الخطاب الرسمي من أقوى المؤثرات في وسائل الإعلام الحديثة، وربما في كل العصور وفي جميع البلدان، فالمسؤول، مهما كانت صفته ورتبته يؤثر على سامعيه ومشاهديه، بنطقه وصوته وفصاحته إذا تفصح ولحنه إذا لحن. وما دام الموضوع الرئيسي لدورة المجمع هذا العام هو (اللغة العربية فى وسائل الإعلام) فقد رأيت أن أتناول جزئية من هذا العنوان الواسع ، وهى جزئية ربما لم يعالجها الكتاب عندما أشاروا إلى تأثيرات وسائل الإعلام ودورها في صفاء أو تشوه اللغة العربية.
وأقول "ربما" لم يحدث ذلك؛ لأن الدراسات في مثل هذا المجال تنصب عادة على موضوعات الخطاب الرسمي وليس على لغته ، فإذا درس الكتاب عـلاقة اللغة بالإعـلام فهـم
يتفادون عادة الخطاب الرسمي ظنًّا منهم أن ذلك يقودهم إلى السياسة ، وهم لا يريدون أن يُؤَوَّل كلامهم أو يحمل على غير محمله ، وأنا بدوري لا أريد ذلك ولا أتمنى أن تكون كلمتي هذه عن ساس ويسوس، وإنما هي عن خط اللغة العربية في الخطاب الرسمي وعلاقة ذلك بالتنمية اللغوية والإسهام فى حماية اللغة العربية من اللحن والضعف والدخيل.
إن بعض الرسميين قد رزقهم الله حظًّا وافرًا من التعلم والتثقف بلغتهم حتى استوعبوا قواعدها ومعانيها وعرفوا أسرار نطقها وأسرار تأثيرها فى المتلقي. وحين جاء دورهم لاستعمالها استعملوها على خير وجه ونجحوا فى تبليغ أفكارهم بها وتوصيل معانيهم إلى جمهورهم بعبارات سليمة ومؤثرة خـالية مـن الشـوائب ومن
التعابير الغربية عن الأذن العربية ، وبذلك نجحوا في المجالين : مجال المحافظة على لغتهم والاعتزاز بها بالانتماء إليها ، ومجال تبليغ آرائهم وتوجيهاتهم بها إلى جمهورهم ، فيكون الاتصال بين الطرفين قد حصل على خير وجه ، مع الاحترام المتبادل وثقة كل منهما في الآخر. غير أن هناك رسميين آخرين لم تسعفهم الظروف بدراسة لغتهم إلا يسيرًا، أو أنهم درسوها على كبر فلم يتقنوها، أو أنهم لم يفطروا عليها أصلاً. ومع ذلك كان حظهم من المسؤولية كبيرًا، وبالتالي أصبح عليهم أن يخاطبوا الجمهور، وأن يتقدموا إليه ببرامجهم ومشاريعهم، وأن يهيبوا به عند الشدة، وأن يشرحوا له أوضاع البلاد بل وأوضاع العالم من حوله، فإذا هم عاجزون عن توصيل ذلك إليه بلغة عربية سليمة، فهم يخاطبون بلغة فيها لحن كبير وأخطاء لا يقع فيها حتى فتيان المدارس وبأسلوب لا يساعدهم على التأثير في المتلقي، مهما بذلوا من جهد ومهما أحاطوا أنفسهم بالوسائل الإعلامية وجندوها لكسب الهالة والتأثير، بل ربما أثاروا من حولهم التساؤل والهمس، وفي آخر المطاف فهم لا يؤثرون في السامعين أو المشاهدين، ولا يحققون أهدافهم من الخطاب، وبذلك تكون اللغة العربية بالنتيجة هي الخاسرة؛ لأنها لم تجد الاحترام الواجب والغيرة الصادقة من صاحب الخطاب الرسمي أمام هجمات اللغات الأخرى ووسائل ترويجها الحديثة.
ويمكن أن نضيف هنا أن الخطاب الرسمي على مستويين : خطاب مكتوب، وخطاب شفوي أو مرتجل، والمعروف أن الخطاب المكتوب يعده كاتب أو أكثر ويجري تحريره ومراجعته وملاءمة وقفاته وإشاراته، وكُتَّاب الخطاب الرسمي يفترض فيهم في عصرنا على الأغلب المعرفة الموضوعية وليست المعرفة اللغوية، ومن ثَمَّ يحال الخطاب بعد كتابته إلى مصحح لغة عربية قبل إلقائه، وقد تقل أو تكثر السطور في صفحات الخطاب الرسمي حسب التوجيهات وقدرة صاحب الخطاب على معرفة الموضوع والسرعة في الإلقاء وإتقان القراءة ، وقد يكون الخطاب مشكولاً كليًّا أو جزئيًّا تبعًا لإتقان أو عدم إتقان صاحب الخطاب لقواعد اللغة العربية. ورغم ذلك فإن المتتبع لصاحب الخطاب الرسمي أثناء الإلقاء يلاحظ أنه قد لا يقرأ بدقة بل أنه قد يقفز سطرًا أو حتى صفحة دون أن يشعر بالخلل ، وقد ينطق الكلمات بطريقة لا يدل نطقه إياها على فهمه لمدلولها ، ويلاحظ المواطنون في بعض اللقاءات الهامة أن بعض أصحاب الخطاب الرسمي عاجزون عن توصيل ما يريدون أثناء قراءتهم لورقات غير مرتبة، وقد يكثر عنهم اللحن وتجاوز قواعد النحو والصرف والبيان إلى درجة ملفتة للنظر.
إن مثل هذا الخطاب لا يساعد مطلقًا على تنمية اللغة العربية بل أنه ربما أساء لها أمام وسائل الإعلام الأجنبية التي قد يوجد من بينها من يتقن العربية أكثر من صاحب الخطاب ويحذق قواعدها فيتنبه للأخطاء إذا حصلت، أما الجمهور العربي فقد يتأثر سلبًا بسماع مثل هذا الخطاب ، وقد يصاب بالإحباط والشك في قدرة لغته على التعبير ما دام صاحب الخطاب الرسمي نفسه لا يحسنها بالدرجة الكافية، ومن ثَمَّ لا يحترمها ولا يحميها، إضافة إلى أن مثل هذا الخطاب يعطي حجة قوية لمن يتهم اللغة العربية بالعجز أمام اللغات الأجنبية عن أداء دورها في العلوم والتكنولوجيا ما دام "حماتها" غير قادرين على إتقانها فيما دون العلوم والتكنولوجيا وهو الخطاب العادي.
هذا عن الخطاب الرسمي الشفوي أو المرتجل فلا يحتاج إلى كل هذا الجهد في التحضير، فهو خطاب يلقى عادة بالعامية المحليةَ أو بمزيج منها ومن الفصحى ، ورغم أننا هنا نتحدث عن الفصحى فإن الخطاب الشفوي يهمنا من بعض الوجوه ، ذلك أنه ثبت أن صاحب الخطاب يتفوه بعبارات يدافع بها عن اللغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية والرسمية والقومية ، بل أنه قد يصرح بكلام فيه اعتزاز بالحضارة العربية الإسلامية والانتماء القومي وما إلى ذلك ، في حين أنه هو يلقى خطابه بالعامية أو ما في مستواها ، وهذا قد لا يتفق مع القضايا التي يثيرها.
