هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

دخول

description التوبة الصادقة والتوبة الكاذبة Empty التوبة الصادقة والتوبة الكاذبة

more_horiz
بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله الذي نزَّل الفُرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، الذي له ملك السماوات والأرض، ولم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريكٌ في الملك، وخلق كلَّ شيء فقدره تقديرًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسلَه ربُّه شاهدًا ومبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد:

فإن التوبة الصادقة هي سبيل المؤمنين إلى مرضاة الله تعالى،فأقول وبالله تعالى التوفيق:

معنى التوبة:

التوبة: ترك المعاصي ابتغاء مرضاة الله تعالى.



منزلة التوبة:

التوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كُلُّه داخل في مُسمَّى التوبة، وبهذا استحقَّ التائبُ أن يكون حبيبَ الله، فإن الله يحبُّ التوَّابين ويحبُّ المتطهرين؛ وإنما يحبُّ الله مَنْ فعل ما أمَر به، وترك ما نَهى عنه، فإذًا التوبة هي الرجوع ممَّا يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبُّه ظاهرًا وباطنًا، ويدخُل في مُسمَّاها الإسلامُ والإيمانُ والإحسانُ، وتتناول جميع المقامات؛ ولهذا كانت غايةَ كلِّ مؤمن وبداية الأمر وخاتمته كما تقدَّم، وهي الغاية التي وُجِد لأجلها الخَلْق والأمر، والتوحيدُ جزءٌ منها؛ بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها، وأكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها، فضلًا عن القيام بها علمًا وعملًا وحالًا، ولم يجعل الله تعالى محبَّته للتوَّابين إلا وهم خواصُّ الخَلْق لديه، ولولا أن التوبة اسمٌ جامِعٌ لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان لم يكن الربُّ تعالى يفرَح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم، فجميع ما يتكلَّم فيه الناس من المقامات والأحوال هو تفاصيل التوبة وآثارها؛ (مدارج السالكين لابن القيم، جـ 1، صـ 333).



حكم التوبة من المعاصي:

إن المبادرة إلى التوبة من الذنب فَرْضٌ على الفور، ولا يجوز تأخيرُها، فمتى أخَّرها عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبةٌ أخرى، وهي توبتُه من تأخير التوبة، وقلَّ أن تخطُر هذه ببال التائب؛ بل عنده: أنه إذا تاب من الذنب لم يبْقَ عليه شيءٌ آخر، وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة، ولا يُنْجي من هذا إلَّا توبةٌ عامَّةٌ ممَّا يعلَم من ذنوبه وممَّا لا يعلَم، فإنَّ ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثرُ ممَّا يعلَمُه، ولا ينفعُه في عدم المؤاخذة بها جهلُه إذا كان متمكِّنًا من العلم، فإنَّه عاصٍ بتَرْك العلم والعمل؛ فالمعصية في حقِّه أشدُّ؛ (مدارج السالكين لابن القيم، جـ 1، صـ 297).



دعوة ربَّانية للتوبة الصادقة:

قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].



قال ابن كثير رحمه الله: هذه الآية الكريمة دعوةٌ لجميع العُصاة من الكَفَرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجَع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثُرَتْ وكانت مثل زَبَد البحر؛ (تفسير ابن كثير جـ 12، صـ 139:138).



قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 53]: قد دعا الله إلى مغفرته مَنْ زَعَم أن المسيح هو الله، ومَنْ زَعَم أن المسيح هو ابن الله، ومَنْ زَعَم أن عزيرًا ابنُ الله، ومَنْ زَعَم أن الله فقير، ومَنْ زَعَم أن يَدَ الله مغلولةٌ، ومَنْ زَعَم أن اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ؛ يقول الله تعالى لهؤلاء: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 74]، ثم دعا إلى توبته مَنْ هو أعظم قولًا مِنْ هؤلاء مَنْ قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، وقال: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38].



قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "مَنْ آيسَ عِبادَ الله من التوبة بعد هذا، فقد جحَد كتابَ الله، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوبَ الله عليه"؛ (تفسير ابن كثير جـ 12، صـ 141).



