في شهر رمضان الكريم ينسحب الطعام من الموائد في النهار، فيعوّض نفسه بأكثر من صورة، وحيثما أمكنه أن يفعل.
وهكذا تنبعث وصفات من الراديو، وبرامج تُبث على القنوات التلفزية، وصفحات خاصة بمختلف "الشهيوات" تنشرها الجرائد والمجلات، وصور لأطباق شهية تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن الطعام بات موضوعا يثار في المكالمات الهاتفية بين الأهل والأحباب..
ولا يعود هذا الطعام إلى نفسه من جديد إلّا بحلول مائدة الإفطار في الشهر الفضيل.
جريدة هسبريس الإلكترونية ارتأت أن تتحف قراءها خلال شهر رمضان المبارك بحلقات من كتاب "ديوان المائدة" للشاعر والكاتب المغربي المتألق سعد سرحان، وهو يقدم صورا غير مألوفة للطعام .. شهية طيبة:
يستحق الكسكس، وهو أيقونة المطبخ المغربي، أن يُفرد له كتاب ضخم يشترك في تأليفه نخبة من علماء التغذية والأنثروبولوجيا والتاريخ والأركيولوجيا والسيميائيات وغيرها من العلوم. فتناوله، بالقلم وليس باليد أو الملعقة، بوصفه نصًّا غذائيًّا يختلف أسلوبه حسب المناطق والمطابخ، لن يقِلَّ فائدة عن دراسة القطع النقدية والمشغولات اليدوية والأمثال الشعبية والوشوم والأحاجي والحليّ ورقصات القبائل ومواويل الجبال... لذلك، فهذه الورقة ليست سوى كلمة شكر صغيرة في حق طبق كبير.
يبدو الكسكس، من النظرة الأولى، حفيدًا حقيقيًّا للثريد. تلك الأكلة العربية التي كانت تُحضَّرُ من الخبز المفتّتِ مسقيّا بالمرق ومتوّجا باللحم، والتي لا تزال حتى الآن تنتاب موائد الفقراء من جوع لآخر، بعد أن صارت معهم متقشفة لدرجة أن لسائر الطعام فضلا عليها. ولعل هذا الشبه ما جعل بعضهم ينسبونه إلى العرب ويعزون وصوله إلى المغرب إلى الجيوش الإسلامية التي قدمت من المشرق.
إلا أن الكسكس، شيخ الأطعمة الطاعن في السن، يبدو أكبر بكثير ليس من الحفيد فقط وإنما من الجد أيضا. ولأن الأجداد الأوائل في أرض المغرب هم الأمازيغ، فمن المرجح أن يكونوا هم من أبدعوه. وللذين يرون هذا الرأي حجة لا تقبل الدحض، ذلك أن كلمة "كسكسو" كلمة أمازيغية وتعني كويرات أو حبيبات.
ليس للكسكس ملامح المدينة، فهو سابق على المدن. وليس له قسمات السهل، بدليل تضاريسه الوعرة. إنه سليل الجبال، من أخمص القصعة حتى لحم الأعالي. فمن طينها المَفْخور جُبِلَتْ مواعينه، ومن غلالها ومواشيها تخلّق طَبَقًا بسفح بَليلٍ وقمة بركانية تنفث البخار الحار درءًا لقرّ الثلوج. لذلك، فهو شامخ شموخها وراسخ رسوخها، وما نزوله منها إلى السهول والحواضر إلا كنزول الابن مع أهله بعد تبدّل الأحوال بحثا عن فسحة عيش أوسع من الفجاج. هكذا تغيرت صفاته وتعددت وصفاته بحسب الأرض التي يضرب فيها وما تنتج من خيرات.
... ويُخيّل إليّ أيضا أن الإنسان القديم، وقد انتقل للتو من الصيد إلى الزراعة، كان يقيم احتفالا كبيرا لصنيعه، فيحتفي بمحاصيله كلها، حبوبًا وخضرًا ولحومًا... فإذا هي كرنفال غذائي، لا أحد يعرف مَنْ أطلق عليه اسم الكسكس.