لكن بعض أصحاب الخطاب الرسمي يستغلون أحيانًا سلطتهم ويعلنون عن آراء تسيء إلى اللغة العربية وتعطي الحجة لأعدائها في داخل البلاد وخارجها ، مثلاً فقد سمعنا أن أحدهم أعلن لمواطنيه على الملأ وفي وسائل الإعلام أن من يرغب في التحدث بأية لغة فله ذلك ، وأنه لا يوجد في القرآن ما يمنع من الحديث بلغة أخرى غير العربية ، وغير ذلك من الأقوال التي لا تخدم قضية اللغة العربية على كل حال ، ولا شك أن هناك فرقًا بين استعمال اللغة العربية وحمايتها والاعتزاز بها وبين تعلم اللغات الأخرى واستعمالها عند الضرورة والاستفادة منها علميًّا واقتصاديًّا، ونحو ذلك. ومن جهة أخرى فإن تصريحات من النوع الذي أشرنا إليه تمس مشاعر وكرامة المواطنين الغيورين على تراثهم، وتفسح المجال أمام المتربصين بالعربية والطاعنين في كفاءتها وفي كل عناصر الهوية الوطنية والقومية والحضارية التي تعتبر اللغة وعاء لها وإحدى مقوماتها الأساسية.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الخطاب الرسمي لا يتورع أحيانًا من استعمال اللغة الأجنبية حتى في مخاطبته المواطنين عند استقبال وفود رسمية أجنبية أو في ندوة لها صبغة دولية، فقد رأينا في وسائل الإعلام "الوطنية" صاحب خطاب رسمي يلقي على مسامع الحاضرين وهو يقرأ من أوراق مكتوبة بلغة أجنبية أو يتكلم ارتجالاً بها بينما تظهر على الشاشة ترجمة كلامه بالعربية، وأحيانًا ترجمة لكلامه على الإطلاق، فهل صاحب هذا الخطاب يمثل حقًّا الرمز الذي تحتمي به اللغة العربية؟ وكيف يمكنه ذلك وهو نفسه لا يحترمها ؟ ولا نريد أن نخوض هنا في موضوع الشرعية والخروج عن الدستور الذي ينص عادة على أن اللغة العربية هي الرسمية والوطنية، وربما لا يعنينا كثيرًا إذا كان صاحب الخطاب الرسمي يتحدث بأية لغة يتقنها في اللقاءات الخاصة غير المنقولة عبر وسائل الإعلام إذا لم يجد في ذلك غضاضة وكانت ظروف الحديث نفسه تفرضه.
هذا في بلاد صاحب الخطاب الرسمي ، أما حين ينتقل إلى خارج بلاده ليحضر ندوات ومؤتمرات دولية فإن أجهزة الإعلام المتنوعة تنتقل معه لتنقل إلى المواطنين ما سيلقيه باسمهم ، فإذا هو مكتوب ومقروء أو مرتجل بلغة أجنبية ، وتضطر أجهزة الإعلام الوطنية إلى ترجمة ما يقوله ملخصًا وكاملاً . وقد تتحدث هذه الأجهزة على لسانه فتذكر أنه " قال كذا وكذا " .. ترى ماذا تكون ردود الفعل ؟ وإذا افترضنا أن الخطاب قد أدى دوره بالنسبة إلى جمهوره الأجنبي ( وقد يكون ذلك عن طريق الترجمة أيضًا) فإن جمهور صاحب الخطاب يبقى محرومًا من حقه في الاحترام والفهم بالإضافة إلى أنه قد يشعر بالإهانة في مشاعره وكرامته الوطنية.
إن هذه الصورة عن اللغة العربية في الخطاب الرسمي ليست بالضرورة هي الصورة العامة والشاملة لا على المستوى الجغرافي العربي ولا على المستوى الاجتماعي و السياسي في البلد الواحد. فنحن نعلم أن في بعض البلدان العربية خطابًا رسميًّا يحترم اللغة العربية ويعتز بها ويتقنها ويحترم مشاعر المواطنين وهويتهم ويشعر معهم بأنهم جميعًا رغم بوادر العولمة المتوحشة يخوضون معركة الحضارة بسلاح لغتهم.
فحديثنا إذًا عن بعض الحالات الغريبة التي نرجو أن يصلح أصحابها من أنفسهم، وأن يقيموا وضعهم باعتبارهم قدوة، وأن يتقنوا لغتهم قبل مخاطبة الجمهور بالعامية الفجة أو بلغة أجنبية في غير ما ضرورة، أو التصريح بعبارات يفهم منها الإساءة إلى اللغة العربية وكرامة أهلها.ذلك أن المفترض في أصحاب الخطاب الرسمي أنهم حماة الديار والتراث والأوصياء على الأخلاق والقيم، وأيضًا هم القدوة الحسنة للشباب والموظفين ورجال الإعـلام فيمـا يتعلـق باللغة العربية ، ولسنا في حاجة إلى اقتراح تـوصيات بهـذا الشأن ، معـاذ الله ! فأصحاب الخطاب الرسمي أعرف الناس بواجباتهم أو هكذا يجب أن يكونوا .