من الأسئلة المهمة التي يمكن أن تثار بصدد الدور الذي يمكن أن تؤديه القافية بوصفها عنصراً أساساً من عناصر القصيدة الحديثة، هو إلى أي مدى يمكن للقافية أن تسهم في تشكيل الدلالة أو توليدها؟
إن القافية-وكما هو معروف- ليست عنصراً تشكيلياً مستحدثاً في القصيدة العربية، بل بدأت معها ربما منذ أول قصيدة عربية قيلت في تاريخ الشعر العربي لأسباب كثيرة ومعروفة، هذا يعطيها امتيازاً يبرر لها سمة الديمومة والبقاء، ومن أجل اكتشاف هذه السمة ينبغي لنا أن نفحص شعرنا الحديث في ضوء المقترح الذي يشير إلى إمكانية الكشف عن البنية الدلالية للقافية المتجاوزة للبنية الإيقاعية الصرف، تلك التي نهضت عليها تجربة القصيدة العربية على مختلف أنماطها وفي مختلف عصورها.
فالصفة الاختتامية التي تتميز بها القافية، سواء أكانت في البيت أم في الجملة الشعرية أو المقطع الشعري أو عموم القصيدة، لا يمكن لها أن تكتفي بدور الضابط الموسيقي المجرد، وإلا فإن القصيدة تفقد بذلك جزءاً مهماً من حيويتها وقوة أدائها، إذ لابد لها أن تشترك اشتراكاً فاعلاً في التشكيل الدلالي كي تحتفظ بموقعها وتكتسب رصانة خارج إطار إمكانية استبدالها، بما يمكن أن يقابلها صوتياً، ويحافظ فقط على الاتساق العام للقصيدة، لأن هذا الاتساق الذي تمتاز به القافية والذي يشبه اتساق الوزن "يخلق شعوراً بوحدة الإيقاع الموائمة لوحدة المعنى"(1) ، فثمة انسجام يجب أن يكون تاماً بين بنية الإيقاع وبنية الدلالة، إذ أن أية مفارقة بينهما تؤدي ضرورة إلى خلخلة وارتباك في التشكل العام لهيكل القصيدة ويفقدها تماسكها النصي.
من هنا يمكن تحديد القيمة الكبيرة التي تنطوي عليها القافية بوصفها شريكاً فاعلاً لا مكملاً تزيينياً قابلاً للحذف، فهي حسب ما يقول جان كوهن "ليست أداة أو وسيلة تابعة لشيء آخر بل هي عامل مستقل، صورة تضاف إلى غيرها وهي كغيرها من الصور لا تظهر وظيفتها الحقيقة إلا في علاقتها بالمعنى"(2) . بمعنى أنها لا تكتسب قوة وجود وبقاء من دون النهوض بمهمة دلالية تؤكد وظيفتها في تشكيل النسيج الداخلي المكون للقصيدة.
وبما أن صلب وظائف القافية هو الربط بين أجزاء القصيدة وجعلها كياناً مؤسساً على تلاحم الوحدات المكونة، فإنها "تستلزم بالضرورة علاقة دلالية بين الوحدات التي ترتبط بها"(3) تنسجم وتتداخل مع العلاقة الإيقاعية المنجزة، وبذلك تحقق وظيفة ذات مستويين، المستوى الأول- الإيقاعي- وهو مستوى "خارجي"، والمستوى الثاني-الدلالي- وهو مستوى "داخلي"، وبالتحام هذين المستويين في مهمة مشتركة يتعزز دور القافية في بناء القصيدة.
وهذا الالتحام يتوجب أن يكون صميمياً نابعاً من أصالة التجربة ونضجها لا شكلياً مقحماً مفتعلاً. فالعلاقة بين الفكرة التي تمثل محوراً أساسياً من محاور تشكيل القصيدة وبين القافية، يجب أن تكون علاقة وثقى قائمة على التجانس والتوحد، ويشترط فيهما "أن ترتبطا باطنياً، أما إذا بحثنا عن الأفكار من أجل القوافي فإنه ينشأ عن ذلك شعر أجوف الرنين، وإذا بحثنا بعناء ومشقة عن القوافي من أجل الأفكار فإنه ينشأ عن ذلك شعر متكلف مغتصب لا تطرب له الآذان، أما إذا تتابعت الأفكار في تسلسل طبيعي مسترسل على إيقاع الكلمات وتناغم القوافي فإنه يكون للغة الشعر تأثير السحر، ومجيء القوافي بلا تكلف يكفل السلامة التامة والتوازن الباطني في الأفكار، وهذا من شأنه أن يعطي القصيدة قدرة فائقة على التأثير في الخيال"(4) .
إذن فالقافية ليست مجرد محسن صوتي يكسب القصيدة سمة عروضية خاصة تستهدف التطريب وتحقيق الاستجابة الآنية القائمة على تماس العواطف إنما تتجاوز ذلك إلى إنجاز "وظيفة دلالية"(5) .
تقتضي فهما أعمق لها بوصفها وحدة مكونة داخل كيان مكون من وحدات عدة، فهي على الرغم من أن تصريفها حسب ياكبسون "يعتمد على التكرار المنتظم للأصوات أو مجموعات من الأصوات المتماثلة فإنه من قبيل المبالغة في التبسيط تناول القافية من الزاوية الصوتية وحدها. القافية تقتضي بالضرورة علاقة دلالية بين الوحدات التي تربط بينها"(6) لأنها في كل الأحوال جزء من تركيبة لغوية تقوم عليها نظم القصيدة، وطالما أنها لغة فهي تتمتع بصفة دلالية يقتضي توظيفها بما يحقق وحدة الانسجام في بنية اللغة الشعرية داخل القصيدة، بمعنى أن القافية وحدة تشكيلية مكونة تؤدي دورها الوظيفي من خلال استئثارها بمزايا ثلاث "لغوية، صوتية، دلالية"(7) ، والعلاقة بين هذه المزايا الثلاث صميمية لا يمكن فصلها أو تجزيئها على الرغم من هيمنة المزية الصوتية وتأثيرها المباشر في المتلقي على أساس نظرية التلقي العربية المعروفة في المجال الشعري، والقائمة على انتزاع استجابة سريعة تهز المتلقي وتنقله إيقاعياً إلى مناخ القصيدة.
ولكن أياً كانت الأهمية التي تنطوي عليها المزية الصوتية فإن من الخطأ الزعم بأن "القافية لا تؤثر في معنى الشاعر ولا ينبغي أن تؤثر فيه، ولكنه خطأ أكبر أن نحسب القافية وسيلة مضمونة لتوليد المعنى، فالحق أن القافية والمعنى يتفاعلان في ذهن الشاعر، يتجاذبان ويدور كل منهما حول الآخر دون أن تختلط خطواتهما أبداً ودون أن يتصادما ويجب أن يسير تداعي الأصوات وتداعي المعاني جنباً إلى جنب"( ، فهي لا تولد معاني إنما تحقق- ضمن دورها الوظيفي- معنى معيناً ينسجم مع وضعها الدلالي في القصيدة.
ولا شك في أن هذا السؤال المتعلق بدلالية القافية ليس وليد اليوم، فهو سؤال قديم- جديد، ففي الوقت الذي تنبه فيه القدماء إلى الأثر الموسيقي الذي تحدثه القافية فإنهم في الوقت عينه أكدوا "ضرورة ارتباط موسيقاها هذه بدلالة القصيدة معنى ومبنى"(9) ، غير أن الفرق في حدة السؤال يعود على الفرق التركيبي بين بنية القصيدة العربية التقليدية "العمودية القائمة على نظام الشطرين صدر وعجز) وهي تقتضي تراكماً هائلاً للتقفية، بوصف أن كل بيت يجب أن ينتهي بقافية، وبين القصيدة الحديثة" التي لا تفترض كماً هائلاً من التقفيات لأنها تقوم على نظام الجملة الشعرية التي تطول أو تقصر لضرورات أخرى تتعلق بطبيعة التجربة وبذلك تستلزم عدداً محدوداً ومقنناً من القوافي. وهذا ما يدفعها أكثر لتوكيد دورها الدلالي وترسيخه دون اللجوء غير المبرر-أحياناً إلى تدعيم الوحدة الصوتية التي تنهض على تكرار الأصوات المتشابهة وهي تكتسب صفة تزيينية أكثر منها دلالية.
القصيدة الحديثة لا تجعل من القافية هدفاً في حد ذاته، إنما تنمو فيها نمواً طبيعياً حال اقتضاء الضرورة لوجودها، إذ طالما أن بالإمكان الاستغناء عنها إذا سمحت التجربة الشعرية بذلك، فإن هذه الحرية فكت الكثير من قيود الاضطرار إلى القافية، مما وفر للقصيدة هامشاً كبيراً من حرية الاختيار-حسب ضرورات التجربة- بين استخدام القافية بأنماطها المتعددة المستحدثة وعدم استخدامها، وهذا كله إنما يحصل في صالح المستوى الدلالي الذي يتنفس بعمق في مجال حيوي كهذا للعمل الشعري.
إن رواد القصيدة العربية الحديثة أبدوا اهتماماً خاصاً واستثنائياً بالقافية، وبدر شاكر السياب مثلاً لا يكاد يفارقها في أية قصيدة من قصائده إلا ما ندر، وإزاء هذا الاحتفاء الخاص والتفنن في الاستخدام التقفوي فإنه يحاول أن يغني قوافيه بالوظائف الدلالية التي يجعل منها بنى أساسية في قصائده.
ولو أخذنا على سبيل المثال قصيدته "الباب تقرعه الرياح" لرأينا أنه استخدم فيها مالا يقل عن سبع قواف متنوعة متداخلة:
الباب ما قرعته غير الريح في الليل العميق
الباب ما قرعته كفك،
أين كفك والطريق
ناء؟ بحار بيننا، مدن، صحارى من الظلام
الريح تحمل لي صدى القبلات منها كالحريق
من نخلة يعدو إلى أخرى ويزهو في الغمام
الباب ما قرعته غير الريح...
آه لعل روحاً في الرياح
هامت تمر على المرافئ أو محطات القطار