"). ويمكن ملاحظة أن التقفية التي تبدأ بها كل مجموعة من مجموعات شكل رقم "1" تنتهي بها، إذ تبدأ المجموعة الأولى المكررة في الثامنة بـ "الضلوع" وتنتهي بها، كما تبدأ المجموعة الرابعة بـ "بحر" وتنتهي بها، وتبدأ المجموعة السادسة بـ "البحار" وتنتهي بها، مما يؤكد الاستقلالية التقفوية للشكل.
أما الشكل الثاني الذي تمثله المجموعة الثانية فيتألف أيضاً من قافيتين أساسيتين، الأولى "ج" وتتألف من العيون- العيون- الجنون)، والثانية "د" وتتألف من البيوت- العنكبوت)، وتتوالى هذه التقفيات توالياً شبه منتظم "ج د د ج ج"، ويتكرر الشكل نفسه في المجموعة الخامسة النجوم "ط" -صباح "ي" - الرياح "ي" -التخوم "ط" - النجوم "ط"). كما يتكرر في المجموعة السابعة بتعديل بسيط في ترتيب التقفيات وعلى النحو الآتي الزمان "ن" - اللقاء "س" المفرقان "ن"- الدعاء "س" - السماء "س").
وتبقى مجموعة واحدة هي المجموعة الثالثة التي تمثل الشكل رقم "3" وتتوالى فيها القافيتان المكونتان لها توالياً منتظماً أشبه بالشكل رقم "1" العناق "هـ" - دم "و"- احتراق "هـ" - مظلم "و").
إن هذا التنظيم والهندسة التقفوية التي تتقاطع فيها القوافي تقاطعاً منتظماً لا يمكن أن يأتي عفو الخاطر، بل يجيء عن وعي وتخطيط وحرفة، غير أن استقراء فنياً فاحصاً لهذه القصيدة يستنتج الكثافة الإيقاعية التي تولدها القوافي المنوعة المتراكمة، إذ لا يكاد يخلو سطر واحد من أسطر القصيدة من تقفية معينة مما ينعكس سلبياً على شعرية القصيدة وتوازن نظمها الداخلية، إذ أن الإيقاع الخارجي على مقومات النص الأخرى من شأنه أن يحدث خللاً في الموازنة بين البنية الصوتية في القصيدة والبنية الدلالية، إذ يبدو الاحتفاء بتنظيم التقفية وهندستها متفوقاً فيها على أي شيء آخر.
أما النظام التقفوي الذي استخدمه البياتي في قصيدة "ولكن الأرض تدور" فقد اختلف من حيث البنية التركيبية عن نظام قصيدة السياب، بالرغم من أنه تحرك على ثماني مجموعات تتوزع على ثلاثة أشكال أيضاً:
إذا أردتم سادتي، فالأرض لا تدور
ولا يغطي نصفها الديجور
ولا تضم هذه القبور
إلا الدمى ولعب الأطفال والزهور
وكل ما كان وما يكون
مقدر مكتوب
فأنتم الأسياد
ونحن في بلاطكم طنافس وخدم نسوس في
الحظائر الجياد
ونحن في الحرب لكم أجناد
نموت- من أجل عيون قطط الأمير
ولمعان ذهب اللصوص والتجار- في خنادق الهجير
ونحن في جنازة الغروب
شعب فقير جائع مغلوب
استباحه المغول
إذا أردتم، سادتي، أقول
ما قاله الشاعر للسلطان
عبر عصور القهر والهوان
فنحن بركان بلا دخان
وثورة ليس لها أوان
إذا أردتم، سادتي فلتسكتوا الشاعر ولتحطموا القيثار
ولتوقفوا الأنهار
فعصركم مضى إلى الأبد
ولم تعودوا غير أشباح بلا قبور
والأرض رغم حقدكم، تدور
والنور غطى نصفها الديجور(11)
يأتي تحرك النظام التقفوي هنا على الشكل الآتي:
المجموعة الأولى = أ أ أ أ شكل رقم (1)
المجموعة الثانية = ب ب ب شكل رقم (2)
المجموعة الثالثة = ج ج شكل رقم (3)
المجموعة الرابعة = د د شكل رقم (3)
المجموعة الخامسة = هـ هـ شكل رقم (3)
المجموعة السادسة = و و و و شكل رقم (1)
المجموعة السابعة = ز ز شكل رقم (3)
المجموعة الثامنة = أ أ أ شكل رقم (2)
فالمجموعة الأولى التي تضم القافية "أ" وتمثل الشكل رقم "1" وتقفياتها تدور- الديجور- القبور- الزهور) تناظر المجموعة السادسة التي تضم القافية "و" ضمن الشكل نفسه وتقفياتها السلطان- الهوان- دخان- أوان).
