حرمة سوء الظن بالمسلمين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: يحرم على المرء أن يظن السوء بأهل الخير والصلاح بدون دليل أو برهان, وكذا يحرم سوء الظن بالمسلم المستور الحال, الظاهر العدالة, الذي لم تظهر عليه علامات الفجور والفسوق, وأما مَنْ يُجاهر بالمعاصي والمنكرات فلا يحرم ظن السوء فيه؛ لأنه عَرَّض نفسه لذلك. قال سفيان الثوري -رحمه الله-: “الظن ظنان؛ أحدهما إثم؛ وهو أن تظنَّ وتتكلَّم به، والآخر ليس بإثم؛ وهو أن تظنَّ ولا تتكلم”.
وقد نهى الله -تعالى- عن سوء الظن بأهل الخير من المؤمنين بقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ)[الحجرات: 12]؛ فقوله سبحانه: (اجْتَنِبُوا) فعل أمر يقتضي الوجوب ولا صارف له, يقال: اجتنب فلان فلانًا إذا ابتعد عنه, حتى لكأنه في جانب والآخر في جانب مقابل.
فالله -تعالى- أمر المؤمنين أن يبتعدوا ابتعادًا تامًّا عن الظنون السيئة بأهل الخير من المؤمنين؛ لأنَّ هذه الظنون السيئة لا تستند إلى دليل أو أَمارةٍ صحيحة, وإنما هي مجرد ظنونٍ وأوهام, تؤدِّي إلى تولُّد الشكوك والمفاسد فيما بينكم. ولنتأمل لفظ: (كَثِيرًا)، لكي يحتاط المسلم في ظنونه, ويبتعد عمَّا هو محرم منها, ولا يُقدِم إلاَّ على ما هو واجب أو مباح من الظنون.
قال ابن كثير -رحمه الله-: “ينهى اللهُ عبادَه المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التُّهمة والتَّخوُّن للأهل والأقارب والناس في غير محلِّه؛ لأنَّ بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فَلْيُجتنبْ كثيرًا منه احتياطًا“.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يُحذِّر من سوء الظن بقوله: “إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ” (رواه البخاري ومسلم).
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ, وَيَقُولُ: “مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ!, مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ!, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ, وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا” (حديث حسن رواه ابن ماجه).
وعن سعيد بن المسيب -رحمه الله- قال: “كتب إليَّ بعضُ إخواني من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَنْ ضَعْ أَمْرَ أخيك على أحْسَنِه, ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنَّنَّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًّا؛ وأنت تجد لها من الخير محملاً، ومَنْ عَرَّضَ نفسَه للتُّهم، فلا يلومنَّ مَنْ أساء به الظنَّ“.
أيها الإخوة الكرام.. ومن مساوئ الظن السيئ: أنه يدفع صاحبه؛ لتتبُّع عورات المسلمين, والبحث عن زلاَّتهم, والتنقيب عن سقطاتهم, وهو بذلك يُعرِّض نفسه لغضب الله -تعالى- وعقابه, وقد توعَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء المرضى بالفضيحة بقوله: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ! لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ, وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ, فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ, وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» (حديث صحيح رواه أبو داود).
وصاحب الظن السيئ هو أشد الناس هلاكًا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ؛ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ” (رواه مسلم). أي: أشدُّهم هلاكًا. قال الخطابي: “معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس, ويذكر مساويهم ويقول: فسد الناس, وهلكوا, ونحو ذلك. فإذا فعل ذلك فهو أهلكُهم. أي: أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم“.
أيها المسلمون .. سوء الظن بالناس له أسباب؛ فمن أعظم أسبابه: تزكية المرء نفسه, والإعجاب بها, ورؤية أنه خير منهم, فيؤدي ذلك إلى احتقاره لغيره, ويرى نفسه على الصواب وغيره على الباطل, فالعُجب بالنفس يُورِثُ سوء الظن بالآخرين.
ومن أسباب سوء الظن بالناس: خبث النفس, وضعف العقل, وضعف الإيمان, وتسلط الشيطان على الإنسان, فإنَّ أصحاب العقول الكبيرة والنفوس الطيبة يتركون هذا الخُلق السيئ ويُحسنون الظن بالمسلمين. قال المقدسي – رحمه الله-: “إنما يترشَّح سوء الظن بخبث الظانّ؛ لأن المؤمن يطلب المعاذير للمؤمن، والمنافق يبحث عن عيوبه. وينبغي للإنسان أن يحترز عن مواقف التُّهم؛ لئلاَّ يُساء به الظن، فهذا طَرَفٌ من ذِكر مداخل الشيطان“.