روى البخاري عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن ناسًا من أهل الشِّرْك كانوا قد قَتَلُوا وأكثرُوا وزَنَوا وأكثروا فأتَوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحَسَنٌ لو تُخبِرنا أنَّ لما عملنا كفَّارةً، فنزل: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ﴾ [الفرقان: 68]، ونزلت: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 53] (البخاري، حديث 4810).



التوبة من صفات الأنبياء وصالحي المؤمنين:

1- قال الله تعالى: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 35 -37].



2- قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 127 - 129].



3- قال جلَّ شأنُه: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 143- 144].



4- قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة:111 -112].



الأنبياء يحثون أقوامهم على التوبة:

قال تعالى: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ * يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 50 - 52]، وقال سبحانه: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61].



صلاة التوبة:

روى أبو داود عن أسماء بن الحكم الفزاري قال: سمِعْتُ عليًّا رضي الله عنه، يقول: كنتُ رجلًا إذا سمِعْتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني اللهُ منه بما شاء أن ينفعَني، وإذا حدَّثني أحدٌ من أصحابه استحلفتُه، فإذا حلَفَ لي صَدَّقْتُه، قال: وحدَّثني أبو بكر - وصدق أبو بكر رضي الله عنه - أنه قال سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ما من عبدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فيُحْسِن الطهُور ثم يقوم فيُصلِّي ركعتين، ثم يستغفر الله إلَّا غفَر الله له، ثم قرأ هذه الآية: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون ﴾ [آل عمران: 135]؛ (حديث صحيح)؛ (صحيح سنن أبي داود للألباني، حديث: 1346).



أقسام الناس في التوبة:

ينقسم الناس في التوبة إلى أربع طبقات:

الطبقة الأولى:

تائب يستقيم على التوبة إلى آخر عمره، ويتدارك ما فرَط من أمره، ولا يُحدِّث نفسَه بالعودة إلى ذنوبه، إلا الزَّلَّات التي لا ينفَكُّ عنها البَشَر في العادات، فهذه هي الاستقامة في التوبة، وصاحبها هو السابق بالخيرات، وهذه هي التوبة النَّصُوح، وتُسمَّى هذه النفس بالنفس المطمئنة التي يُقال لها عند موتها: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30]؛ (مختصر منهاج القاصدين للمقدسي صـ335).



الطبقة الثانية:

تائب قد سَلَكَ طريق الاستقامة في أُمَّهات الطاعات وكبائر الفواحش، إلَّا أنه لا ينفَكُّ عن ذنوب تعتريه، لا عن عَمْدٍ، ولكنَّه يُبْتلَى بها في مجاري أحواله من غير أن يُقدِّم عَزْمًا على الإقدام عليها، وكلما أتى شيئًا منها لامَ نفسَه، وندِم وعزَم على الاحتراز من أسبابها، فهذه هي النفس اللَّوَّامة؛ لأنها تلُوم صاحبَها على ما يستهدف له من الأحوال الذميمة، فهذه رتبة عالية أيضًا، وإن كانت نازلةً عن الطبقة الأولى، وهي أغلَبُ أحوال التائبين؛ لأن الشَّرَّ معجون بطينة الآدمي، فقلَّما ينفَكُّ عنه؛ وإنما غاية سَعْيه أن يغلِبَ خيرُه شرَّه، حتى يُثقِل ميزانَه، فترجح حسناتُه، فأمَّا إنْ تخلو كِفَّة السيئات فبعيدٌ، وهؤلاء لهم حُسْن الوَعْد من الله تعالى إذ قال: ﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32]؛ (مختصر منهاج القاصدين للمقدسي، صـ335).



