الخطبة الأولى
أَمَّا بَعدُ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لم يَعُد خَافِيًا عَلَى كُلِّ ذِي لُبٍّ وَبَصِيرَةٍ، مَا تُجَرُّ إِلَيهِ بِلادُنَا جَرًّا عَنِيفًا، وَمَا يَسعَى إِلَيهِ المُنَافِقُونَ سَعيًا حَثِيثًا، في حَمَلاتٍ تَغرِيبِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَأُخرَى خَافِيَةٍ مَاكِرَةٍ، يَلبَسُونَ فِيهَا أَلبِسَةً شَتَّى، ويَتَقنَّعُونَ بِأَقنِعَةٍ مُختَلِفَةٍ، وَيَتَلَوَّنُونَ بِأَلوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَيَحمِلُونَ هُوِيَّاتٍ مُختَلِفَةً، وَيَنزِعُونَ إِلى أَفكَارٍ مُتَنَاقِضَةٍ وَينطَلِقُونَ مِن رُؤًى مُتَبَايِنَةٍ، وَإِن كَانُوا في الحَقِيقَةِ لا يَحمِلُونَ فِكرًا وَلا يُرِيدُونَ بِرًّا، وَلا يَسعَونَ إِلى تَقَدُّمٍ وَلا يَنشُدُونَ حَلَّ مُشكِلَةٍ، وَإِنَّمَا نَيلَ الشَّهَوَاتِ يَطلُبُونَ، وَلِتَضيِيعِ الأُمَّةِ يَهدِفُونَ: (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشعُرُونَ * في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بما كَانُوا يَكذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُم لا تُفسِدُوا في الأَرضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحنُ مُصلِحُونَ * أَلا إِنَّهُم هُمُ المُفسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشعُرُونَ).
وَفي مُقَابِلِ هَؤُلاءِ الضَّالِّينَ المُضِلِّينَ، وَمَا يَحمِلُونَهُ مِن نَوَايَا سَيِّئَةٍ وإِرَادَاتٍ شِرِّيرَةٍ، وَمَا تَنطَوِي عَلَيهِ أَعمَالُهُم مِن أَهدَافٍ وَضِيعَةٍ وَغَايَاتٍ دَنِيئَةٍ، فَإِنَّ مِمَّا يُبهِجُ النُّفُوسَ وَيَسُرُّ الخَوَاطِرَ، وَيَشفِي صُدُورَ قَومٍ مُؤمِنِينَ وَيُذهِبُ غَيظَ قُلُوبِهِم، وُجُودَ عَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ الشُّيُوخِ الأَبرَارِ وَالدُّعَاةِ الأَخيَارِ وَطَلَبَةِ العِلمِ الأَطهَارِ، يُحَارِبُونَ هَذَا التَّخطِيطَ الإِجرَامِيَّ وَيُقَاوِمُونَهُ لَيلَ نَهَارَ، وَيَتَصَدَّونَ بِقُوَّةٍ لِهَذَا الخُبثِ الظَّاهِرِ وَالمَكرِ الكُبَّارِ، وَيَفضَحُونَ مُخَطَّطَاتِ ذَلِكَ التَّغرِيبِ الإِفسَادِيِّ المَقِيتِ،
مُتَحَمِّلِينَ في ذَلِكَ مَا يَتَحَمَّلُونَهُ، مِنِ استِهزَاءٍ بهم في الصُّحُفِ، وَتَعرِيضٍ بهم في وَسَائِلِ الإِعلامِ، وَتَضيِيقٍ عَلَيهِم مِن بَعضِ أَصحَابِ القَرَارِ، مِمَّن وَهَبَهُمُ اللهُ جَاهًا في الدَّولَةِ، وَنَالُوا لَدَى وُلاةِ الأُمُورِ حُظوَةً، وَحَطَّ المَولى مِن قَدرِهِم لَدَيهِ وَكَسَاهُم صَغَارًا وَهَوَانًا وَذِلَّةً، حَتَّى لم يَرَوا لَهُم عَدُوًّا غَيرَ حَمَلَةِ العِلمِ وَحُمَاةِ الشَّرِيعَةِ، وَلم يَجِدُوا حَقِيقًا بِالحَربِ وَالمُقَاوَمَةِ إِلاَّ حَامِلِي لِوَاءِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَيَتَسَاءَلُ مُتَسَائِلٌ وَيَقُولُ: مَا هَذِهِ المُفَارَقَةُ بَينَ الفَرِيقَينِ؟ وَلماذَا يَسعَى أَذنَابُ الغَربِ لِتَسوِيقِ خُطَطٍ نَصرَانِيَّةٍ وَتَحقِيقِ مَآرِبَ يَهُودِيَّةٍ، وَيَتَفَانَونَ في تَنفِيذِ مَشرُوعٍ تَغرِيبيٍّ حَقِيرٍ، قَد لَفَظَتهُ دُوَلٌ سَبَقَتنَا إِلَيهِ بِعَشَرَاتِ السِّنِينِ؟ وَمَا الَّذِي في المُقَابِلِ يَدفَعُ الدُّعَاةَ العُقَلاءَ وَالمُصلِحِينَ الفُضَلاءَ لِمُجَابَهَةِ هَذَا الوَبَاءِ وَتَجرِيمِ ذَلِكَ الهُرَاءِ، وَالحَيلُولَةِ دُونَ أُولَئِكَ المُنَافِقِينَ وَتَغرِيبِ العِبَادِ وَالبِلادِ؟ أَمَّا المُؤمِنُونَ الأَخيَارُ وَالمُحتَسِبُونَ الأَطهَارُ، فَإِنَّمَا يَدفَعُهُم إِلى مَا يَتَكَلَّفُونَهُ في ذَلِكَ مِن عَنَاءٍ وَيَتَحمَّلُونَهُ مِن هَمٍّ، أَنَّهُم عَلِمُوا أَنَّهُم مُكَلَّفُونَ بِأَمَانَةٍ عَظِيمَةٍ وَيَحمِلُونَ مَسؤُولِيَّةً ثَقِيلَةً، وَأَنَّ مِنَ الوَاجِبِ الشَّرعِيِّ عَلَيهِم لِلنَّاسِ، أَن يُبَلِّغُوهُم العِلمَ وَيَحمِلُوهُم عَلَى تَطبِيقِ الشَّرعِ، وَأَن يُبَيِّنُوا لَهُمُ الحَقَّ وَالمَعرُوفَ وَيَرَغِّبُوهُم فِيهِ،
وَأَن يُنكِرُوا عَلَيهِمُ البَاطِلَ وَالمُنكَرَ وَيَحذِّرُوهُم مِنهُ، وَكَيفَ لا يَفعَلُونَ وَقَد أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهلِ العِلمِ العَهدَ أَن يُبَيِّنُوهُ وَلا يَكتُمُوهُ؟ وَكَيفَ لا يُنكِرُونَ المُنكَرَ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ رَآهُ وَعَلِمَ بِهِ صَغِيرًا كَانَ أَو كَبِيرًا؟ فَكَيفَ بهم وَهُم أَهلُ العِلمِ وَالصَّلاحِ، الَّذِينَ هُم أَولى النَّاسِ بِالأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ، وَالاحتِسَابُ في حَقِّهِم آكَدُ وَهُوَ عَلَيهِم أَوجَبُ، لِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن عِلمٍ وَفَهمٍ، وَبمَا رَزَقَهُم مِن فِقهٍ وبَصِيرَةٍ؟ قَالَ - سبحانه -: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكتُمُونَهُ).
وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن رَأَى مِنكُم مُنكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِن لم يَستَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِن لم يَستَطِعْ فَبِقَلبِهِ، وَذَلِكَ أَضعَفُ الإِيمَانِ)).
إِنَّ العُلَمَاءَ وَالدُّعَاةَ حِينَ يُنكِرُونَ المُنكَرَاتِ وَيَحتَسِبُونَ عَلَى أَهلِ المُنكَرِ، إِنَّهُم إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَن يُعذِرُوا إِلى اللهِ - تعالى -بِقِيَامِهِم بما أَوجَبَهُ عَلَيهِم مِن بَيَانِ الحَقِّ وَإِنكَارِ ضِدِّهِ، قَالَ - سبحانه - : (وَإِذْ قَالَت أُمَّةٌ مِنهُم لِمَ تَعِظُونَ قَومًا اللهُ مُهلِكُهُم أَو مُعَذِّبُهُم عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعذِرَةً إِلى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقُونَ).
وَلَولا الغَيرَةُ عَلَى الأَعرَاضِ، الَّتي هِيَ مِن أَعظَمِ صِفَاتِ ذَوِي الشَّهَامَةِ مِنَ الرِّجَالِ فَضلاً عَنِ المُسلِمِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بها إِلى اللهِ، لَولا تِلكَ الغَيرَةُ، لانتُهِكَتِ الأَعرَاضُ وَفَسَدتِ الأَخلاقُ، وَلاختَلَطَتِ الأَنسَابُ وَذَهَبَتِ الآدَابُ، وَلَكِنَّ اللهَ كَرَّمَ مَنِ اصطَفَاهُ مِن عِبَادِهِ بهذِهِ الغَيرَةِ، فَحَمَلُوا عَلَى عَوَاتِقِهِم مُهِمَّةَ إِنكَارِ المُنكَرَاتِ، وَاتَّصَفُوا بِالغَضَبِ لانتِهَاكِ الحُرُمَاتِ، وَتَمَيَّزُوا بِتَمَعُّرِ الوُجُوهِ في ذَاتِ اللهِ، وَللهِ دَرُّ أَصحَابِ الغَيرَةِ مَا أَكرَمَهُم وَمَا أَجَلَّ شَأنَهُم وَمَا أَعلَى هِمَّتَهُم، حَيثُ كَانُوا سَمَاوِيِّينَ رَبَّانِيِّينَ، عَلَى صِفَةٍ يَتَّصِفُ بها اللهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبَّانِهَا؛ فَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّ سَعدَ بنَ عُبَادَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: لَو رَأَيتُ رَجُلاً مَعَ امرَأَتي لَضَرَبتُهُ بِالسَّيفِ غَيرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ((أَتَعجَبُونَ مِن غَيرَةِ سَعدٍ؟ وَاللهِ لأَنَا أَغيَرُ مِنهُ، وَاللهُ أَغيَرُ مِنِّي، وَمِن أَجلِ غَيرَةِ اللهِ حَرَّمَ اللهُ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ)) الحَدِيثَ.
وَعَن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَت: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَينَ أَمرَينِ قَطُّ إِلاَّ أَخَذَ أَيسَرَهُمَا مَا لم يَكُن إِثمًا، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ إِثمٌ كَانَ أَبعَدَ النَّاسِ مِنهُ، وَمَا انتَقَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفسِهِ في شَيءٍ قَطُّ إِلاَّ أَن تُنتَهَكَ حُرمَةُ اللهِ فَيَنتَقِمَ للهِ - تعالى –"[رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ].