أما المجموعة الثانية التي تضم القافية "ب" وتمثل الشكل رقم "2" وتقفياتها الأسياد- الجياد- أجناد) فإنها تناظر المجموعة الثامنة التي تضم القافية "أ" - من حيث عدد التقفيات-وتقفياتها قبور- تدور- المهجور).
وتضم المجموعة الثالثة القافية "ج" وتمثل الشكل "3" وتقفياتها الأمير- الهجير)، وتناظر المجموعة الرابعة التي تضم القافية "د" وتقفياتها الغروب- مغلوب)، كما تناظر المجموعة الخامسة التي تضم القافية "هـ" وتقفياتها المغول- أقول)، وتناظر أيضاً المجموعة السابعة التي تضم القافية "ز" وتقفياتها القيثار-الأنهار).
يلاحظ أولاً أن المجموعات جميعاً اعتمدت على استقلالية التقفيات بخلاف قصيدة السياب التي قامت على التداخل، كما أن المجموعات توازنت في هيكل القصيدة، إذ إن المجموعات الثلاث الأول توازي المجموعات الثلاث الأخيرة في تنوع أشكالها وتفصل بينها المجموعتان الرابعة والخامسة المنتميتان إلى شكل رقم "3" وعلى النحو الآتي:
وقد تكرر الشكل رقم (3) أربع مرات في مقابل مرتين لكل من (1) و
(2) كي تقترب الموازنة العددية أكثر من التماثل والتوافق.
ولا تختلف هذه القصيدة عن قصيدة السياب في مدى احتفائها بالقافية وإيرادها في معظم السطور وهندستها غاية في الانتظام والموازنة، مما يحدث شيئاً من الإرباك الذي ينحو في القصيدة أساساً منحى تبسيطياً مباشراً لا يتوافق مع تركيبة القافية وتنوعها.
غير أن قصيدة نازك الملائكة الموسومة "لحن النسيان" تعد الأكثر انتظاماً وهندسة بالنسبة إلى قصيدتي السياب والبياتي، إذ اعتمدت نظاماً هندسياً صارماً في مقاطع القصيدة التسعة:
لم يا حياة
تذوي عذوبتك الطرية في الشفاه؟
لم، وارتطام الكأس بالفم لم يزل
في السمع همس من صداه؟
***
ولم الملل
يبقى يعشش في الكؤوس مع الأمل
ويعيش حتى في مرور يدي حلم
فوق المباسم والمقل؟
***
ولم الألم
يبقى رحيقي المذاق، أعز حتى من نغم؟
ولم الكواكب حين تغرق في الأفق
تفتر جذلى للعدم
***
ولم الفرق
يحيا على بعض الجباه مع الأرق
وتنام آلاف العيون إلى الصباح
دون انفعال أو قلق؟
***
ولم الرياح
لم تدر حتى الآن أن لنا جراح؟
لم تدر كم حملته من ملح البحار
لجراحنا هي والنواح؟
***
ولم النهار
ينسى بأن مدامعاً حرى غرار
تأبى التألق في الجفون المثخنة
وتود لو هبط الستار؟
***
والأزمنة
كم ذكريات كم فواجع محزنة
ضمت صفائحها وكم رقد التراب
فوق الخدود اللينة
***
ولم الغياب
يفتن في رمش الجمال على هضاب
بعدت، على كل الوجوه الغامضات
خلف المرامي والشعاب؟
***
والأغنيات
أواه لو كانت تعيش مع الحياة
وتظل نابضة وإن نسي الغرام
ولحونه المتنهدات(12)
يمكن تحليل تقفيات هذه المقاطع باستخدام أسلوب الترميز بالحروف الهجائية على الشكل الآتي:
إذ اعتمد كل مقطع على قافيتين، تتوزع الأولى على السطور الأول والثاني والثالث، كما في المقطع الأول حياة "أ"- الشفاه "أ" - يزل "ب"- صداه "أ").
ثم تنتقل التقفية الثالثة يزل "ب") لتكون القافية الرئيسة في المقطع الثاني، وتتكرر في السطور الأول والثاني والرابع الملل-الأمل- المقل)، وتدخل قافية جديدة في السطر الثالث حلم "ج" التي تنتقل هي الأخرى لتكون القافية الرئيسة في المقطع الثالث وتتكرر في السطور الأول والثاني والرابع الألم- نغم- العدم).
وتدخل قافية جديدة في السطر الثالث الأفق "د") التي تنتقل بدورها إلى المقطع الرابع لتكون القافية الرئيسة فيه، وهكذا دواليك حتى المقطع التاسع.
إن الدقة الهندسية الكبيرة التي اتسم بها نظام القافية في هذه القصيدة تعد نموذجاً متميزاً للتقفية الحرة المتقاطعة، إذ اعتمدت هنا نظاماً تقاطعياً هرمياً يبنى فيه كل مقطع "تقفوياً" على تقفية سابقة منفردة تتحول عنده إلى قافية أساسية. إلا أن حظ هذه الهندسة "التقفوية" المتميزة من الحضور الدلالي في القصيدة يبدو ضعيفاً، وذلك لأن هذا الاهتمام الكبير في تحقيق نظام خاص لقوافي القصيدة يدفعها إلى افتعال بعض القوافي وقسر المقاطع الشعرية على تقبلها، مما ينعكس سلبياً على مستويات الدلالة فيها.
