بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
(( والناشطات نشطا ))
محمد طاهر عبدالظاهر
إن الإنسان ما خُلق لأن يعيش في هذا الكون إلی الأبد؛ بل يأتي عليه يوم يغادر هذا الكونَ ويترك ما كان عنده من الدنيا ويذهب معه ما كان من الآخرة؛ لأنَّ الموت أول مشهد من مشاهد الآخرة، وإنَّ سفَر الآخرة يبدأ من قبض الروح، فإذا كان الإنسان مؤمنًا، رأی علائمَ السعادة من البداية؛ حيث يسهِّل الله عليه نَشْطَ روحه ويكرمه ويشرفه، ويرسل مَوْكبًا من الملائكة لتشريفه وتكريمه؛ وذلك فضلٌ مِن الله يوتيه مِن عباده مَن يشاء، ولا تنال هذه التكرمة مَن كان في قلبه نِفاق أو كفر أو شِرك، هذه العطية خاصَّة للمؤمنين من عباده؛ حيث قال الله تعالی: ﴿ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴾ [1].
قال البغويُّ رحمه الله تعالی في تفسير هذه الآية: "الملائكة تنشط نفسَ المؤمن، أي: تحل حلًّا رفيقًا فتقبضها، كما ينشط العقال من يد البعير، أي: يحل برِفق"[2].
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالی عنهما في تفسير قوله تعالی: "﴿ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴾، يعني: الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير: إذا حل عنه"[3].
ونقل الإمام ابن جرير الطبري عن الفرَّاء[4] رحمهما الله تعالی: "الذي سمعت من العرب أن يقولوا: أنشطت، وكأنما أنشط من عقال، ورَبْطُها: نشطها، والرابط: النَّاشِط؛ قال: وإذا رَبَطْتَ الحبل في يد البعير فقد نشطته تنشطه، وأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته"[5].
وقال ابن عَبَّاسٍ رضي الله تعالی عنهما: "يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ تَنْشِطُ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ فَتَقْبِضُهَا كَمَا يُنْشَطُ الْعقَالُ مِنْ يَدِ الْبَعِيرِ: إِذَا حُلَّ عَنْهُ"[6].
وأيضًا روي عن ابن عباس رضي الله تعالی عنهما في تفسير هذه الآية: "هِيَ أَنْفُسُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْشَطُ لِلْخُرُوجِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ [يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ] إِلَّا وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، فَيَرَى فِيهَا مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَأَهْلِهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَيْهَا، فَنَفْسُهُ إِلَيْهِمْ نَشِطَةٌ أَنْ تَخْرُجَ فَتَأْتِيَهُمْ"[7].
وجمع أبو الليث السمرقندي[8] رحمه الله تعالی بين قولي ابن عباس رضي الله تعالی عنهما في تفسير قوله تعالی: "﴿ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴾، يعني: الملائكة الذين يقبضون أرواحَ المؤمنين بالتيسير؛ وذلك أنه ما مِن مؤمن يحضره الموت، إلا ويرى منزلته في الجنَّة، ويرى فيها أقوامًا من أهل معرفته، وهم يدعون إلى أنفسهم، فعند ذلك ينشط إلى الخروج، ويقال: النَّازِعات: الملائكة تنزع النفس إغراقًا، كما يغرق النازع في القوس، وَالنَّاشِطات: الملائكة تقبض نفسَ المؤمن، كما ينشط العقال"[9].
ثم تسبق الملائكة بأرواح المؤمنين إلى الجنَّة أو أنفس المؤمنين تسبق إلی الملائكة شوقًا إلی لقاء الله، قال الله تعالی: ﴿ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ﴾ [10].
قال الإمام مقاتل[11] رحمه الله تعالی في تفسير هذه الآية: "هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة"[12].
وقال ابن مسعود[13] رضي الله تعالی عنه: "هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقًا إلى لقاء الله ورحمته وكرامته"[14].
ولا شك أنَّ المؤمن يشاهد عند الموت ما أعدَّ الله له من النِّعم، ويفرح بذلك ويشوق إليها ويرغب في الوصول إليها ويحبُّ لقاءَ الله وفضله وتكرمته.