إِنَّ عُلَمَاءَنَا وَدُعَاتِنَا وَالمُصلِحِينَ مِن أُمَّتِنَا حِينَ تَحمِلُهُم غَيرَتُهُم عَلَى الدِّينِ وَالأَعرَاضِ أَن يَذُبُّوا عَنهَا وَيُنَافِحُوا لِحِمَايَتِهَا، وَأَن يُدَافِعُوا أَهلَ البَاطِلِ لِصِيَانَتِهَا وَوِقَايَتِهَا، إِنَّمَا هُم في ذَلِكَ عَلَى الأَصلِ الأَصِيلِ، مُقتَفُونَ لِلأَثَرِ مُتَّبِعُونَ لِلسُّنَنِ، سَائِرُونَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيهِ نَبِيُّهُم مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ، نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّهُ لَيسَ العَجَبُ مِمَّن تَشتَدُّ غَيرَتُهُ فَيُنكِرُ المُنكَرَ مُكَاتَبَةً أَو مُشَافَهَةً، أَو يَجُولُ في الأَسوَاقِ وَيَغشَى المَجَامِعَ لِهَذَا الهَدَفِ النَّبِيلِ، لا وَاللهِ مَا في ذَلِكَ مِن عَجَبٍ وَلا هُوَ بِمُستَنكَرٍ، وَإِنَّمَا العَجَبُ الَّذِي لا يَنقَضِي، إِنَّمَا هُوَ مِن قَومٍ نُزِعَتِ الغَيرَةُ مِن قُلُوبِهِم، فَأَصبَحُوا لا يَعرِفُونَ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُونَ مُنكَرًا، إِلاَّ مَا أُشرِبُوا مِن أَهوَائِهِم، قَالَ ابنُ القَيِّمِ - رحمه الله - : "وَمَا جَاهَدَ مُؤمِنٌ نَفسَهُ وَعَدُوَّهُ، وَلا أَمرَ بِمَعرُوفٍ وَلا نَهَى عَنِ مُنكَرٍ إِلاَّ بهَذِهِ الغَيرَةِ، وَمَتَى خَلَت مِنَ القَلبِ خَلا مِنَ الدِّينِ" انتَهَى كَلامُهُ.
إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ، وَيَتَنَقَّصُونَ المُحتَسِبِينَ وَيُضَيِّقُونَ عَلَيهِم، بَل وَصَلَ بهمُ الأَمرُ بَعدَ أَن ضَاقُوا بِأَصوَاتِهِم وَكِتَابَاتِهِم، إِلى أَن يَتَّهِمُوهُم في وَلائِهِم، ثُمَّ يُوقِفُوهُم وَيَسجُنُوهُم، إِنَّ أُولَئِكَ لَهُمُ المَفتُونُونَ حَقًّا، الَّذِينَ لا دِينًا يَحمِلُونَ، وَلا مُرُوءَةً يُكِنُّونَ، بَل هُم كَالبَهَائِمِ يَسِيرُونَ، وَفي الشَّهَوَاتِ يَتَهَوَّكُونَ، وَفي الرَّذَائِلِ يَرتَعُونَ، وَصَدَقَ - عليه الصلاة والسلام - حَيثُ قَالَ: ((تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ عَرضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ سَودَاءُ، وَأَيُّ قَلبٍ أَنكَرَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ بَيضَاءُ، حَتَّى يَصِيرَ القَلبُ أَبيَضَ مِثلَ الصَّفَا لا تَضُرُّهُ فِتنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ، وَالآخَرُ أَسوَدَ مُربَدًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُ مُنكَرًا إِلاَّ مَا أُشرِبَ مِن هَوَاهُ))[رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ حُبَّ الخَيرِ لِلآخَرِينَ، وَالَّذِي لا يَكمُلُ إِيمَانٌ إِلاَّ بِهِ، إِنَّهُ لَمِنَ أَعظَمِ مَا دَفَعَ المُصلِحِينَ إِلى الإِصلاحِ، حَيثُ جَعَلُوا نُصبَ أَعيُنِهِم قَولَهُ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا في الصَّحِيحَينِ: ((لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ)).
وَقَولَهُ - عليه الصلاة والسلام - كَمَا عِندَ مُسلِمٍ: ((وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لا يُؤمِنُ عَبدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ)).
وَلَقَد عَلِمَ المُصلِحُونَ بما عَلَّمَهُمُ اللهُ وَمَا فَهِمُوهُ مِن سُنَنِهِ، أَنَّهُ لا بُدَّ مِن مُدَافَعَةِ أَهلِ البَاطِلِ وَالأَخذِ عَلَى أَيدِيهِم، وَأَنْ لا سَبِيلَ لِحِفظِ الأُمَّةِ مِنَ الهَلاكِ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ فَلْيَرقُبِ الجَمِيعُ الهَلاكَ صَالِحِينَ وَفَاسِدِينَ وَمُفسِدِينَ، وَقَد جَاءَ ذَلِكَ في كِتَابِ اللهِ - تعالى - وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، حَيثُ قَالَ - سبحانه - : (وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ).
وَقَالَ - تعالى -: (فَلَولا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبلِكُم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ في الأَرضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّن أَنجَينَا مِنهُم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُترِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ).
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا في الصَّحِيحَينِ: ((مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ استَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعضُهُم أَعلاهَا وَبَعضُهُم أَسفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ في أَسفَلِهَا إِذَا استَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَن فَوقَهُم، فَقَالُوَا لَو أَنَّا خَرَقنَا في نَصِيبِنَا خَرقًا وَلم نُؤذِ مَن فَوقَنَا، فَإِن يَترُكُوهُم وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِن أَخَذُوا عَلَى أَيدِيهِم نَجَوا وَنَجَوا جَمِيعًا)).
وَعَن أَبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُم تَقرَؤُونَ هَذِهِ الآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم) وَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالمَ فَلَم يَأخُذُوا عَلَى يَدَيهِ أَوشَكَ أَن يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِن عِندِهِ))[رَوَاهُ أَهلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ].
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ: (وَلا تَركَنُوا إِلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللهِ مِن أَولِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ).