الطبقة الثالثة:

أن يتوب العبد ويستمر على الاستقامة مدة من الزمن، ثم تغلِبُه شهوتُه في بعض الذنوب، فيقدم عليها، إلَّا أنه مع ذلك مواظبٌ على الطاعات، وترك جملة من الذنوب مع القدرة عليها والشهوة لها؛ وإنما قهرته شهوتُه، وهو يودُّ لو أقدره الله على قَمْعِها، وكفاه شرَّها ولكنه يُعِدُّ نفسَه بالتوبة بعد ذلك من الذنوب، وهذه هي النفس المسؤولة، وصاحبها من الذين قال الله فيهم: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102]، وأمر هذا الصِّنْف من التوبة مرجوُّ القبول لقوله تعالى: ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ ﴾ [التوبة: 102]، ولكنه يقع في خطر من حيث تأخيره التوبة مع التسويف، فربما يموت قبل التوبة، فإن الأعمال بالخواتيم، فعلى هذا يكون الخوف من سُوء الخاتمة؛ (مختصر منهاج القاصدين للمقدسي، صـ335: صـ336).



الطبقة الرابعة:

أن يتوب ويجري مدة على الاستقامة، ثم يعود إلى الذنوب مُنهمِكًا من غير أن يُحدِّث نفسَه بالتوبة، ومن غير أن يَتَأسَّفَ على فعله، فهذا من المصرِّين، وهذه النفس هي الأمَّارة بالسُّوء، ويخاف على هذا سُوء الخاتمة، فإن مات هذا على التوحيد، فإنه يُرجَى له الخلاصُ من النار، ولو بعد حين، ولا يستحيل أن يشملَه عمومُ العَفْوِ بسبب خفيٍّ لا يطَّلِع عليه إلَّا الله تعالى؛ (مختصر منهاج القاصدين للمقدسي، صـ336).



ثمرات التوبة الصادقة:

ذكر أهل العلم فوائد للتوبة الصادقة يمكن أن نُوجِزَها فيما يلي:

1- صاحب التوبة يَنْعَم برضوان الله عليه في الدنيا والآخرة وكفى بذلك فائدةً.



2- إن العبد المذنِب الذي تاب إلى الله، قد جرَّب طريق المعاصي، وعرَفَ مداخِلَ الشيطان على الإنسان؛ فيكون أقْدَر على اجتناب المعاصي من غيره من الناس.



3- إن العبد العاصي التائب يكون أرْفَقَ بالعُصاة والمذنبين من غيره من الناس، فتراه لا يعجَب بنفسِه، ولا يحتقِر غيرَه من أصحاب المعاصي.



4- إن للتوبة الصادقة منزلةً رفيعةً عند الله تعالى ليست لغيرها من الطاعات؛ ولهذا يفرَح الله بتوبة عبده إذا تاب ورجع إليه.



5- إن العبد العاصي التائب قد غلب الخوفُ عليه، فتراه يأتي بابَ الله تعالى ذليلًا ومُنكسِرًا، يرجو رحمتَه ويخشى عذابَه، وهذه المنزلة من أفضل الطاعات.



6- إن الذنب قد يكون أنْفَعَ للعبد إذا اقترنَتْ به التوبة من كثيرٍ من الطاعات، وهذا معنى قول بعض السلف: قد يعمل العبد الذنب فيدخُل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخُل بها النار، قالوا: وكيف ذلك، قال: يعمل الذنب فلا يزال نُصْبَ عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى ذَكَر ذنْبَه فيحدُث له انكسارٌ وتوبةٌ واستغفارٌ ونَدَمٌ، فيكون ذلك سبب نجاته، ويعمل الحسنة فلا تزال نُصْبَ عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى، كلما ذكرها أورثَتْه عُجْبًا وكِبْرًا ومِنَّةً، فتكون سَبَبَ هلاكه.



7- قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].



هذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمانٌ وعملٌ صالحٌ، وهو حقيقة التوبة؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما رأيتُ النبي فرِحَ بشيءٍ قَطُّ فرحه بهذه الآية لما أنزلت، وفرحه بنزول: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ [الفتح: 1، 2]؛ (مدارك السالكين لابن القيم، جـ1، صـ323).



