استقراء القواعد النحوية من الآيات القرآنية
الدكتور محمد فاضل صالح السامرائي*
مما لا شك فيه أن التعبير القرآني ورد على أعلى درجات الفصاحة والبيان ، وأنه لا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثله في نظمه ، ومن هنا فعندما أراد النحاة وضع القواعد والأحكام النحوية عدّوا القرآن الكريم المصدر الأول لاستقرائها ، باعتبار أن لغة القرآن الكريم هي اللغة الفصحى ، قال تعالى: { إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا لعلكم تعقلون } (يوسف وقال عز وجل: { وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } (الشعراء 192 ـ 195) وقال سبحانه : { كتاب فصلت آياته قرآنًا عربيًّا لقوم يعلمون }( فصلت 3).
ولهذا السبب نجد بعض المتحمسين للغة العربية يذهبون إلى ضرورة استقاء المادة النحوية لقواعد اللغة العربية من النصوص القرآنية ، بحجة أن النص القرآني ورد على أعلى درجات الفصاحة والبيان ، سألني أحد الأفاضل: لماذا لم يعتمد النحاة الأوائل في وضعهم القواعد النحوية على ما ورد ذكره في القرآن الكريم ؟ ويقول: لو قعّدت القواعد من خلال القرآن لجاءت على أتم صورة وأجملها ، ولوردت خالية من التعقيدات والضرورات والشواذ التي امتلأت بها كتب النحو فزادت من صعوبته . وقال لي آخر: في نيتي أن أضع كتابًا في النحو أستقي مادته من النصوص القرآنية خدمة للغة العربية وحرصًا على جذب أبنائها إليها وتحبيبهم فيها .
ولا شكّ أن القرآن الكريم يعدّ المصدر الأول للاحتجاج عند النحاة ، فإذا ورد شاهد من القرآن على قاعدة من القواعد أو حكم من الأحكام النحوية فلا شك أنه يعد من أقوى الشواهد والحجج لإقرار الحكم وتثبيته .
لكن يبقى السؤال: هل يصح استقاء قواعد اللغة العربية من آي الذكر الحكيم ؟ وهل هؤلاء المتحمسون محقون فيما ذهبوا إليه ؟
وأقول: إن القرآن الكريم كتاب تشريع سماوي وليس كتاب نحو يمكن الاعتماد عليه في وضع القواعد النحوية ، فهو لا يحوي الشواهد والأمثلة لجميع قواعد اللغة العربية والظواهر اللغوية ، ولذا لا يصح الاعتماد عليه وحده في وضع قواعد اللغة العربية ، فهناك موضوعات نحوية كثيرة لا نستطيع أن نجد جميع أمثلتها في القرآن الكريم.
فالأسماء الخمسة مثلاً وهي ( أبو ، أخو ، حمو ، فو ، ذو ) أو الستة بإضافة ( هنو ) إليها ، لم يذكر القرآن منها ( حمو ) ولا ( هنو ) ، ووفقًا لمذهبهم فإن الباب سيكون عنوانه ( الأسماء الأربعة ) بدلاً من الخمسة أو الستة .
والأفعال الناقصة ( كان وأخواتها ) تشمل: كان وظل وبات وأضحى وأصبح وأمسى وصار وليس وما زال وما برح وما فتئ وما انفك وما دام ، ومن هذه الأفعال ما لم يرد ذكره في القرآن الكريم وهي ( أضحى ، وما انفك ، وأمسى ، وصار ).
نعم ورد الفعلان ( أمسى ) و ( صار ) لكنهما وردا تامين وليسا ناقصين وذلك في قوله تعالى: { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } ( الروم 17 ) أي تدخلون في وقت المساء ، وقوله: { ألا إلى الله تصير الأمور } (الشورى 53 ) ، و ( صار ) هنا بمعنى جاء وانتقل ، فهي تامة .
وكذلك أفعال المقاربة والرجاء والشروع فإنه لم يرد منها الأفعال ( أوشك ، وكرب ، وهلهل ، واخلولق ، وعَلِق ، وهَبْ ).
فهل يصح حذف هذه الأفعال من باب الأفعال الناقصة بحجة أنها غير موجودة في القرآن ؟
وكذلك أفعال القلوب فإنه لم يرد منها الأفعال ( خال ، وحجا ، و ( تعلّمْ ) بمعنى أعلم ، و ( تقول ) بمعنى ( تظن ).
إنه على رأي هؤلاء المتحمسين يجب حذف هذه الأفعال من باب أفعال القلوب.
وفي باب الاستثناء لم يذكر في القرآن سوى الاستثناء بـ ( إلا ) و( غير )، لكن هناك أدوات استثنائية كثيرة غيرهما لم يرد ذكرها في القرآن وهي ( سوى ، وليس ، ولا يكون ، وماخلا ، وماعدا ، وحاشا )
إنه على مذهب هؤلاء تحذف جميع أدوات الاستثناء ويقتصر على الأداتين (إلا) و(غير) .
وهذا ينطبق على أدوات النداء ، فإن حروف النداء هي ( يا وأيا وهَيا وآ وأي والهمزة ) ولم يرد في القرآن الكريم سوى الحرف (يا)، ومذهب هؤلاء يسمح لنا أن نحذف جميع حروف النداء ونقتصر على الحرف (يا) خدمة للغة العربية وأهلها.
ثم إن هناك عبارات فصيحة وردت في كلام العرب ولم يرد ذكرها في القرآن الكريم مثل ( لاسيما ) و ( ليت شعري ) وقد بحثت في كتب النحو ، وعلى مذهبهم تحذف من كتب النحو ولن نعود نتكلم بها لأنها غير موجودة في القرآن.
ليس هذا فقط ، بل هناك موضوعات نحوية كاملة لم يرد في القرآن الكريم أي مثال عليها مثل أسلوب الاختصاص نحو ( نحن العربَ أسخى من بذل ) والترخيم وهو حذف آخر المنادى نحو قول امرئ القيس:
أفــاطمُ مهلاً بعض هذا التدلل * وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
والأصل: فاطمة.
والندية وهو نداء المتفجع عليه أو المتوجع منه نحو ( وا محمداه ) و ( وا كبداه )، والاستغاثة وهو نداء من يخلص من شدة أو يعين على مشقة نحو ( يا لَله لِلمسلمين ) و ( يا لَمحمد من خالد ).
وعلى مذهب هؤلاء تحذف جميع هذه الموضوعات من كتب النحو ويُتخلَّص منها ولن نعود نتكلم بها لأنها أثقلت كاهل النحو، وأهم من هذا أنها غير موجودة في القرآن الكريم. وغير ذلك وغيره .
أقول إن عرض النحو بهذه الطريقة التي يدعو إليها هؤلاء المتحمسون وحذف ما لا مثال عليه في القرآن يجعل النحو العربي مبتورًا ومشوَّهًا. ولا يعد هذا خدمة للغة العربية ولا تسهيلاً لقواعدها، بل هو مسخ وتشويه لها ، وكان الأجدى لهؤلاء أن يدعوا إلى عرض قواعد النحو العربي بصورة مبسطة ومحببة إلى نفوس طلبة العلم بدلاً من الدعوة إلى تشويه صورتها الجميلة .
*الدكتور محمد فاضل صالح السامرائي ، من العراق ، أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية في كلية الآداب ، نال درجة الدكتوراه في النحو من جامعة بغداد عام 1998 م ، له العديد من البحوث والمقالات في مجالي النحو والقرآن الكريم.
عن موقع رابطة أدباء الشام