كما روي عن عبادة بن الصامت[15] رضي الله تعالی عنه عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
((مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ))، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قَالَ: ((لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ))[16].
ويخاطب المؤمن بما يرضاه، ويلقبه بالاطمئنان عند الاحتضار، ويبشِّره بالدُّخول في زُمرة عباده الخاصة، ثمَّ بدخول الجنَّة، كما قال الله تعالی:
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [17].
ونُقل عن سعيد بن جبير[18] رحمه الله تعالی في تفسير هذه الآية: قَالَ: قُرِئَت عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هَذَا حَسَنٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُ لَكَ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ))[19].
ونقل أيضًا عَنِ الحَسَنِ رحمه الله تعالی فِي قَوْلِهِ: "﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾؛ الآية، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ قبْضَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ اطْمَأَنَّتِ النَّفْسُ إِلَيْهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهَا، وَرَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ وَرَضِيَ اللَّهُ عنها أمر بقبضها فأدخلها الجنَّةَ وجعلها من عباده الصالحين"[20].
ونقل أيضًا عَنْ زَيْد بْنِ أَسْلَمَ[21] رحمه الله تعالی: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾ قَالَ: "بُشِّرَتْ بِالْجَنَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ وَيَوْمِ الْجَمْعِ"[22].
ونقل أيضًا عَنْ قَتَادَةَ رحمه الله تعالی في قوله: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾ قَالَ: "هَذَا الْمُؤْمِنُ اطْمَأَنَّ إِلَى مَا وَعَدَ اللَّهُ، ﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴾ قَالَ: ادْخُلِي فِي الصَّالِحِينَ ﴿ وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾" [23].
ونقل أيضًا عَن أَبِي صالح[24] رحمه الله تعالی في قوله: "﴿ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ﴾ قَالَ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ رُجُوعُهَا إِلَى رَبِّهَا خُرُوجُهَا مِنَ الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ لَهَا: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي"[25].
ونقل عن عبدالله بن عمرو بن العاص[26] رضي الله عنهما في تفسير هذه الآيات:
"إِذَا تُوُفِّيَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ أَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكَيْنِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِتُحْفَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، فيقال لها: اخرجي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اخْرُجِي إِلَى رَوح وريحان وربِّ عَنْكِ رَاضٍ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكٍ وَجَدَهُ أَحَدٌ فِي أَنْفِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ يَقُولُونَ: قَدْ جَاءَ مِنَ الْأَرْضِ رُوحٌ طَيِّبَةٌ وَنَسَمَةٌ طَيِّبَةٌ، فَلَا تَمُرُّ بِبَابٍ إِلَّا فُتِحَ لَهَا وَلَا بِمَلَكٍ إِلَّا صَلَّى عَلَيْهَا، حَتَّى يُؤْتَى بِهَا الرَّحْمَنُ فَتَسْجُدُ، ثُمَّ يُقَالُ لِمِيكَائِيلَ: اذْهَبْ بِهَذِهِ فَاجْعَلْهَا مَعَ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يُؤْمَرُ فَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا عَرْضُهُ وَسَبْعُونَ ذِرَاعًا طُولُهُ، وَيُنْبت له الرَّيحان، وإن كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَفَاهُ نُورُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُعِلَ لَهُ نُورُهُ مِثْلَ الشَّمْسِ فِي قَبْرِهِ، وَيَكُونُ مِثْلُهُ مِثْلَ الْعَرُوسِ يَنَامُ فَلَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ..." [27].
ويعرض مَقعده من الجنَّة عليه غُدوًّا وعَشيًّا - حتی يبعثه يوم القيامة - فيری ما أعدَّ الله له، كما روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ غُدْوَةً وَعَشِيًّا، إِمَّا النَّارُ وَإِمَّا الجَنَّةُ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ إِلَيْهِ))[28].
هذا فضل مِن الله على المؤمنين حيث تغشاهم رحمته في الحياة وعند الموت وبعد الممات.
اللهم! اجعلنا مِن الذين أنعمتَ عليهم في الحياة وعند الموت وبعد الممات.