ليس الكسكس طعامًا، إنه الطعام. فتركيبته شبه الشاملة تجعل منه طعام الأطعمة، وهو بذلك المعادل الغذائي لكتاب الكتب عند بورخيس. فحين تقرفص القصعة على الأرض أو وسط المائدة تكون مكتفية بذاتها، فلا سَلَطات حولها ولا مُقبِّلات. فكما أن حضور الماء يرفع التيمّم، فإن حضور الكسكس يرفع ما عداه. أما تناوله باليد المجردة، فلابد أنها عادة جاء بها من الماضي السحيق لانعدام الملاعق أو نزلت معه من الجبال لحاجة الأطراف الباردة لسخونة أكيدة.
ليس الكسكس طعامًا، إنه الطعام (بتسكين الطاء) كما تنطقه العامة في غير منطقة من المغرب.
وإذا كان الكسكس طعاما جامعًا تقريبًا، فإنه جماعيٌّ تمامًا. ذلك أن قصعته لا ترضى بأقل من حلقة عائلية تُغذّي دفئها من حرارته. فتجد هذا يناول مما يليه ذاك، وتلك تغدق على هذه، والكبير يُلقِّم الصغير... في درس عن ثقافة التشارك لا أوضح منه خارج حصة الكسكس.
يُقدَّم الكسكس يوم الجمعة مأدبةً، وفي العرس وليمةً، وفي المأتم وضيمةً، وحوله تنعقد حلقات الذكر... فهو يبارك ويعزّي ويُحسن ويُسبِّح مفصحًا، هكذا، عن مكارم الأخلاق وعمق الورع. وكما أنه ليس طعاما بل الطعام، فهو ليس معروفا فقط بل المعروف الذي لا يُؤْمَر به، وإنما يُسْدى لكل ذي مسغبة.
وكأيِّ جدٍّ طاعنٍ في السن، فإن للكسكس أبناءً وأحفادًا وأسباطًا يحملون الكثير من ملامحه. ولنا فقط أن نتملّى في السّميدة والبَلْبولَة والعَصيدَة والصَّيْكوكْ والبَرْكوكْشْ والدشيشة... لنرى كيف تفرّقت خريطته الجينية عشوائيا على نسله.
.. إنه مفرد بصيغة الجمع. والفضل في ذلك يعود إلى النساء اللواتي برعن وأبدعن في جنسه بما توافر لهن من خيرات الأرض. فلأصابعهن أسرار البلاغة والبيان التي تجعل من الكسكس سحرًا، ولها لذّتها التي تصيبه فتعرّض آكله لقضم أصابعه من فرطها. فسلام عليهن، على النساء وهنَّ يَفْتِلْنه، وهن يُبَخِّرنه، وهن يطبخن لحمه وخضره، وهن يسقينه، وسلام عليهن إِذْ يُقدِّمنه طَبَقًا شهيًّا.
إنه جمع بصيغة المفرد، فهو الكسكس باللحم والخضر، والكسكس المدفون، والكسكس المسقوف، والكسكس برأس الغنم، والكسكس بذيل البقر، والكسكس بالفول الأخضر، والكسكس بالقرْع الأحمر، والكسكس بالحمّص والزبيب، والكسكس بالقرفة والحليب...
وكلما ابتعد عن المراكز والحواضر، استفحلت لذّته، وكأنه لا يكون رائقًا إلا قرب ربوعه الأولى حيث الحقل أسفل الحاكورة والساقية تنحدر إليهما معا من مرتفعات الثغاء.
إلا أن ألذّ أطباق الكسكس على الإطلاق، والعهدة عليّ، هو الكسكس بلحوم الطرائد من حجل ويمام وأرنب بريٍّ وسمّانٍ... ذلك أنه يتوّج الزراعة بالصيد في تمجيد رمزي من الإنسان لأهم نشاطَيْن ضمنا له البقاء على قيد العيش.
وهكذا تنبعث وصفات من الراديو، وبرامج تُبث على القنوات التلفزية، وصفحات خاصة بمختلف "الشهيوات" تنشرها الجرائد والمجلات، وصور لأطباق شهية تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن الطعام بات موضوعا يثار في المكالمات الهاتفية بين الأهل والأحباب..
ولا يعود هذا الطعام إلى نفسه من جديد إلّا بحلول مائدة الإفطار في الشهر الفضيل.
جريدة هسبريس الإلكترونية ارتأت أن تتحف قراءها خلال شهر رمضان المبارك بحلقات من كتاب "ديوان المائدة" للشاعر والكاتب المغربي المتألق سعد سرحان، وهو يقدم صورا غير مألوفة للطعام .. شهية طيبة:
يستحق الكسكس، وهو أيقونة المطبخ المغربي، أن يُفرد له كتاب ضخم يشترك في تأليفه نخبة من علماء التغذية والأنثروبولوجيا والتاريخ والأركيولوجيا والسيميائيات وغيرها من العلوم. فتناوله، بالقلم وليس باليد أو الملعقة، بوصفه نصًّا غذائيًّا يختلف أسلوبه حسب المناطق والمطابخ، لن يقِلَّ فائدة عن دراسة القطع النقدية والمشغولات اليدوية والأمثال الشعبية والوشوم والأحاجي والحليّ ورقصات القبائل ومواويل الجبال... لذلك، فهذه الورقة ليست سوى كلمة شكر صغيرة في حق طبق كبير.
يبدو الكسكس، من النظرة الأولى، حفيدًا حقيقيًّا للثريد. تلك الأكلة العربية التي كانت تُحضَّرُ من الخبز المفتّتِ مسقيّا بالمرق ومتوّجا باللحم، والتي لا تزال حتى الآن تنتاب موائد الفقراء من جوع لآخر، بعد أن صارت معهم متقشفة لدرجة أن لسائر الطعام فضلا عليها. ولعل هذا الشبه ما جعل بعضهم ينسبونه إلى العرب ويعزون وصوله إلى المغرب إلى الجيوش الإسلامية التي قدمت من المشرق.
إلا أن الكسكس، شيخ الأطعمة الطاعن في السن، يبدو أكبر بكثير ليس من الحفيد فقط وإنما من الجد أيضا. ولأن الأجداد الأوائل في أرض المغرب هم الأمازيغ، فمن المرجح أن يكونوا هم من أبدعوه. وللذين يرون هذا الرأي حجة لا تقبل الدحض، ذلك أن كلمة "كسكسو" كلمة أمازيغية وتعني كويرات أو حبيبات.
ليس للكسكس ملامح المدينة، فهو سابق على المدن. وليس له قسمات السهل، بدليل تضاريسه الوعرة. إنه سليل الجبال، من أخمص القصعة حتى لحم الأعالي. فمن طينها المَفْخور جُبِلَتْ مواعينه، ومن غلالها ومواشيها تخلّق طَبَقًا بسفح بَليلٍ وقمة بركانية تنفث البخار الحار درءًا لقرّ الثلوج. لذلك، فهو شامخ شموخها وراسخ رسوخها، وما نزوله منها إلى السهول والحواضر إلا كنزول الابن مع أهله بعد تبدّل الأحوال بحثا عن فسحة عيش أوسع من الفجاج. هكذا تغيرت صفاته وتعددت وصفاته بحسب الأرض التي يضرب فيها وما تنتج من خيرات.
... ويُخيّل إليّ أيضا أن الإنسان القديم، وقد انتقل للتو من الصيد إلى الزراعة، كان يقيم احتفالا كبيرا لصنيعه، فيحتفي بمحاصيله كلها، حبوبًا وخضرًا ولحومًا... فإذا هي كرنفال غذائي، لا أحد يعرف مَنْ أطلق عليه اسم الكسكس.