حقيقة التوبة الصادقة:

قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8]، قال ابن كثير؛ أي: توبة صادقة جازمة، تمحو ما قبلها من السيئات، وتلمُّ شعث التائب وتجمعُه، وتكفُّه عمَّا كان يتعاطاه من الدناءات؛ (تفسير ابن كثير جـ 14، صـ 60).



شروط التوبة الصادقة:

قال الإمام النووي رحمه الله، قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنْبٍ، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلَّق بحقِّ آدميٍّ؛ فلها ثلاثة شروط:

أحدها: أن يُقلِع عن المعصية.

والثاني: أن يندم على فِعْلِها.

والثالث: أن يعزم ألَّا يعود إليها أبدًا.

فإن فَقَدَ أحدَ الثلاثة لم تصحُّ توبتُه.



وإن كانت المعصية تتعلَّق بآدمي، فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبْرَأ من حَقِّ صاحبِها؛ فإن كانت مالًا أو نحوه ردَّه إليه، وإن كانت حدَّ قَذْفٍ ونحوه مكَّنَه منه أو طَلَبَ عَفْوَه، وإن كانت غِيبةً استحلَّه منها، ويجب أن يتوب من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضِها صحَّتْ توبتُه عند أهل الحق من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي؛ (رياض الصالحين للنووي، صـ 25:24).



وقت قبول التوبة:

قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 17].



قال عبدالله بن عباس: قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)؛ أي: قبل المرض والموت.

وقال الضحاك: كل ما كان قبل الموت فهو قريب؛ (تفسير القرطبي، جـ5، صـ97).



روى الترمذي عن عبدالله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله يقبَل توبةَ العبد ما لم يُغَرْغِرْ))؛ (حديث حسن) (صحيح الترمذي للألباني، حديث 2802).



علامات قبول التوبة الصادقة:

1- أن يكون المسلم بعد التوبة خيرًا ممَّا كان قبلها.



2- لا يزال الخوف مصاحبًا له، لا يأمَن مَكْر الله طرفة عين، فخوفُه مستمرٌّ إلى أن يسمَع قول الملائكة لقبض رُوحِه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]، فهناك يزول الخوف.



3- انخلاع قلبه وتقطُّعه ندمًا وخوفًا، وهذا على قدر عِظَم الجناية وصِغَرها، ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يُوجِبُ انصداعَ القلب وانخلاعه، وهذا هو تقطُّعه، وهذا حقيقة التوبة؛ لأنه يتقطَّع قلبُه حسرةً على ما فرَّط منه، وخوفًا من سوء عاقبته، فمن لم يتقطَّع قلبُه في الدنيا على ما فرَّط حسرةً وخوفًا تقطَّع في الآخرة إذا حُقَّت الحقائق، وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين، فلا بُدَّ من تقطُّع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة.



4- الإكثار من الاستغفار والدعاء؛ (مدارج السالكين لابن القيم، جـ 1، صـ 208:206).



توبة الأنبياء:

1- توبة آدم صلى الله عليه وسلم:

قال الله تعالى: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 35 - 37].



2- توبة نوح صلى الله عليه وسلم:

قال الله تعالى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [هود: 45 - 48].



3- توبة إبراهيم صلى الله عليه وسلم:

قال الله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 39 -41].



وقال سبحانه عن إبراهيم: ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [الشعراء: 78 -83].



4- توبة يونسصلى الله عليه وسلم:

قال سبحانه: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 87، 88].



5- توبة داود صلى الله عليه وسلم:

قال سبحانه: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 21 - 26].



صور من التوبة الصادقة المقبولة:

1- روى مسلم عن أبي سعيد الخُدْري أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قَتَلَ تسعةً وتسعين نَفْسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تِسْعةً وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائةَ نفسٍ، فهل له من توبة؟ فقال: نَعَم، ومَنْ يحول بينه وبين التوبة؟! انطلِقْ إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضِكَ؛ فإنها أرضُ سُوءٍ، فانطلَقَ حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصَمَتْ فيه ملائكةُ الرَّحْمة وملائكةُ العذاب، فقالت ملائكةُ الرَّحْمة: جاء تائبًا مُقْبِلًا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكةُ العذاب: إنه لم يعمَلْ خيرًا قَطُّ، فأتاهم مَلَكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسُوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسُوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضتْه ملائكةُ الرحمة))؛ (مسلم حديث: 2766).



2- روى مسلم عن بريدة، قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، طهِّرني، فقال: ((ويحك! ارجع فاستغفر الله، وتُبْ إليه))، قال: فرجع غير بعيد ثم جاء، فقال: يا رسول الله، طهِّرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويحَكَ! ارجع فاستغفر الله، وتُبْ إليه))، قال فرجع غير بعيد ثم جاء، فقال: يا رسول الله، طهِّرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله: ((فيم أطهِّرك؟))، فقال: من الزنى، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبِهِ جُنون))، فأُخبِر أنه ليس بمجنون، فقال: ((أَشَرِبَ خَمْرًا))، فقام رجل فاسْتَنْكَهَهُ - شمَّ رائحته - فلم يجد منه ريحَ خَمْرٍ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أزَنِيْتَ))، فقال: نَعَم، فأمر به فرُجِمَ، فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هَلَك، لقد أحاطت به خطيئتُه، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضَعَ يده في يده، ثم قال اقتُلني بالحجارة، قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثةً، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس، فسلَّم ثم جلس، فقال: ((استغفروا لماعز بن مالك))، قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد تاب توبةً لو قُسِمَتْ بين أُمَّةٍ لوَسِعَتْهم))؛ (مسلم حديث: 1695).



3- روى مسلم عن عمران بن حصين أن امرأةً من جهينة أتَتْ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبْتَ حدًّا، فأقِمْه عليَّ، فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليَّها، فقال: ((أحسِنْ إليها، فإذا وضَعَتْ فأْتِني بها)) ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم، فشُكَّتْ عليها ثيابُها، ثم أمر بها فرُجِمَتْ، ثمَّ صلَّى عليها، فقال له عمر: تُصلِّي عليها يا نبي الله، وقد زَنَتْ؟! فقال: ((لقد تابَتْ توبةً لو قُسِمَتْ بين سبعين من أهل المدينة لوَسِعَتْهم، وهل وجدت توبةً أفضل من أن جادَتْ بنفسها لله تعالى؟!))؛ (مسلم حديث: 1696).



التوبة المردودة على أصحابها:

قال الله تعالى: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 18].



قال ابن كثير رحمه الله: متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وحشرجت الرُّوح في الحَلْق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدةً في الغلاصم، فلا توبة متقبَّلة حينئذٍ، ولات حين مناص؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ﴾، وهذا كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ﴾ [غافر: 84، 85]، كما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعةً من مغربها كما قال تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ [الأنعام: 158]؛ (تفسير ابن كثير جـ1، صـ440).



وقال سبحانه: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ [غافر: 84، 85].

قال ابن كثير رحمه الله: هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل؛ (تفسير ابن كثير جـ4، صـ91).



توبة فرعون كاذبة:

ضرب الله تعالى لنا مثلًا للتوبة المردودة على صاحبها، وذلك في قصة هلاك فرعون؛ قال تعالى: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 90 - 92].



أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

description التوبة الصادقة والتوبة الكاذبة Emptyرد: التوبة الصادقة والتوبة الكاذبة

more_horiz
جزاكم الله خيرا
موضوع رائع

description التوبة الصادقة والتوبة الكاذبة Emptyرد: التوبة الصادقة والتوبة الكاذبة

more_horiz
موضوع مميز 
بوركت على الطرح
gg444g

description التوبة الصادقة والتوبة الكاذبة Emptyرد: التوبة الصادقة والتوبة الكاذبة

more_horiz
جُزيتم خيرًا على ذلك الموضوع القيم ،،

description التوبة الصادقة والتوبة الكاذبة Emptyرد: التوبة الصادقة والتوبة الكاذبة

more_horiz
أشكرك على مشاركتك بقسم الاسلامي
شكرا لك



privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى

جميع الحقوق محفوظة لدليل الاشهار العربي