ومن الأسباب: التشدد والغلو في بعض القضايا والمسائل والأفكار, ولأجل اجتماع كلمة المسلمين وخشية الفُرْقَة بينهم ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- بعضَ المُستحبات كي لا تضيع في فِعلها واجبات؛ من ذلك أنه لم يُعطِ بعضَ الفقراء وأعطى بعضَ الأغنياء تأليفًا لقلوبهم على الإسلام, ومنها أنه ترك تغيير بناء الكعبة المشرفة إبقاء لتأليف القلوب, وقد كان ابن مسعود يُنكر على عثمان إتمام الصلاة في السفر, ثم صلَّى خلفه مُتِمًّا, وقال: “الخلاف شَرّ” -رضي الله عنهما جميعًا-.
ومن أسباب سوء الظن: عدم احترام آراء الآخرين, والإصرار على تبنِّي وجهة نظر واحدة وترك ما سواها, والموالاة فيها والمعاداة من أجلها, ومن أوضح الأمثلة في ذلك ما قاله ابن حزم – عن بعض المتعصِّبين للعلماء أن “مَنْ نشأ بينهم قد شَغَلَه حُسن الظن بِمَنْ قلَّد أو استحسانه لِمَا قلَّد فيه, وغَمَرَ الهوى عقلَه عن التفكير فيما فَهِمَ من البرهان, قد حال ما ذكرنا بينه وبين الرجوع إلى الحق, وصَرَفَ الهوى ناظِرَ قلبه عن التفكر فيما يتبيَّن له من البرهان, ونَفَّرَ عنه, وأوحشه منه, فهو إذا سَمِعَ برهانًا ظاهرًا لا مَدْفَعَ فيه عنده, ظَنَّه من الشيطان, وغالَبَ نفسَه حتى يُعْرِضَ عنه“.
ومن الأسباب: اتِّباع الهوى, فاتِّباع الهوى يُوقع في الظنون الكاذبة؛ لأن حُبَّ الشيء يُعمي ويُصم, فإذا مال الإنسان بهواه إلى آخر فإن هذا المَيل يُنسيه أخطاءه, ويحمله على تحسين الظن به, وإن كان مُخطئًا فيما يقول أو يعمل, وإذا أبغض إنسانًا آخر, فإن الهوى يحمله على سوء الظن به, والتماس عثراته وتصيُّد أخطائه, وإن كان مُصيبًا فيما يقول أو يعمل.
أقول قولي هذا ….
الخطبة الثانية:
الحمد لله …
أيها المسلمون .. كل مرض حسي أو نفسي أو اجتماعي له علاج, ومن ذلك سوء الظن بالناس, فهو مرض نفسي يصيب صاحبه بالغرور والتعالي على خَلْق الله -تعالى- واتهامهم بغير بيان ولا برهان, ومن سماحة الإسلام وشموليته أن أتاح لنا علاج هذه الأمراض, فمما أوصى به الإسلام لمكافحة سوء الظن والقضاء عليه:
1- التأمل في حقيقة البشر: إذْ يعتريهم النسيان والضعف والذهول, فإذا تأمل المرء ذلك يجد نفسه مرغمًا على التماس العذر لهم, وعدم مؤاخذتهم بما يصدر عنهم من أمور يمكن حملها على الوجه الحسن, ولو باحتمال ضعيف, قال عمر –رضي الله عنه-: “لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلاَّ خيرًا, وأنت تجد لها في الخير محملاً“.
2- مراعاة حق الإخوة: فأخوة الإيمان تحمل على حُسْن الظن بالمؤمن, والبعد عن سوء الظن به.
3- البعد عن الشبهات: ينبغي للمرء البعد عن الشبهات حتى لا يُساء به الظن, فلا يوقع نفسه في شبهة عمدًا بدعوى أنه لا يُبالي بالناس, فعند ذلك يفتح للشيطان طريقًا عليه بتشويه سمعته وصورته, وعلى إخوانه ببث وساوسه فيهم, وإيقاعهم في الإثم بسوء الظن, فمَنْ عَرَّضَ نفسَه للتُّهم، فلا يلومنَّ مَنْ أساء به الظنَّ, فإذا وقع في شبهة فعليه أن يُبادر للتوضيح وتجلية حقيقة الأمر للناس؛ كي يدفع عن عِرضه, ويرحم إخوانَه مِن إساءة الظن.
ولَمَّا جاءت صفية -رضي الله عنها- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وهو معتكف, ثم قام يردّها إلى بيتها, فمرَّ بهما رجلان فأسرعا, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “عَلَى رِسْلِكُمَا؛ إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ“. فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا” (رواه البخاري).