ليس الكسكس طعامًا، إنه الطعام. فتركيبته شبه الشاملة تجعل منه طعام الأطعمة، وهو بذلك المعادل الغذائي لكتاب الكتب عند بورخيس. فحين تقرفص القصعة على الأرض أو وسط المائدة تكون مكتفية بذاتها، فلا سَلَطات حولها ولا مُقبِّلات. فكما أن حضور الماء يرفع التيمّم، فإن حضور الكسكس يرفع ما عداه. أما تناوله باليد المجردة، فلابد أنها عادة جاء بها من الماضي السحيق لانعدام الملاعق أو نزلت معه من الجبال لحاجة الأطراف الباردة لسخونة أكيدة.
ليس الكسكس طعامًا، إنه الطعام (بتسكين الطاء) كما تنطقه العامة في غير منطقة من المغرب.
وإذا كان الكسكس طعاما جامعًا تقريبًا، فإنه جماعيٌّ تمامًا. ذلك أن قصعته لا ترضى بأقل من حلقة عائلية تُغذّي دفئها من حرارته. فتجد هذا يناول مما يليه ذاك، وتلك تغدق على هذه، والكبير يُلقِّم الصغير... في درس عن ثقافة التشارك لا أوضح منه خارج حصة الكسكس.
يُقدَّم الكسكس يوم الجمعة مأدبةً، وفي العرس وليمةً، وفي المأتم وضيمةً، وحوله تنعقد حلقات الذكر... فهو يبارك ويعزّي ويُحسن ويُسبِّح مفصحًا، هكذا، عن مكارم الأخلاق وعمق الورع. وكما أنه ليس طعاما بل الطعام، فهو ليس معروفا فقط بل المعروف الذي لا يُؤْمَر به، وإنما يُسْدى لكل ذي مسغبة.
وكأيِّ جدٍّ طاعنٍ في السن، فإن للكسكس أبناءً وأحفادًا وأسباطًا يحملون الكثير من ملامحه. ولنا فقط أن نتملّى في السّميدة والبَلْبولَة والعَصيدَة والصَّيْكوكْ والبَرْكوكْشْ والدشيشة... لنرى كيف تفرّقت خريطته الجينية عشوائيا على نسله.
.. إنه مفرد بصيغة الجمع. والفضل في ذلك يعود إلى النساء اللواتي برعن وأبدعن في جنسه بما توافر لهن من خيرات الأرض. فلأصابعهن أسرار البلاغة والبيان التي تجعل من الكسكس سحرًا، ولها لذّتها التي تصيبه فتعرّض آكله لقضم أصابعه من فرطها. فسلام عليهن، على النساء وهنَّ يَفْتِلْنه، وهن يُبَخِّرنه، وهن يطبخن لحمه وخضره، وهن يسقينه، وسلام عليهن إِذْ يُقدِّمنه طَبَقًا شهيًّا.
إنه جمع بصيغة المفرد، فهو الكسكس باللحم والخضر، والكسكس المدفون، والكسكس المسقوف، والكسكس برأس الغنم، والكسكس بذيل البقر، والكسكس بالفول الأخضر، والكسكس بالقرْع الأحمر، والكسكس بالحمّص والزبيب، والكسكس بالقرفة والحليب...
وكلما ابتعد عن المراكز والحواضر، استفحلت لذّته، وكأنه لا يكون رائقًا إلا قرب ربوعه الأولى حيث الحقل أسفل الحاكورة والساقية تنحدر إليهما معا من مرتفعات الثغاء.
إلا أن ألذّ أطباق الكسكس على الإطلاق، والعهدة عليّ، هو الكسكس بلحوم الطرائد من حجل ويمام وأرنب بريٍّ وسمّانٍ... ذلك أنه يتوّج الزراعة بالصيد في تمجيد رمزي من الإنسان لأهم نشاطَيْن ضمنا له البقاء على قيد العيش.