إنك أرحم الراحمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
(( والناشطات نشطا ))
محمد طاهر عبدالظاهر
إن الإنسان ما خُلق لأن يعيش في هذا الكون إلی الأبد؛ بل يأتي عليه يوم يغادر هذا الكونَ ويترك ما كان عنده من الدنيا ويذهب معه ما كان من الآخرة؛ لأنَّ الموت أول مشهد من مشاهد الآخرة، وإنَّ سفَر الآخرة يبدأ من قبض الروح، فإذا كان الإنسان مؤمنًا، رأی علائمَ السعادة من البداية؛ حيث يسهِّل الله عليه نَشْطَ روحه ويكرمه ويشرفه، ويرسل مَوْكبًا من الملائكة لتشريفه وتكريمه؛ وذلك فضلٌ مِن الله يوتيه مِن عباده مَن يشاء، ولا تنال هذه التكرمة مَن كان في قلبه نِفاق أو كفر أو شِرك، هذه العطية خاصَّة للمؤمنين من عباده؛ حيث قال الله تعالی: ﴿ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴾ [1].
قال البغويُّ رحمه الله تعالی في تفسير هذه الآية: "الملائكة تنشط نفسَ المؤمن، أي: تحل حلًّا رفيقًا فتقبضها، كما ينشط العقال من يد البعير، أي: يحل برِفق"[2].
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالی عنهما في تفسير قوله تعالی: "﴿ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴾، يعني: الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير: إذا حل عنه"[3].
ونقل الإمام ابن جرير الطبري عن الفرَّاء[4] رحمهما الله تعالی: "الذي سمعت من العرب أن يقولوا: أنشطت، وكأنما أنشط من عقال، ورَبْطُها: نشطها، والرابط: النَّاشِط؛ قال: وإذا رَبَطْتَ الحبل في يد البعير فقد نشطته تنشطه، وأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته"[5].
وقال ابن عَبَّاسٍ رضي الله تعالی عنهما: "يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ تَنْشِطُ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ فَتَقْبِضُهَا كَمَا يُنْشَطُ الْعقَالُ مِنْ يَدِ الْبَعِيرِ: إِذَا حُلَّ عَنْهُ"[6].
وأيضًا روي عن ابن عباس رضي الله تعالی عنهما في تفسير هذه الآية: "هِيَ أَنْفُسُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْشَطُ لِلْخُرُوجِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ [يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ] إِلَّا وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، فَيَرَى فِيهَا مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَأَهْلِهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَيْهَا، فَنَفْسُهُ إِلَيْهِمْ نَشِطَةٌ أَنْ تَخْرُجَ فَتَأْتِيَهُمْ"[7].
وجمع أبو الليث السمرقندي[8] رحمه الله تعالی بين قولي ابن عباس رضي الله تعالی عنهما في تفسير قوله تعالی: "﴿ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴾، يعني: الملائكة الذين يقبضون أرواحَ المؤمنين بالتيسير؛ وذلك أنه ما مِن مؤمن يحضره الموت، إلا ويرى منزلته في الجنَّة، ويرى فيها أقوامًا من أهل معرفته، وهم يدعون إلى أنفسهم، فعند ذلك ينشط إلى الخروج، ويقال: النَّازِعات: الملائكة تنزع النفس إغراقًا، كما يغرق النازع في القوس، وَالنَّاشِطات: الملائكة تقبض نفسَ المؤمن، كما ينشط العقال"[9].
ثم تسبق الملائكة بأرواح المؤمنين إلى الجنَّة أو أنفس المؤمنين تسبق إلی الملائكة شوقًا إلی لقاء الله، قال الله تعالی: ﴿ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ﴾ [10].
قال الإمام مقاتل[11] رحمه الله تعالی في تفسير هذه الآية: "هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة"[12].
وقال ابن مسعود[13] رضي الله تعالی عنه: "هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقًا إلى لقاء الله ورحمته وكرامته"[14].
ولا شك أنَّ المؤمن يشاهد عند الموت ما أعدَّ الله له من النِّعم، ويفرح بذلك ويشوق إليها ويرغب في الوصول إليها ويحبُّ لقاءَ الله وفضله وتكرمته.