وصلوا وسلموا….
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: يحرم على المرء أن يظن السوء بأهل الخير والصلاح بدون دليل أو برهان, وكذا يحرم سوء الظن بالمسلم المستور الحال, الظاهر العدالة, الذي لم تظهر عليه علامات الفجور والفسوق, وأما مَنْ يُجاهر بالمعاصي والمنكرات فلا يحرم ظن السوء فيه؛ لأنه عَرَّض نفسه لذلك. قال سفيان الثوري -رحمه الله-: “الظن ظنان؛ أحدهما إثم؛ وهو أن تظنَّ وتتكلَّم به، والآخر ليس بإثم؛ وهو أن تظنَّ ولا تتكلم”.
وقد نهى الله -تعالى- عن سوء الظن بأهل الخير من المؤمنين بقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ)[الحجرات: 12]؛ فقوله سبحانه: (اجْتَنِبُوا) فعل أمر يقتضي الوجوب ولا صارف له, يقال: اجتنب فلان فلانًا إذا ابتعد عنه, حتى لكأنه في جانب والآخر في جانب مقابل.
فالله -تعالى- أمر المؤمنين أن يبتعدوا ابتعادًا تامًّا عن الظنون السيئة بأهل الخير من المؤمنين؛ لأنَّ هذه الظنون السيئة لا تستند إلى دليل أو أَمارةٍ صحيحة, وإنما هي مجرد ظنونٍ وأوهام, تؤدِّي إلى تولُّد الشكوك والمفاسد فيما بينكم. ولنتأمل لفظ: (كَثِيرًا)، لكي يحتاط المسلم في ظنونه, ويبتعد عمَّا هو محرم منها, ولا يُقدِم إلاَّ على ما هو واجب أو مباح من الظنون.
قال ابن كثير -رحمه الله-: “ينهى اللهُ عبادَه المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التُّهمة والتَّخوُّن للأهل والأقارب والناس في غير محلِّه؛ لأنَّ بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فَلْيُجتنبْ كثيرًا منه احتياطًا“.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يُحذِّر من سوء الظن بقوله: “إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ” (رواه البخاري ومسلم).
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ, وَيَقُولُ: “مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ!, مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ!, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ, وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا” (حديث حسن رواه ابن ماجه).
وعن سعيد بن المسيب -رحمه الله- قال: “كتب إليَّ بعضُ إخواني من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَنْ ضَعْ أَمْرَ أخيك على أحْسَنِه, ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنَّنَّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًّا؛ وأنت تجد لها من الخير محملاً، ومَنْ عَرَّضَ نفسَه للتُّهم، فلا يلومنَّ مَنْ أساء به الظنَّ“.
أيها الإخوة الكرام.. ومن مساوئ الظن السيئ: أنه يدفع صاحبه؛ لتتبُّع عورات المسلمين, والبحث عن زلاَّتهم, والتنقيب عن سقطاتهم, وهو بذلك يُعرِّض نفسه لغضب الله -تعالى- وعقابه, وقد توعَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء المرضى بالفضيحة بقوله: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ! لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ, وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ, فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ, وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» (حديث صحيح رواه أبو داود).
وصاحب الظن السيئ هو أشد الناس هلاكًا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ؛ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ” (رواه مسلم). أي: أشدُّهم هلاكًا. قال الخطابي: “معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس, ويذكر مساويهم ويقول: فسد الناس, وهلكوا, ونحو ذلك. فإذا فعل ذلك فهو أهلكُهم. أي: أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم“.
أيها المسلمون .. سوء الظن بالناس له أسباب؛ فمن أعظم أسبابه: تزكية المرء نفسه, والإعجاب بها, ورؤية أنه خير منهم, فيؤدي ذلك إلى احتقاره لغيره, ويرى نفسه على الصواب وغيره على الباطل, فالعُجب بالنفس يُورِثُ سوء الظن بالآخرين.
ومن أسباب سوء الظن بالناس: خبث النفس, وضعف العقل, وضعف الإيمان, وتسلط الشيطان على الإنسان, فإنَّ أصحاب العقول الكبيرة والنفوس الطيبة يتركون هذا الخُلق السيئ ويُحسنون الظن بالمسلمين. قال المقدسي – رحمه الله-: “إنما يترشَّح سوء الظن بخبث الظانّ؛ لأن المؤمن يطلب المعاذير للمؤمن، والمنافق يبحث عن عيوبه. وينبغي للإنسان أن يحترز عن مواقف التُّهم؛ لئلاَّ يُساء به الظن، فهذا طَرَفٌ من ذِكر مداخل الشيطان“.
ومن الأسباب: التشدد والغلو في بعض القضايا والمسائل والأفكار, ولأجل اجتماع كلمة المسلمين وخشية الفُرْقَة بينهم ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- بعضَ المُستحبات كي لا تضيع في فِعلها واجبات؛ من ذلك أنه لم يُعطِ بعضَ الفقراء وأعطى بعضَ الأغنياء تأليفًا لقلوبهم على الإسلام, ومنها أنه ترك تغيير بناء الكعبة المشرفة إبقاء لتأليف القلوب, وقد كان ابن مسعود يُنكر على عثمان إتمام الصلاة في السفر, ثم صلَّى خلفه مُتِمًّا, وقال: “الخلاف شَرّ” -رضي الله عنهما جميعًا-.
ومن أسباب سوء الظن: عدم احترام آراء الآخرين, والإصرار على تبنِّي وجهة نظر واحدة وترك ما سواها, والموالاة فيها والمعاداة من أجلها, ومن أوضح الأمثلة في ذلك ما قاله ابن حزم – عن بعض المتعصِّبين للعلماء أن “مَنْ نشأ بينهم قد شَغَلَه حُسن الظن بِمَنْ قلَّد أو استحسانه لِمَا قلَّد فيه, وغَمَرَ الهوى عقلَه عن التفكير فيما فَهِمَ من البرهان, قد حال ما ذكرنا بينه وبين الرجوع إلى الحق, وصَرَفَ الهوى ناظِرَ قلبه عن التفكر فيما يتبيَّن له من البرهان, ونَفَّرَ عنه, وأوحشه منه, فهو إذا سَمِعَ برهانًا ظاهرًا لا مَدْفَعَ فيه عنده, ظَنَّه من الشيطان, وغالَبَ نفسَه حتى يُعْرِضَ عنه“.
ومن الأسباب: اتِّباع الهوى, فاتِّباع الهوى يُوقع في الظنون الكاذبة؛ لأن حُبَّ الشيء يُعمي ويُصم, فإذا مال الإنسان بهواه إلى آخر فإن هذا المَيل يُنسيه أخطاءه, ويحمله على تحسين الظن به, وإن كان مُخطئًا فيما يقول أو يعمل, وإذا أبغض إنسانًا آخر, فإن الهوى يحمله على سوء الظن به, والتماس عثراته وتصيُّد أخطائه, وإن كان مُصيبًا فيما يقول أو يعمل.
أقول قولي هذا ….
الخطبة الثانية:
الحمد لله …
أيها المسلمون .. كل مرض حسي أو نفسي أو اجتماعي له علاج, ومن ذلك سوء الظن بالناس, فهو مرض نفسي يصيب صاحبه بالغرور والتعالي على خَلْق الله -تعالى- واتهامهم بغير بيان ولا برهان, ومن سماحة الإسلام وشموليته أن أتاح لنا علاج هذه الأمراض, فمما أوصى به الإسلام لمكافحة سوء الظن والقضاء عليه:
1- التأمل في حقيقة البشر: إذْ يعتريهم النسيان والضعف والذهول, فإذا تأمل المرء ذلك يجد نفسه مرغمًا على التماس العذر لهم, وعدم مؤاخذتهم بما يصدر عنهم من أمور يمكن حملها على الوجه الحسن, ولو باحتمال ضعيف, قال عمر –رضي الله عنه-: “لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلاَّ خيرًا, وأنت تجد لها في الخير محملاً“.
2- مراعاة حق الإخوة: فأخوة الإيمان تحمل على حُسْن الظن بالمؤمن, والبعد عن سوء الظن به.
3- البعد عن الشبهات: ينبغي للمرء البعد عن الشبهات حتى لا يُساء به الظن, فلا يوقع نفسه في شبهة عمدًا بدعوى أنه لا يُبالي بالناس, فعند ذلك يفتح للشيطان طريقًا عليه بتشويه سمعته وصورته, وعلى إخوانه ببث وساوسه فيهم, وإيقاعهم في الإثم بسوء الظن, فمَنْ عَرَّضَ نفسَه للتُّهم، فلا يلومنَّ مَنْ أساء به الظنَّ, فإذا وقع في شبهة فعليه أن يُبادر للتوضيح وتجلية حقيقة الأمر للناس؛ كي يدفع عن عِرضه, ويرحم إخوانَه مِن إساءة الظن.
ولَمَّا جاءت صفية -رضي الله عنها- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وهو معتكف, ثم قام يردّها إلى بيتها, فمرَّ بهما رجلان فأسرعا, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “عَلَى رِسْلِكُمَا؛ إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ“. فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا” (رواه البخاري).
وصلوا وسلموا….