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تعالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ: (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: وَكَمَا أَنَّ التَّقوَى وَخَوفَ اللهِ وَالغَيرَةَ تَدفَعُ المُصلِحِينَ إِلى الإِصلاحِ، فَإِنَّ قِلَّةَ الدِّيَانَةِ وَضَعفَ الأَمَانَةِ، وَعَدَمَ إِرَادَةِ الخَيرِ بِالأُمَّةِ وَلا الإِحسَاسَ بِالمَسؤُولِيَّةِ، إِنَّهَا لَمِمَّا يَحمِلُ كَثِيرًا مِنَ المُنَافِقِينَ المُفسِدِينَ وَالفَسَقَةِ الضَّالِّينَ عَلَى تَخَبُّطِهِم وَسَعيِهِم في طُرُقِ الإِفسَادِ وَاتِّبَاعِهِم سُبُلَ الإِضلالِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الشَّقَاءِ أَن يُعرِضَ أُولَئِكَ عَنِ الحَقِّ مَعَ مَا تَوَفَّرَ لهم مِن عِلمٍ مَبسُوطٍ في الكُتُبِ وَفَتَاوَى العُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ: (وَلَو أَنَّهُم فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيرًا لَهُم وَأَشَدَّ تَثبِيتًا * وَإِذًا لآتَينَاهُم مِن لَدُنَّا أَجرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَينَاهُم صِرَاطًا مُستَقِيمًا) لَكِنَّهُم لَمَّا لم يَستَسلِمُوا لِرَبِّهِم وَيَنقَادُوا لأَمرِهِ وَنَهيِهِ،
وَضَرَبُوا بِعُرضِ الحَائِطِ فَتَاوَى العُلَمَاءِ وَمَا بُنِيَ عَلَيهَا مِن أَوَامِرِ وُلاةِ الأَمرِ، إِذْ ذَاكَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا يَأتُونَهُ مِن مُنكَرَاتٍ، وَحَبَّبَ إِلَيهِمُ الاختِلاطَ وَانكِشَافَ العَورَاتِ، فَحَقَّ فِيهِم قَولُ اللهِ - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ ارتَدُّوا عَلَى أَدبَارِهِم مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيطَانُ سَوَّلَ لَهُم وَأَملَى لَهُم) كَمَا أَنَّ المَيلَ إِلى الشَّهَوَاتِ وَحُبَّ المَلَذَّاتِ،
وَتَقدِيمَ الفَاني عَلَى البَاقي، وَالرِّضَا بِالدُّنيَا مِنَ الآخِرَةِ، مِن أَعظَمِ أَسبَابِ سَعيِ أُولَئِكَ الضَّالِّينَ في الفَسَادِ وَالإِفسَادِ، قَالَ - تعالى -: (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيمًا) وَأَمَّا دَعوَى المَدَنِيَّةِ وَالتَّقَدُّمِ، فَإِنَّهَا مِن أَتَفَهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هَؤُلاءِ الحَمقَى المَأفُونِينَ، وَإِنَّ المُؤمِنَ العَاقِلَ لَيَتَسَاءَلُ: وَأَيُّ مَدَنِيَّةٍ وَتَقَدُّمٍ حِينَ تَقُودُ المَرأَةُ السَّيَّارَةَ فَيَضِيعَ عِرضُهَا وَيُهتَكَ شَرَفُهَا وَيَفسُدَ خُلُقُهَا؟ أَيُّ تَقَدُّمٍ وَمَدَنِيَّةٍ حِينَ تَختَلِطُ المَرأَةُ بِالرِّجَالِ في الشَّارِعِ وَالسُّوقِ وَالمُستَشفَى، أَو في المَكتَبِ وَالمَصنَعِ وَالمَدرَسَةِ وَالجَامِعَةِ؟ وَمَاذَا جَنى مَن فَعَلَ ذَلِكَ قَبلَنَا إِلاَّ تَحَرُّشَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَكَثرَةِ حَملِ السِّفَاحِ وَأَولادِ الزِّنَا؟ إِنَّ دِينَنَا وَهُوَ الشَّرعُ الكَامِلُ، لَهُوَ دِينُ السِّيَاسَةِ وَالاقتِصَادِ، وَدِينُ الفَردِ وَالمُجتَمَعِ، وَدِينُ التَّقَدُّمِ وَالرُّقِيِّ وَالحَضَارَةِ، لَكِنَّ هَؤُلاءِ يَستَبدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدنى بِالَّذِي هُوَ خَيرٌ، وَيَترُكُونَ شَرعَ اللهِ وَرَاءَهُم ظِهِريًّا طَلَبًا لِلشُّهرَةِ أَو حُبًّا لِلظُّهُورِ،
وَقَد يَكُونُ مِن أَهدَافِهِم نَيلُ عَرَضٍ مِن أَعرَاضِ الدُّنيَا قَلِيلٍ، بِتَوَلِّي مَنصِبٍ أَو تَحصِيلِ مَالٍ، أو التَّمَكُّنُ والحُضوَةُ عِندَ أَسيَادِهِم وَالتَّقَرُّبُ إِلى مَوَالِيهِم، الَّذِينَ سَيَتَبَرَّؤُونَ مِنهُم يَومًا مَا، وَصَدَقَ اللهُ إِذْ قَالَ: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَو يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَونَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَت بِهِمُ الأَسبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَو أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنهُم كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعمَالَهُم حَسَرَاتٍ عَلَيهِم وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار).
أَلا فَقَاتَلَهُمُ اللهُ وَأَبعَدَهُم وأَخزَاهُم، مَا أَضَلَّ في الدُّنيَا سَعيَهُم! وَمَا أَقَلَّ في الآخِرَةِ حَظَّهُم! (يُرِيدُونَ أَن يُطفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفوَاهِهِم وَيَأبى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ).
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أُمَّةَ الإِسلامِ وَلنَضَعْ أَيدِيَنَا بِأَيدِي إِخوَانِنَا مِنَ العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالمُصلِحِينَ وَالمُحتَسِبِينَ، وَلْنَحذَرْ مِن خِذلانِهِم، فَإِنَّ العُقُوبَةَ إِذَا وَقَعَت عَمَّت، وَالأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ مَن أَسبَابِ رَحمَةِ اللهِ لِلأُمَّةِ، وَهُوَ سَبِيلُ عِزَّتِهَا وَقُوَّتِهَا، وَأَهلُهُ هُم المَوعُودُونَ بِرِضَا اللهِ وَالفَوزِ بِجَنَّاتِهِ، وَمِن أَفضَلِ الجِهَادِ المَأمُورِ بِهِ جِهَادُ المُنَافِقِينَ وَالمُفسِدِينَ، وَفضحُ خُطَطِهِم وَتَوضِيحُ سُبُلِهِمُ المُلتَوِيَةِ لِلنَّاسِ لِيَحذَرُوهُم، قَالَ - سبحانه - : (وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللهُ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدنٍ وَرِضوَانٌ مِنَ اللهِ أَكبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيم).
ثم قَالَ - سبحانه - بَعدَ ذَلِكَ: (يَا أَيُّهَا النَّبيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغلُظْ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ).