كما روي عن عبادة بن الصامت[15] رضي الله تعالی عنه عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
((مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ))، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قَالَ: ((لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ))[16].
ويخاطب المؤمن بما يرضاه، ويلقبه بالاطمئنان عند الاحتضار، ويبشِّره بالدُّخول في زُمرة عباده الخاصة، ثمَّ بدخول الجنَّة، كما قال الله تعالی:
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [17].
ونُقل عن سعيد بن جبير[18] رحمه الله تعالی في تفسير هذه الآية: قَالَ: قُرِئَت عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هَذَا حَسَنٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُ لَكَ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ))[19].
ونقل أيضًا عَنِ الحَسَنِ رحمه الله تعالی فِي قَوْلِهِ: "﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾؛ الآية، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ قبْضَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ اطْمَأَنَّتِ النَّفْسُ إِلَيْهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهَا، وَرَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ وَرَضِيَ اللَّهُ عنها أمر بقبضها فأدخلها الجنَّةَ وجعلها من عباده الصالحين"[20].
ونقل أيضًا عَنْ زَيْد بْنِ أَسْلَمَ[21] رحمه الله تعالی: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾ قَالَ: "بُشِّرَتْ بِالْجَنَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ وَيَوْمِ الْجَمْعِ"[22].
ونقل أيضًا عَنْ قَتَادَةَ رحمه الله تعالی في قوله: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾ قَالَ: "هَذَا الْمُؤْمِنُ اطْمَأَنَّ إِلَى مَا وَعَدَ اللَّهُ، ﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴾ قَالَ: ادْخُلِي فِي الصَّالِحِينَ ﴿ وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾" [23].
ونقل أيضًا عَن أَبِي صالح[24] رحمه الله تعالی في قوله: "﴿ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ﴾ قَالَ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ رُجُوعُهَا إِلَى رَبِّهَا خُرُوجُهَا مِنَ الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ لَهَا: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي"[25].
ونقل عن عبدالله بن عمرو بن العاص[26] رضي الله عنهما في تفسير هذه الآيات:
"إِذَا تُوُفِّيَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ أَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكَيْنِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِتُحْفَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، فيقال لها: اخرجي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اخْرُجِي إِلَى رَوح وريحان وربِّ عَنْكِ رَاضٍ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكٍ وَجَدَهُ أَحَدٌ فِي أَنْفِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ يَقُولُونَ: قَدْ جَاءَ مِنَ الْأَرْضِ رُوحٌ طَيِّبَةٌ وَنَسَمَةٌ طَيِّبَةٌ، فَلَا تَمُرُّ بِبَابٍ إِلَّا فُتِحَ لَهَا وَلَا بِمَلَكٍ إِلَّا صَلَّى عَلَيْهَا، حَتَّى يُؤْتَى بِهَا الرَّحْمَنُ فَتَسْجُدُ، ثُمَّ يُقَالُ لِمِيكَائِيلَ: اذْهَبْ بِهَذِهِ فَاجْعَلْهَا مَعَ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يُؤْمَرُ فَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا عَرْضُهُ وَسَبْعُونَ ذِرَاعًا طُولُهُ، وَيُنْبت له الرَّيحان، وإن كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَفَاهُ نُورُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُعِلَ لَهُ نُورُهُ مِثْلَ الشَّمْسِ فِي قَبْرِهِ، وَيَكُونُ مِثْلُهُ مِثْلَ الْعَرُوسِ يَنَامُ فَلَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ..." [27].
ويعرض مَقعده من الجنَّة عليه غُدوًّا وعَشيًّا - حتی يبعثه يوم القيامة - فيری ما أعدَّ الله له، كما روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ غُدْوَةً وَعَشِيًّا، إِمَّا النَّارُ وَإِمَّا الجَنَّةُ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ إِلَيْهِ))[28].
هذا فضل مِن الله على المؤمنين حيث تغشاهم رحمته في الحياة وعند الموت وبعد الممات.
اللهم! اجعلنا مِن الذين أنعمتَ عليهم في الحياة وعند الموت وبعد الممات.
إنك أرحم الراحمين.