القلب الأسود
تكلَّمتُ في مقال سابق عن علاماتِ القلب الأبيض، وعن الوسائل التي يتحصَّل بها الإنسان على هذا القلب، وفي هذا المقال أتكلَّم عن القلب الأسود، وعن علاماته والوسائل التي يتَّبِعها المسلم ليتفادى هذا السواد، وننطلق كما انطلقنا من قَبْل من حديث الفتن، يقول حذيفة - رضي الله عنه - سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشرِبها، نُكِت فيه نُكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نُكِت فيه نُكتة بيضاء؛ حتى تصير على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا، فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادًا، كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا يُنكِر مُنكرًا، إلا ما أُشرِب من هواه))؛ (رواه مسلم).
ومن أكبر علامات القلبِ الأسود الانتكاسة؛ حتى يصبح القلب لا يَعلَق به خير ولا حكمة ولا نور، فيُصبِح مسودًّا مُظلِمًا، وقد مثَّله -صلى الله عليه وسلم- بالكوز المجخي (والمجخي: المائل عن الاستقامة والاعتدال)، فشبَّه القلبَ الذي لا يعي خيرًا بالكوز المائل الذي لا يَثبُت فيه شيء"؛ (النهاية في غريب الحديث والأثر؛ ابن الأثير 1: 696).
وسبب انتكاسةِ القلب وسواده هو تَراكُم الفتن والمعاصي عليه، واستهانة الإنسان بهذه الفتن، فالبداية نكتة سوداء، ثم نكتة سوداء؛ حتى يصير القلب مسودًّا، وهذا يُبيِّن خطرَ عدم تعهُّد القلب وترْك حمايته من الفتن التي تُعرَض عليه من وقت إلى آخر، والتصدي لهذه الفتن يكون بتقوية القلب بالآتي:
1- قوة الإرادة وقوة العلم، يقول ابن القيم: "لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحبّ، كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمالِ قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادةِ والمحبة في طلبِ الحق ومحبّته وإيثاره على الباطل، فمن لم يَعرِف الحقَّ فهو ضالٌّ، ومَن عرَفه وآثر غيره عليه، فهو مغضوب عليه، ومن عرَفه واتَّبَعه، فهو مُنعم عليه"؛ (إغاثة اللهفان 1: 24).
وقوة الإرادة عاملٌ مُهم في التغيير، وهذا أصل قرآني له أكثر من دليل، ومن هذه الأدلة قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وقوله - سبحانه -: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾[الكهف: 110]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ﴾ [التوبة: 46]، وقاتِل المائة نفْس لما أراد أن يُغيِّر نفسه ووضْعه وحاله، ما جلس ينتظر مَن يُغيِّره؛ بل تحرَّك بإرادة قويَّة، يبحث عن طريق التغيير طريق التوبة، وكان أكبر معين لهذا التغيير هو البيئة الإيمانيَّة التي دُلَّ عليها من قِبَل العالِم؛ حيث قال له: ((اخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى القرية الصالحة، قرية كذا وكذا، فاعبد ربَّك فيها))؛ (مسند الإمام أحمد حديث رقم: 11453)، فإرادةُ التغيير مع وجود البيئة الإيمانية عاملان مهمان في تغيير القلوب والنفوس.
وأما قوة العلم، فهي مقدَّمة على كلِّ الأعمال؛ لذا فهي مقدمة على العمل، قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19]، فقد أمر - سبحانه - بالعمل بعد العلم.
2- العمل الصالح، يقول ابن القيم: "فِعْل المأمورات حياةُ القلب وغذاؤه، وزينتُه وسروره وقُرَّة عينه، ولذَّته ونعيمه، وترْك المنهيات بدون ذلك لا يُحصِّل له شيئًا من ذلك، فإنه لو ترك جميع المنهيات، ولم يأتِ بالإيمان والأعمال المأمور بها، لم ينفعه ذلك الترك شيئًا"؛ (1: 121).
وفِعْل المأمورات من أشد عوامل الثبات وتقوية الإيمان، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 66 - 68]، يقول الشيخ أبو بكر الجزائري في تفسير هذه الآية: "﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ ﴾؛ أي: ما يُذكَّرون به ترغيبًا وترهيبًا من أوامر الله تعالى لهم بالطاعة والتسليم، لكان ذلك خيرًا في الحال والمآل، ﴿ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾: للإِيمان في قلوبهم، وللطاعة على جوارحهم؛ لأن الإيمان يَزيد بالطاعة ويَنقُص بالمعصية، والحسنة تُنتِج حسنة، والسيئة تتولَّد عنها سيئةٌ، ويقول تعالى: ﴿ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ﴾: يُريد لو أنهم استجابوا لنا وفعلوا ما أمرناهم به من الطاعات، وتركوا ما نهيناهم عنه من المعاصي، لأعطيناهم من لدنَّا أجرًا عظيمًا، يوم يلقوننا، ﴿ وَلَهَدَيْنَاهُمْ ﴾: في الدنيا ﴿ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾: ألا وهو الإسلام الذي هو طريق الكمال والإسعاد في الحياتين، وهدايتهم إليه هي توفيقهم للسير فيه وعدم الخروج عنه"؛ (1: 278).
3- ومن وسائل التصدي لانتكاسة القلب التمسكُ بمثبِّتات القلوب، والتي منها:
أ- القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32].
ب- كثرة ذِكْر الله؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].
ج- الدعاء؛ فالدعاء سببٌ للثبات والنصر على الأعداء: قال تعالى عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250]، فماذا كانت النتيجة؟ ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ﴾ [البقرة: 251].