أَمَّا بَعدُ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لم يَعُد خَافِيًا عَلَى كُلِّ ذِي لُبٍّ وَبَصِيرَةٍ، مَا تُجَرُّ إِلَيهِ بِلادُنَا جَرًّا عَنِيفًا، وَمَا يَسعَى إِلَيهِ المُنَافِقُونَ سَعيًا حَثِيثًا، في حَمَلاتٍ تَغرِيبِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَأُخرَى خَافِيَةٍ مَاكِرَةٍ، يَلبَسُونَ فِيهَا أَلبِسَةً شَتَّى، ويَتَقنَّعُونَ بِأَقنِعَةٍ مُختَلِفَةٍ، وَيَتَلَوَّنُونَ بِأَلوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَيَحمِلُونَ هُوِيَّاتٍ مُختَلِفَةً، وَيَنزِعُونَ إِلى أَفكَارٍ مُتَنَاقِضَةٍ وَينطَلِقُونَ مِن رُؤًى مُتَبَايِنَةٍ، وَإِن كَانُوا في الحَقِيقَةِ لا يَحمِلُونَ فِكرًا وَلا يُرِيدُونَ بِرًّا، وَلا يَسعَونَ إِلى تَقَدُّمٍ وَلا يَنشُدُونَ حَلَّ مُشكِلَةٍ، وَإِنَّمَا نَيلَ الشَّهَوَاتِ يَطلُبُونَ، وَلِتَضيِيعِ الأُمَّةِ يَهدِفُونَ: (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشعُرُونَ * في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بما كَانُوا يَكذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُم لا تُفسِدُوا في الأَرضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحنُ مُصلِحُونَ * أَلا إِنَّهُم هُمُ المُفسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشعُرُونَ).
وَفي مُقَابِلِ هَؤُلاءِ الضَّالِّينَ المُضِلِّينَ، وَمَا يَحمِلُونَهُ مِن نَوَايَا سَيِّئَةٍ وإِرَادَاتٍ شِرِّيرَةٍ، وَمَا تَنطَوِي عَلَيهِ أَعمَالُهُم مِن أَهدَافٍ وَضِيعَةٍ وَغَايَاتٍ دَنِيئَةٍ، فَإِنَّ مِمَّا يُبهِجُ النُّفُوسَ وَيَسُرُّ الخَوَاطِرَ، وَيَشفِي صُدُورَ قَومٍ مُؤمِنِينَ وَيُذهِبُ غَيظَ قُلُوبِهِم، وُجُودَ عَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ الشُّيُوخِ الأَبرَارِ وَالدُّعَاةِ الأَخيَارِ وَطَلَبَةِ العِلمِ الأَطهَارِ، يُحَارِبُونَ هَذَا التَّخطِيطَ الإِجرَامِيَّ وَيُقَاوِمُونَهُ لَيلَ نَهَارَ، وَيَتَصَدَّونَ بِقُوَّةٍ لِهَذَا الخُبثِ الظَّاهِرِ وَالمَكرِ الكُبَّارِ، وَيَفضَحُونَ مُخَطَّطَاتِ ذَلِكَ التَّغرِيبِ الإِفسَادِيِّ المَقِيتِ،
مُتَحَمِّلِينَ في ذَلِكَ مَا يَتَحَمَّلُونَهُ، مِنِ استِهزَاءٍ بهم في الصُّحُفِ، وَتَعرِيضٍ بهم في وَسَائِلِ الإِعلامِ، وَتَضيِيقٍ عَلَيهِم مِن بَعضِ أَصحَابِ القَرَارِ، مِمَّن وَهَبَهُمُ اللهُ جَاهًا في الدَّولَةِ، وَنَالُوا لَدَى وُلاةِ الأُمُورِ حُظوَةً، وَحَطَّ المَولى مِن قَدرِهِم لَدَيهِ وَكَسَاهُم صَغَارًا وَهَوَانًا وَذِلَّةً، حَتَّى لم يَرَوا لَهُم عَدُوًّا غَيرَ حَمَلَةِ العِلمِ وَحُمَاةِ الشَّرِيعَةِ، وَلم يَجِدُوا حَقِيقًا بِالحَربِ وَالمُقَاوَمَةِ إِلاَّ حَامِلِي لِوَاءِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَيَتَسَاءَلُ مُتَسَائِلٌ وَيَقُولُ: مَا هَذِهِ المُفَارَقَةُ بَينَ الفَرِيقَينِ؟ وَلماذَا يَسعَى أَذنَابُ الغَربِ لِتَسوِيقِ خُطَطٍ نَصرَانِيَّةٍ وَتَحقِيقِ مَآرِبَ يَهُودِيَّةٍ، وَيَتَفَانَونَ في تَنفِيذِ مَشرُوعٍ تَغرِيبيٍّ حَقِيرٍ، قَد لَفَظَتهُ دُوَلٌ سَبَقَتنَا إِلَيهِ بِعَشَرَاتِ السِّنِينِ؟ وَمَا الَّذِي في المُقَابِلِ يَدفَعُ الدُّعَاةَ العُقَلاءَ وَالمُصلِحِينَ الفُضَلاءَ لِمُجَابَهَةِ هَذَا الوَبَاءِ وَتَجرِيمِ ذَلِكَ الهُرَاءِ، وَالحَيلُولَةِ دُونَ أُولَئِكَ المُنَافِقِينَ وَتَغرِيبِ العِبَادِ وَالبِلادِ؟ أَمَّا المُؤمِنُونَ الأَخيَارُ وَالمُحتَسِبُونَ الأَطهَارُ، فَإِنَّمَا يَدفَعُهُم إِلى مَا يَتَكَلَّفُونَهُ في ذَلِكَ مِن عَنَاءٍ وَيَتَحمَّلُونَهُ مِن هَمٍّ، أَنَّهُم عَلِمُوا أَنَّهُم مُكَلَّفُونَ بِأَمَانَةٍ عَظِيمَةٍ وَيَحمِلُونَ مَسؤُولِيَّةً ثَقِيلَةً، وَأَنَّ مِنَ الوَاجِبِ الشَّرعِيِّ عَلَيهِم لِلنَّاسِ، أَن يُبَلِّغُوهُم العِلمَ وَيَحمِلُوهُم عَلَى تَطبِيقِ الشَّرعِ، وَأَن يُبَيِّنُوا لَهُمُ الحَقَّ وَالمَعرُوفَ وَيَرَغِّبُوهُم فِيهِ،
وَأَن يُنكِرُوا عَلَيهِمُ البَاطِلَ وَالمُنكَرَ وَيَحذِّرُوهُم مِنهُ، وَكَيفَ لا يَفعَلُونَ وَقَد أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهلِ العِلمِ العَهدَ أَن يُبَيِّنُوهُ وَلا يَكتُمُوهُ؟ وَكَيفَ لا يُنكِرُونَ المُنكَرَ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ رَآهُ وَعَلِمَ بِهِ صَغِيرًا كَانَ أَو كَبِيرًا؟ فَكَيفَ بهم وَهُم أَهلُ العِلمِ وَالصَّلاحِ، الَّذِينَ هُم أَولى النَّاسِ بِالأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ، وَالاحتِسَابُ في حَقِّهِم آكَدُ وَهُوَ عَلَيهِم أَوجَبُ، لِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن عِلمٍ وَفَهمٍ، وَبمَا رَزَقَهُم مِن فِقهٍ وبَصِيرَةٍ؟ قَالَ - سبحانه -: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكتُمُونَهُ).
وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن رَأَى مِنكُم مُنكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِن لم يَستَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِن لم يَستَطِعْ فَبِقَلبِهِ، وَذَلِكَ أَضعَفُ الإِيمَانِ)).
إِنَّ العُلَمَاءَ وَالدُّعَاةَ حِينَ يُنكِرُونَ المُنكَرَاتِ وَيَحتَسِبُونَ عَلَى أَهلِ المُنكَرِ، إِنَّهُم إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَن يُعذِرُوا إِلى اللهِ - تعالى -بِقِيَامِهِم بما أَوجَبَهُ عَلَيهِم مِن بَيَانِ الحَقِّ وَإِنكَارِ ضِدِّهِ، قَالَ - سبحانه - : (وَإِذْ قَالَت أُمَّةٌ مِنهُم لِمَ تَعِظُونَ قَومًا اللهُ مُهلِكُهُم أَو مُعَذِّبُهُم عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعذِرَةً إِلى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقُونَ).
وَلَولا الغَيرَةُ عَلَى الأَعرَاضِ، الَّتي هِيَ مِن أَعظَمِ صِفَاتِ ذَوِي الشَّهَامَةِ مِنَ الرِّجَالِ فَضلاً عَنِ المُسلِمِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بها إِلى اللهِ، لَولا تِلكَ الغَيرَةُ، لانتُهِكَتِ الأَعرَاضُ وَفَسَدتِ الأَخلاقُ، وَلاختَلَطَتِ الأَنسَابُ وَذَهَبَتِ الآدَابُ، وَلَكِنَّ اللهَ كَرَّمَ مَنِ اصطَفَاهُ مِن عِبَادِهِ بهذِهِ الغَيرَةِ، فَحَمَلُوا عَلَى عَوَاتِقِهِم مُهِمَّةَ إِنكَارِ المُنكَرَاتِ، وَاتَّصَفُوا بِالغَضَبِ لانتِهَاكِ الحُرُمَاتِ، وَتَمَيَّزُوا بِتَمَعُّرِ الوُجُوهِ في ذَاتِ اللهِ، وَللهِ دَرُّ أَصحَابِ الغَيرَةِ مَا أَكرَمَهُم وَمَا أَجَلَّ شَأنَهُم وَمَا أَعلَى هِمَّتَهُم، حَيثُ كَانُوا سَمَاوِيِّينَ رَبَّانِيِّينَ، عَلَى صِفَةٍ يَتَّصِفُ بها اللهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبَّانِهَا؛ فَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّ سَعدَ بنَ عُبَادَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: لَو رَأَيتُ رَجُلاً مَعَ امرَأَتي لَضَرَبتُهُ بِالسَّيفِ غَيرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ((أَتَعجَبُونَ مِن غَيرَةِ سَعدٍ؟ وَاللهِ لأَنَا أَغيَرُ مِنهُ، وَاللهُ أَغيَرُ مِنِّي، وَمِن أَجلِ غَيرَةِ اللهِ حَرَّمَ اللهُ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ)) الحَدِيثَ.
وَعَن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَت: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَينَ أَمرَينِ قَطُّ إِلاَّ أَخَذَ أَيسَرَهُمَا مَا لم يَكُن إِثمًا، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ إِثمٌ كَانَ أَبعَدَ النَّاسِ مِنهُ، وَمَا انتَقَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفسِهِ في شَيءٍ قَطُّ إِلاَّ أَن تُنتَهَكَ حُرمَةُ اللهِ فَيَنتَقِمَ للهِ - تعالى –"[رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ].
إِنَّ عُلَمَاءَنَا وَدُعَاتِنَا وَالمُصلِحِينَ مِن أُمَّتِنَا حِينَ تَحمِلُهُم غَيرَتُهُم عَلَى الدِّينِ وَالأَعرَاضِ أَن يَذُبُّوا عَنهَا وَيُنَافِحُوا لِحِمَايَتِهَا، وَأَن يُدَافِعُوا أَهلَ البَاطِلِ لِصِيَانَتِهَا وَوِقَايَتِهَا، إِنَّمَا هُم في ذَلِكَ عَلَى الأَصلِ الأَصِيلِ، مُقتَفُونَ لِلأَثَرِ مُتَّبِعُونَ لِلسُّنَنِ، سَائِرُونَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيهِ نَبِيُّهُم مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ، نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّهُ لَيسَ العَجَبُ مِمَّن تَشتَدُّ غَيرَتُهُ فَيُنكِرُ المُنكَرَ مُكَاتَبَةً أَو مُشَافَهَةً، أَو يَجُولُ في الأَسوَاقِ وَيَغشَى المَجَامِعَ لِهَذَا الهَدَفِ النَّبِيلِ، لا وَاللهِ مَا في ذَلِكَ مِن عَجَبٍ وَلا هُوَ بِمُستَنكَرٍ، وَإِنَّمَا العَجَبُ الَّذِي لا يَنقَضِي، إِنَّمَا هُوَ مِن قَومٍ نُزِعَتِ الغَيرَةُ مِن قُلُوبِهِم، فَأَصبَحُوا لا يَعرِفُونَ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُونَ مُنكَرًا، إِلاَّ مَا أُشرِبُوا مِن أَهوَائِهِم، قَالَ ابنُ القَيِّمِ - رحمه الله - : "وَمَا جَاهَدَ مُؤمِنٌ نَفسَهُ وَعَدُوَّهُ، وَلا أَمرَ بِمَعرُوفٍ وَلا نَهَى عَنِ مُنكَرٍ إِلاَّ بهَذِهِ الغَيرَةِ، وَمَتَى خَلَت مِنَ القَلبِ خَلا مِنَ الدِّينِ" انتَهَى كَلامُهُ.
إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ، وَيَتَنَقَّصُونَ المُحتَسِبِينَ وَيُضَيِّقُونَ عَلَيهِم، بَل وَصَلَ بهمُ الأَمرُ بَعدَ أَن ضَاقُوا بِأَصوَاتِهِم وَكِتَابَاتِهِم، إِلى أَن يَتَّهِمُوهُم في وَلائِهِم، ثُمَّ يُوقِفُوهُم وَيَسجُنُوهُم، إِنَّ أُولَئِكَ لَهُمُ المَفتُونُونَ حَقًّا، الَّذِينَ لا دِينًا يَحمِلُونَ، وَلا مُرُوءَةً يُكِنُّونَ، بَل هُم كَالبَهَائِمِ يَسِيرُونَ، وَفي الشَّهَوَاتِ يَتَهَوَّكُونَ، وَفي الرَّذَائِلِ يَرتَعُونَ، وَصَدَقَ - عليه الصلاة والسلام - حَيثُ قَالَ: ((تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ عَرضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ سَودَاءُ، وَأَيُّ قَلبٍ أَنكَرَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ بَيضَاءُ، حَتَّى يَصِيرَ القَلبُ أَبيَضَ مِثلَ الصَّفَا لا تَضُرُّهُ فِتنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ، وَالآخَرُ أَسوَدَ مُربَدًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُ مُنكَرًا إِلاَّ مَا أُشرِبَ مِن هَوَاهُ))[رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ حُبَّ الخَيرِ لِلآخَرِينَ، وَالَّذِي لا يَكمُلُ إِيمَانٌ إِلاَّ بِهِ، إِنَّهُ لَمِنَ أَعظَمِ مَا دَفَعَ المُصلِحِينَ إِلى الإِصلاحِ، حَيثُ جَعَلُوا نُصبَ أَعيُنِهِم قَولَهُ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا في الصَّحِيحَينِ: ((لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ)).
وَقَولَهُ - عليه الصلاة والسلام - كَمَا عِندَ مُسلِمٍ: ((وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لا يُؤمِنُ عَبدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ)).
وَلَقَد عَلِمَ المُصلِحُونَ بما عَلَّمَهُمُ اللهُ وَمَا فَهِمُوهُ مِن سُنَنِهِ، أَنَّهُ لا بُدَّ مِن مُدَافَعَةِ أَهلِ البَاطِلِ وَالأَخذِ عَلَى أَيدِيهِم، وَأَنْ لا سَبِيلَ لِحِفظِ الأُمَّةِ مِنَ الهَلاكِ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ فَلْيَرقُبِ الجَمِيعُ الهَلاكَ صَالِحِينَ وَفَاسِدِينَ وَمُفسِدِينَ، وَقَد جَاءَ ذَلِكَ في كِتَابِ اللهِ - تعالى - وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، حَيثُ قَالَ - سبحانه - : (وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ).
وَقَالَ - تعالى -: (فَلَولا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبلِكُم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ في الأَرضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّن أَنجَينَا مِنهُم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُترِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ).
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا في الصَّحِيحَينِ: ((مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ استَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعضُهُم أَعلاهَا وَبَعضُهُم أَسفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ في أَسفَلِهَا إِذَا استَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَن فَوقَهُم، فَقَالُوَا لَو أَنَّا خَرَقنَا في نَصِيبِنَا خَرقًا وَلم نُؤذِ مَن فَوقَنَا، فَإِن يَترُكُوهُم وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِن أَخَذُوا عَلَى أَيدِيهِم نَجَوا وَنَجَوا جَمِيعًا)).
وَعَن أَبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُم تَقرَؤُونَ هَذِهِ الآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم) وَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالمَ فَلَم يَأخُذُوا عَلَى يَدَيهِ أَوشَكَ أَن يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِن عِندِهِ))[رَوَاهُ أَهلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ].
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ: (وَلا تَركَنُوا إِلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللهِ مِن أَولِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ).