وبهذا فإن نمط التقفية الحرة المتقاطعة يقوم على تنويع القوافي بأشكال منتظمة مختلفة، لكنه لا يستطيع تركيب بنية دلالية تتقدم في القصيدة بموازاة هندسة القوافي وانتظامها مما يقلل من فرص نجاح القصيدة وديمومتها.
2-3-التقفية الحرة المتغيرة:
تعد هذه التقفية الأكثر حرية بين أنواع القافية المركبة "المنوعة" لأنها تقوم على أية قاعدة محددة في توزيع القوافي، فلكل قصيدة نظامها التقفوي الخاص، إذ "يقوم فيها الشاعر باستخدام الكثير من القوافي في القصيدة الواحدة دونما انتظام محدد في استخدامها. وقد تتشابك القوافي وتتداخل في القافية المتغيرة بحيث يستعمل الشاعر القافية ويتركها وقد يعود إليها بعد أن يستخدم قافية أخرى وهكذا دونما انتظام في استعمالها"(13) . وهذا التوزيع العفوي للقوافي "يضفي على القصيدة جواً موسيقياً داخلياً وهذا الجو الموسيقي غالباً ما يكون خافتاً هادئاً، أي ليس مجهوراً وواضحاً كما يحدث في ورود القوافي بالطريقة التقليدية"(14) .
وبالقدر الذي يمنحه هذا الاستخدام التقفوي للشاعر من حرية في توزيع القوافي على مساحة القصيدة دون إلزامه بنظام محدد، فإنه في الوقت عينه يفرض عليه مهمة تحقيق التوافق والانسجام والانتظام الموسيقي داخل كيان القصيدة، وهذه مهمة ليست سهلة مع غياب ضابط موسيقي خارجي كان يسمح للشاعر دائماً بالالتجاء إليه لتحقيق ذلك الانسجام المطلوب.
وعلى الرغم من أن هذه التقفية التي تتنوع تنوعاً كبيراً في القصيدة الواحدة، تنتقل بالقصيدة -على مستوى البناء- إلى مرحلة أكثر تعقيداً من النوعين السابقين، إلا أن الشعراء المحدثين الباحثين عن كل ما يجعل القصيدة تتقدم إلى مرحلة أكثر تطوراً، يمعنون في تكريس هذا النمط البنائي لا بل يتفننون في استخدامه، لذلك كان النوع الأكثر "دوراناً في الشعر الحر"(15) .
إن هذا التغيير الحر الذي تتميز به هذه التقفية يمنح الشاعر قدرة أكبر على استثمار الوظيفة الدلالية للقافية بنحو أفضل مما تمنحه الأنواع الأخرى، لأنه غير مضطر لاستخدام تقفية معينة ما لم تؤد وظيفة دلالية زائداً وظيفتها الإيقاعية.
تقدم قصيدة خليل حاوي "حب وجلجلة" هذا النمط التقفوي، إذ تتوزع القوافي فيها توزيعاً حراً غير منتظم وغير خاضع لقاعدة واضحة، وفي الوقت نفسه تتنوع تنوعاً كبيراً، فضلاً عن شدة زخمها حيث تحقق حضوراً في أكثر أسطر القصيدة:
وأنا في وحشة المنفى
مع الداء الذي ينثر لحمي
ومع الصمت وإيقاع السعال
أنفض النوم لعلي أتقي
الكابوس والجن التي تحتل جسمي
وإذا الليل على صدري جلاميد،
جدار الليل في وجهي
وفي قلبي دخان واشتعال
آه ربي صوتهم يصرخ في قبري:
تعال!!
كيف لا أنفض عن صدري الجلاميد
الجلاميد الثقال
كيف لا أصرع أوجاعي وموتي
كيف لا أضرع في ذل وصمت:
"ردني، ربي، إلى أرضي"
"أعدني للحياة"
وليكن ما كان، ما عانيت منها
محنة الصلب وأعياد الطغاة.
غير أني سوف ألقى كل من أحييت
من لولاهم ما كان لي
بعث، حنين، وتمني
بي حنين موجع، نار تدوي
في جليد القبر، في العرق الموات،
بي حنين لعبير الأرض،
للعصفور عند الصبح، للنبع المغني
لشباب وصبايا
من كنوز الشمس، من ثلج الجبال
لصغار ينثرون المرج
من زهو خطاهم والظلال
في بيوت نسيت أن وراء
السور مرجا وظلال.
أنتم أنتن يا نسل اله
دمه ينبت نيسان التلال
أنتم أنتن في عمري
مصابيح، مروج، وكفا