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تعالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ: (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: وَكَمَا أَنَّ التَّقوَى وَخَوفَ اللهِ وَالغَيرَةَ تَدفَعُ المُصلِحِينَ إِلى الإِصلاحِ، فَإِنَّ قِلَّةَ الدِّيَانَةِ وَضَعفَ الأَمَانَةِ، وَعَدَمَ إِرَادَةِ الخَيرِ بِالأُمَّةِ وَلا الإِحسَاسَ بِالمَسؤُولِيَّةِ، إِنَّهَا لَمِمَّا يَحمِلُ كَثِيرًا مِنَ المُنَافِقِينَ المُفسِدِينَ وَالفَسَقَةِ الضَّالِّينَ عَلَى تَخَبُّطِهِم وَسَعيِهِم في طُرُقِ الإِفسَادِ وَاتِّبَاعِهِم سُبُلَ الإِضلالِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الشَّقَاءِ أَن يُعرِضَ أُولَئِكَ عَنِ الحَقِّ مَعَ مَا تَوَفَّرَ لهم مِن عِلمٍ مَبسُوطٍ في الكُتُبِ وَفَتَاوَى العُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ: (وَلَو أَنَّهُم فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيرًا لَهُم وَأَشَدَّ تَثبِيتًا * وَإِذًا لآتَينَاهُم مِن لَدُنَّا أَجرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَينَاهُم صِرَاطًا مُستَقِيمًا) لَكِنَّهُم لَمَّا لم يَستَسلِمُوا لِرَبِّهِم وَيَنقَادُوا لأَمرِهِ وَنَهيِهِ،
وَضَرَبُوا بِعُرضِ الحَائِطِ فَتَاوَى العُلَمَاءِ وَمَا بُنِيَ عَلَيهَا مِن أَوَامِرِ وُلاةِ الأَمرِ، إِذْ ذَاكَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا يَأتُونَهُ مِن مُنكَرَاتٍ، وَحَبَّبَ إِلَيهِمُ الاختِلاطَ وَانكِشَافَ العَورَاتِ، فَحَقَّ فِيهِم قَولُ اللهِ - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ ارتَدُّوا عَلَى أَدبَارِهِم مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيطَانُ سَوَّلَ لَهُم وَأَملَى لَهُم) كَمَا أَنَّ المَيلَ إِلى الشَّهَوَاتِ وَحُبَّ المَلَذَّاتِ،
وَتَقدِيمَ الفَاني عَلَى البَاقي، وَالرِّضَا بِالدُّنيَا مِنَ الآخِرَةِ، مِن أَعظَمِ أَسبَابِ سَعيِ أُولَئِكَ الضَّالِّينَ في الفَسَادِ وَالإِفسَادِ، قَالَ - تعالى -: (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيمًا) وَأَمَّا دَعوَى المَدَنِيَّةِ وَالتَّقَدُّمِ، فَإِنَّهَا مِن أَتَفَهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هَؤُلاءِ الحَمقَى المَأفُونِينَ، وَإِنَّ المُؤمِنَ العَاقِلَ لَيَتَسَاءَلُ: وَأَيُّ مَدَنِيَّةٍ وَتَقَدُّمٍ حِينَ تَقُودُ المَرأَةُ السَّيَّارَةَ فَيَضِيعَ عِرضُهَا وَيُهتَكَ شَرَفُهَا وَيَفسُدَ خُلُقُهَا؟ أَيُّ تَقَدُّمٍ وَمَدَنِيَّةٍ حِينَ تَختَلِطُ المَرأَةُ بِالرِّجَالِ في الشَّارِعِ وَالسُّوقِ وَالمُستَشفَى، أَو في المَكتَبِ وَالمَصنَعِ وَالمَدرَسَةِ وَالجَامِعَةِ؟ وَمَاذَا جَنى مَن فَعَلَ ذَلِكَ قَبلَنَا إِلاَّ تَحَرُّشَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَكَثرَةِ حَملِ السِّفَاحِ وَأَولادِ الزِّنَا؟ إِنَّ دِينَنَا وَهُوَ الشَّرعُ الكَامِلُ، لَهُوَ دِينُ السِّيَاسَةِ وَالاقتِصَادِ، وَدِينُ الفَردِ وَالمُجتَمَعِ، وَدِينُ التَّقَدُّمِ وَالرُّقِيِّ وَالحَضَارَةِ، لَكِنَّ هَؤُلاءِ يَستَبدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدنى بِالَّذِي هُوَ خَيرٌ، وَيَترُكُونَ شَرعَ اللهِ وَرَاءَهُم ظِهِريًّا طَلَبًا لِلشُّهرَةِ أَو حُبًّا لِلظُّهُورِ،
وَقَد يَكُونُ مِن أَهدَافِهِم نَيلُ عَرَضٍ مِن أَعرَاضِ الدُّنيَا قَلِيلٍ، بِتَوَلِّي مَنصِبٍ أَو تَحصِيلِ مَالٍ، أو التَّمَكُّنُ والحُضوَةُ عِندَ أَسيَادِهِم وَالتَّقَرُّبُ إِلى مَوَالِيهِم، الَّذِينَ سَيَتَبَرَّؤُونَ مِنهُم يَومًا مَا، وَصَدَقَ اللهُ إِذْ قَالَ: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَو يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَونَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَت بِهِمُ الأَسبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَو أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنهُم كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعمَالَهُم حَسَرَاتٍ عَلَيهِم وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار).
أَلا فَقَاتَلَهُمُ اللهُ وَأَبعَدَهُم وأَخزَاهُم، مَا أَضَلَّ في الدُّنيَا سَعيَهُم! وَمَا أَقَلَّ في الآخِرَةِ حَظَّهُم! (يُرِيدُونَ أَن يُطفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفوَاهِهِم وَيَأبى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ).
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أُمَّةَ الإِسلامِ وَلنَضَعْ أَيدِيَنَا بِأَيدِي إِخوَانِنَا مِنَ العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالمُصلِحِينَ وَالمُحتَسِبِينَ، وَلْنَحذَرْ مِن خِذلانِهِم، فَإِنَّ العُقُوبَةَ إِذَا وَقَعَت عَمَّت، وَالأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ مَن أَسبَابِ رَحمَةِ اللهِ لِلأُمَّةِ، وَهُوَ سَبِيلُ عِزَّتِهَا وَقُوَّتِهَا، وَأَهلُهُ هُم المَوعُودُونَ بِرِضَا اللهِ وَالفَوزِ بِجَنَّاتِهِ، وَمِن أَفضَلِ الجِهَادِ المَأمُورِ بِهِ جِهَادُ المُنَافِقِينَ وَالمُفسِدِينَ، وَفضحُ خُطَطِهِم وَتَوضِيحُ سُبُلِهِمُ المُلتَوِيَةِ لِلنَّاسِ لِيَحذَرُوهُم، قَالَ - سبحانه - : (وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللهُ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدنٍ وَرِضوَانٌ مِنَ اللهِ أَكبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيم).
ثم قَالَ - سبحانه - بَعدَ ذَلِكَ: (يَا أَيُّهَا النَّبيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغلُظْ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ).