الحمد لله القائل: { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساءَ سبيلا } .
والصلاة
والسلام على نبينا محمد القائل: (( إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان
كالظلة على رأسه... )) ، والصلاة والسلام على آله وصحبه أجمعين، وعلى من
سار بهداهم إلى يوم الدين . وبعد :
فإن القاصي والداني من المسلمين
يعلم حرمة الزنا ، ولكننا نعيش في مجتمع انتشرت فيه جريمة الزنا وأصبحت من
الشيء المألوف، حتى دخل هذا الأُلف إلى بعض بيوت المسلمين، حتّى أصبحنا
نجد من يتباهى عندما يدخل ابنه إلى البيت مصطحباً صديقته معه والعياذ
بالله.
لهذا، ولكثرة ما يسأل الشباب الذي يريد التوبة من هذه
الفاحشة، وما إذا كان يشترط في التوبة إقامة الحد، وما هو الواجب على
التائب أن يفعله .
لهذا أخي القارئ نساهم في هذا المقال بتعريف سريع بحد الزنا، وشروط التوبة منه.
تعريف الحد :
لغةً : هو المنع والحاجز بين الشيئين، الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر.
شرعاً : يطلق على ثلاثة أنواع :
الأول: نفس المحارم التي نهى الله تعالى عنها.
الثاني: حدود الله تعالى التي نهى عن تعدّيها.
الثالث: الحدود المقدرة الرادعة عن المحارم، أي العقوبات .
لذا يجب إقامة الحدود لداعي التأديب والتطهير، لا لغرض التشفّي والانتقام ، فالحدود ضمانٌ للمجتمع في دمائهم وأعراضهم وأموالهم.
تعريف الزنا:
الزنا
هو ما يحصل بين الرجل والمرأة من غير طريق شرعي، والطريق الشرعيّ هو
الزواج المعروف، الذي لا يصح عقده إلاّ بموافقة وليّ المرأة وبحضور شاهدين
مسلمين عدلين.
فالزنا إذاً هو عين الزواج المدني الذي قرر مؤخراً
في لبنان، فالزواج المدني إذاً في المفهوم الشرعي هو عين الزنا مهما تبدلت
الأسماء.
بماذا يتحقق الزنا؟ :
يتحقق
الزنا الموجب للحد بتغييب الحَشَفة - رأس الذكر - في فرجٍ محرَّم، من غير
شبهة نكاح - كمن دخل فراشه وجامع امرأة غير امرأته ظاناً أنها امرأته فلا
حد عليه - ولو لم يُنزِل .
واختلف في من وضعه في فرج غير مشتهىً
كفروج الحيوانات، والصواب أنّه يُقتل الفاعل ويُقتل الحيوان لثبوت ذلك عن
النبيّ صلى الله عليه وسلم .
بماذا يثبت الزنا؟ :
أدلة ثبوت الزنا ثلاثة :
الدليل الأول: الإقرار وهو أن يشهد المرء على نفسه أنه زنا ويصرّح بالوطء، وأن لا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد.
واختلف
في كيفية الإقرار وفي عدده، هل يجزء مرة واحدة، أو لا بد من أربع كما فعل
النبي صلى الله عليه وسلم مع ماعز ، فذهب الإمام مالك، والشافعي، وداود
الظاهري، وأبو ثور، والطبري، إلى أنه يكفي في لزوم الحد إقراره مرة واحدة،
لقوله صلى الله عليه وسلم : (( أغدُ يا أُنيس على امراة هذا - واحد ممن
زُني بامرأته - فإن اعترفت فارجمها )) [متفق عليه] . ولم يذكر كم عدد
الإقرار.
وذهب الأحناف: إلى أنه لا بد من أقارير أربعة مرة بعد مرة في مجالس متفرقة.
وذهب الإمام أحمد، وإسحاق، إلى ما ذهب إليه الأحناف إلاّ أنهم لا يشترطون المجالس المتفرقة.
ولعل
الصواب فيما ذهب إليه الإمام أحمد وإسحاق لفعله صلى الله عليه وسلم مع
ماعز وأمره برجمه، وكان قد أقر على نفسه أربعاً في مجلس واحد.
الثاني:
أن يشهد عليه أربعة رجال عدول، فيصفون أنهم عاينوا إيلاج ذكر الرجل الزاني
بفرج المرأة المزني بها كالميل في المكحلة، وكالرشاء -الحبل- في البئر ،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ادرؤوا الحدود بالشبهات )) ، وكان
غرض الشارع من هذا التشديد سدّ السبيل على الذين يتهمون الأبرياء ظلماً،
وكذلك سدّ السبيل على الذين يريدون إشاعة الفاحشة في المجتمع المسلم.
الثالث:
ظهور الحبل على المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، وهو مذهب الخلفاء
الراشدين ، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم برجم الحامل بلا زوج
ولا سيد، وهو مذهب الإمام مالك، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد، وبه قال
شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، لكن مع درأ الحدود بالشبهات.
التدرج في عقوبة الزنا :
لقد
كانت عقوبة الزنا في صدر الإسلام التوبيخ بالكلام للرجال، وحبس النساء في
البيوت دون إخراج حتى يتوفاهن الله تعالى، أو يجعل لهن سبيلا ، قال سبحانه
وتعالى: { واللاتي يأتين الفاحشةَ من نسائكم فاستشهدوا عليهنَّ أربعةً منكم
فإن شهدوا فأمسكوهنَّ في البيوت حتى يتوفاهن الموتُ أو يجعل الله لهن
سبيلا .
واللذَّانِ يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهُما إن الله كان تواباً رحيما} .
ثم
نُسِخَ هذا الحكم بقوله تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما
مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين الله إن كنتم تُؤمنون بالله واليوم
الأخر وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} .
ولعل العقوبة التي
كانت في صدر الإسلام كانت من قبيل التعزير لا من قبيل الحد بدليل التوقيت
الذي أشار إليه قوله تعالى: { أو يجعل الله لهن سبيلا } فاستقر الأمر وجعل
الله لهن السبيل .
ثبوت الجلد بالكتاب والرجم بالسنة المتواترة :
قال الله تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة} ، فهذا الجلد قد ثبت بالقرآن.
وأما
الرجم للمحصن، والنفيُ لغير المحصن ، فقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه
وسلم بالتواتر، وهو إجماع الصحابة والتابعين لم يخالف فيه أحدٌ - إلاّ فئة
شاذة وهم الخوارج - لورود عدة أحاديث تثبت ذلك، منها قوله عليه الصلاة
والسلام : (( خُذُوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهُنَ سبيلا، البكرُ
بالبكرِ جلدُ مِائةٍ - كما نصت آية سورة النور، وزاد عليها - ونَفيُ سنةٍ،
والثيبُ بالثيبِ جلدُ مِائةٍ والرجم )) [رواه الإمام مسلم وأبو داود
والترمذي] .
وقد إختلف العلماء في الجمع بين الرجم والجلد، والصحيح
من هذه الأقوال ما ذهب إليه الجمهور إلى أن حده الرجم فقط، وهو المروي عن
الخليفتين الراشدين عمر وعثمان رضي الله عنهما، وبه قال ابن مسعود.
هل يجمع بين الجلد والنفي؟ :
يرى
جمهور العلماء إلى أن حد البكر جلد مائة وتغريب عام، للحديث السابق، ويرى
الإمام أبو حنيفة أن حدّه الجلد، أما النفي فهو مفوّض إلى الإمام إن شاء
غرّب وإن شاء ترك.
هل يشمل التغريب المرأة؟ :
ومع
أن مذهب الجمهور هو الصحيح لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو
مذهب الخلفاء الراشدين، ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان التغريب خاصّاً
بالرجال، أم أنّه يشمل النساءَ أيضاً .
فذهب الإمام مالك والأوزاعي
إلى أن التغريب للرجل دون المرأة لأنها عورة، وذهب الشافعي وأحمد إلى أن
التغريب يشمل المرأة، وتغرّب مع محرم لها وأجرته عليها، وهذا هو الراجح
لفعله ذلك، والله أعلم.
حكم اللواط والسحاق :
أما
اللواط - وهو إتيان الرجل الرجل - فمع إجماع العلماء على حرمة هذه الجريمة
وعلى وجوب أخذ مرتكبيها بالشدّة، إلاّ أنهم اختلفوا في تقدير العقوبة
المقررة لها إلى مذاهب ثلاثة ، إلاّ أن الرأي الصحيح والقوي بأدلته، وهو
قول الجمهور: قتل الفاعل والمفعول به لقوله صلى الله عليه وسلم : (( من
وجدتُموه يعملُ عملَ قومِ لُوطٍ فاقتُلوا الفاعلَ والمفعولَ به )) [رواه
أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني] ، وبه عمل الخلفاء الراشدون وأجمع
عليه الصحابة الكرام جميعاً.
وإنما اختلفوا في صفة قتله ، فقال
الإمام علي : (أرى أن يُحرّق بالنار ) ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (
يرمى من شاهق -أي من مكان مرتفع- ثم يُتبع بالحجارة ) ، وحكى البغوي عن
الشعبي، وإسحاق، ومالك، وأحمد، أنه يُرجم .
وأما السحاق - وهو
إتيان المرأة المرأة - فقد اتفق العلماء على أنه محرم ولكن ليس فيه إلاّ
التعزير ، والتعزير يكون بالضرب أو السجن أو النفي وغير ذلك دون الحد كما
لو باشر الرجل المرأة دون إيلاج في الفرج.
الزواج من الزانية أو العكس :
أما
زواج الزاني من الزانية، أو الزانية من الزاني، يصح فيما بينهما، لقوله
تعالى: { الزاني لا ينكح إلاّ زانية...} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ((
عندما سئل عن رجل زنا بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال: أوله سفاح، وآخره
نكاح، والحرام لا يحرّم الحلال )) [أخرجه الطبراني والدارقطني] .
وأما
زواج الرجل العفيف من الزانية وهي على حالها لم تتب، أو العكس، فقد اختلف
العلماء في حكمه، فذهب بعض السلف إلى حرمته، منهم عليّ، والبراء، وعائشة،
وابن مسعود، وذهب إلى جواز ذلك مع أفضلية الزواج من العفيفة الطاهرة
الجمهور، ونُقِل هذا عن أبي بكر، وعمر وابن عباس ، وسبب اختلافهم هو في
قوله تعالى { وحرم ذلك على المؤمنين} ، هل المقصود بالتحريم: الزنا أم
النكاح؟ .
هل يُفسخ عقد الزواج بالزنا؟ :
ذهب
الجمهور إلى أن العقد لا يُفسخ بالزنا، لأن حالة الابتداء تفارق حالة
البقاء، غير أن البقاء مع الشخص الآخر بعد فعل هذه الجريمة من الدياثة التي
تخرم مروءة المسلم.
وروي عن الحسن، وجابر بن عبد الله : أن المرأة
المتزوجة إذا زنت يفرق بينهما، واستحب الإمام أحمد مفارقتها وقال: ( لا
أرى أن يُمسك مثل هذه، فتلك لا تؤمن أن تفسد فراشه، وتلحق به ولداً ليس منه
).
الزواج من الزانية أو الزاني التائب :
يجوز
زواج الرجل العفيف من الزانية التائبة، وكذا العكس، لما روي أن ابن عباس
رضي الله عنهما سأله رجل ، فقال: " إني كنت ألِمُّ بامرأة، آتي منها ما حرم
الله عليَّ، فرزق الله عز وجل من ذلك توبة، فأردت أن أتزوجها " ... فقال: (
انكحها فما كان من إثمٍ فعليَّ ) [رواه ابن أبي حاتم].
وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن رجل فجر بامرأة، أيتزوجها؟ قال: ( إن تابا وأصلحا ).
وقد
خُطِبَت امرأة من عمها وكانت قد زنت ثم تابت، فكره عمُّها أن يدلّسها - أي
أن يخفي أمرها - فأتى عمر بن الخطاب فذكر له ذلك فقال عمر : ( لو أفشيت
عليها لعاقبتك ، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه ) ، وفي رواية قال: (
أتخبرُ بشأنها؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه، والله لئن أخبرت بشأنها
أحداً من الناس لأجعلنك نكالاً لأهل الأمصار، بل أنكحها بنكاح العفيفة
المسلمة )[أنظر فقه السنة للشيخ سابق2/90] .
هل إقامة الحد شرط للتوبة من الزنا؟ :
قال
العلماء: إن الأفضل لمن أتى ذنباً - كالزنا مثلاً- أن يتوب فيما بينه وبين
الله تعالى، ويجعلها توبةً نصوحاً، ويُكثر من الطاعات وفعل الخيرات،
ويبتعد عن أمكنة الشر وقرناء السوء. [انظر توضيح الأحكام للبسام 5/285] ،
إلاّ إذا كان في هذا الذنب حقٌ لآدمي فيجب عليه أن يرد لصاحب الحق حقَّه،
أو أن يستسمحه .
وقال بعض العلماء أنه يستحب للتائب أن يعمل عمل
خيرٍ في نفس المكان الذي أذنب به، لأن المكان الذي أذنب عليه سيأتي شاهداً
يوم القيامة فيشهد له أنه فعل عليه الخير بعد فعله عليه الذنب فيغفر له
بفضل الله تعالى ورحمته، هذا في التوبة.
أما فيما يتعلّق بإقامة الحد ومن هو المكلّف بإقامته:
فنقول
وبالله التوفيق: لا شك أن شروط إقامة الحد والتكليف غيرُ متوفرة في هذا
البلد ، صحيحٌ أن الأمة هي المكلفة في إقامة الحدود، وأن الإمامة -الخلافة-
ليست شرطاً لصحة التكليف، إلاّ أن الإمام هو الأولى في إقامة الحدود، لأن
الأمة هي التي كلفته بذلك.
فعندما يتخلى الإمام المسلم - كلامنا
هنا لا ينطبق على حكام اليوم فهم مرتدون عن الإسلام لذا فالخروج عنهم
وعليهم واجبٌ ابتداءً - عن إقامة أي حدٍ من الحدود، فعندئذ يجب على أهل كل
قطرٍ إسلامي مبايعة رجلٍ منهم ليقيموا معه الحد المعطل، وهذا الخروج عن
الإمام غير مذموم، بل هو ممدوحٌ، لخروج بعض السلف عن أئمتهم، وقتالهم قطاع
الطرق عندما انشغل الأئمة عن قتالهم بسبب اختلاف أمراء البلدان فيما بينهم.
أما عند عدم وجود الإمام الشرعي كما هو حالنا اليوم فإن إقامة
الحدود لا تكون إلاّ في ظل جماعةٍ مُمكَّنة، ويكون لهذه الجماعة إمامٌ ملمٌ
بالعلوم الشرعية، كحال جماعات الجهاد التي تسيطر أحياناً على بعض المناطق
التي تقيم فيها الجهاد، فعندئذ يجب على هذه الجماعة إقامة الحدود لأنها ما
شَرَعت في الجهاد إلاّ من أجل ذلك.
فهذا القول هو قولٌ وسط بين ما
ذهب إليه مرجئة عصرنا، وهو قولهم أن إقامة الحدود لا تجب، بل لا يجوز
إقامتها إلاّ على يد خليفة المسلمين، وهذا القول مرفوضٌ بمطلقه، ففيه
تعطيلٌ لإقامة الحدود متى تمكنت الأمة من ذلك .
وهو كذلك وسط بين
ما ذهب إليه البعض الذين يقولون بأن كل فردٍ مسلمٍ مُكلفٌ بإقامة الحدود،
فمتى اقُتُرف حدٌ وجب على هذا الفرد أن يُطبق الحكم الشرعي على هذا المقترف
، فلا شك أن مثل هذا القول يُحدث الفوضى في المجتمع .
فالقولٌ الوسط إذاً هو ما ذهبنا إليه، وخصوصاً إذا كنا نعيش في مجتمعٍ ليس لنا فيه لا قوةً ولا شوكة، والله تعالى أعلم.
هذا ما تيسر لي جمعه أخي القارئ، فأسأله تعالى أن يتقبل منّي صالح عملي، وأن يتجاوز عن سيئاتي، إنه هو الغفور الرحيم .
[بقلم؛ بلال الزهري / عن مجلة نداء الإسلام]
والصلاة
والسلام على نبينا محمد القائل: (( إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان
كالظلة على رأسه... )) ، والصلاة والسلام على آله وصحبه أجمعين، وعلى من
سار بهداهم إلى يوم الدين . وبعد :
فإن القاصي والداني من المسلمين
يعلم حرمة الزنا ، ولكننا نعيش في مجتمع انتشرت فيه جريمة الزنا وأصبحت من
الشيء المألوف، حتى دخل هذا الأُلف إلى بعض بيوت المسلمين، حتّى أصبحنا
نجد من يتباهى عندما يدخل ابنه إلى البيت مصطحباً صديقته معه والعياذ
بالله.
لهذا، ولكثرة ما يسأل الشباب الذي يريد التوبة من هذه
الفاحشة، وما إذا كان يشترط في التوبة إقامة الحد، وما هو الواجب على
التائب أن يفعله .
لهذا أخي القارئ نساهم في هذا المقال بتعريف سريع بحد الزنا، وشروط التوبة منه.
تعريف الحد :
لغةً : هو المنع والحاجز بين الشيئين، الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر.
شرعاً : يطلق على ثلاثة أنواع :
الأول: نفس المحارم التي نهى الله تعالى عنها.
الثاني: حدود الله تعالى التي نهى عن تعدّيها.
الثالث: الحدود المقدرة الرادعة عن المحارم، أي العقوبات .
لذا يجب إقامة الحدود لداعي التأديب والتطهير، لا لغرض التشفّي والانتقام ، فالحدود ضمانٌ للمجتمع في دمائهم وأعراضهم وأموالهم.
تعريف الزنا:
الزنا
هو ما يحصل بين الرجل والمرأة من غير طريق شرعي، والطريق الشرعيّ هو
الزواج المعروف، الذي لا يصح عقده إلاّ بموافقة وليّ المرأة وبحضور شاهدين
مسلمين عدلين.
فالزنا إذاً هو عين الزواج المدني الذي قرر مؤخراً
في لبنان، فالزواج المدني إذاً في المفهوم الشرعي هو عين الزنا مهما تبدلت
الأسماء.
بماذا يتحقق الزنا؟ :
يتحقق
الزنا الموجب للحد بتغييب الحَشَفة - رأس الذكر - في فرجٍ محرَّم، من غير
شبهة نكاح - كمن دخل فراشه وجامع امرأة غير امرأته ظاناً أنها امرأته فلا
حد عليه - ولو لم يُنزِل .
واختلف في من وضعه في فرج غير مشتهىً
كفروج الحيوانات، والصواب أنّه يُقتل الفاعل ويُقتل الحيوان لثبوت ذلك عن
النبيّ صلى الله عليه وسلم .
بماذا يثبت الزنا؟ :
أدلة ثبوت الزنا ثلاثة :
الدليل الأول: الإقرار وهو أن يشهد المرء على نفسه أنه زنا ويصرّح بالوطء، وأن لا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد.
واختلف
في كيفية الإقرار وفي عدده، هل يجزء مرة واحدة، أو لا بد من أربع كما فعل
النبي صلى الله عليه وسلم مع ماعز ، فذهب الإمام مالك، والشافعي، وداود
الظاهري، وأبو ثور، والطبري، إلى أنه يكفي في لزوم الحد إقراره مرة واحدة،
لقوله صلى الله عليه وسلم : (( أغدُ يا أُنيس على امراة هذا - واحد ممن
زُني بامرأته - فإن اعترفت فارجمها )) [متفق عليه] . ولم يذكر كم عدد
الإقرار.
وذهب الأحناف: إلى أنه لا بد من أقارير أربعة مرة بعد مرة في مجالس متفرقة.
وذهب الإمام أحمد، وإسحاق، إلى ما ذهب إليه الأحناف إلاّ أنهم لا يشترطون المجالس المتفرقة.
ولعل
الصواب فيما ذهب إليه الإمام أحمد وإسحاق لفعله صلى الله عليه وسلم مع
ماعز وأمره برجمه، وكان قد أقر على نفسه أربعاً في مجلس واحد.
الثاني:
أن يشهد عليه أربعة رجال عدول، فيصفون أنهم عاينوا إيلاج ذكر الرجل الزاني
بفرج المرأة المزني بها كالميل في المكحلة، وكالرشاء -الحبل- في البئر ،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ادرؤوا الحدود بالشبهات )) ، وكان
غرض الشارع من هذا التشديد سدّ السبيل على الذين يتهمون الأبرياء ظلماً،
وكذلك سدّ السبيل على الذين يريدون إشاعة الفاحشة في المجتمع المسلم.
الثالث:
ظهور الحبل على المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، وهو مذهب الخلفاء
الراشدين ، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم برجم الحامل بلا زوج
ولا سيد، وهو مذهب الإمام مالك، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد، وبه قال
شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، لكن مع درأ الحدود بالشبهات.
التدرج في عقوبة الزنا :
لقد
كانت عقوبة الزنا في صدر الإسلام التوبيخ بالكلام للرجال، وحبس النساء في
البيوت دون إخراج حتى يتوفاهن الله تعالى، أو يجعل لهن سبيلا ، قال سبحانه
وتعالى: { واللاتي يأتين الفاحشةَ من نسائكم فاستشهدوا عليهنَّ أربعةً منكم
فإن شهدوا فأمسكوهنَّ في البيوت حتى يتوفاهن الموتُ أو يجعل الله لهن
سبيلا .
واللذَّانِ يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهُما إن الله كان تواباً رحيما} .
ثم
نُسِخَ هذا الحكم بقوله تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما
مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين الله إن كنتم تُؤمنون بالله واليوم
الأخر وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} .
ولعل العقوبة التي
كانت في صدر الإسلام كانت من قبيل التعزير لا من قبيل الحد بدليل التوقيت
الذي أشار إليه قوله تعالى: { أو يجعل الله لهن سبيلا } فاستقر الأمر وجعل
الله لهن السبيل .
ثبوت الجلد بالكتاب والرجم بالسنة المتواترة :
قال الله تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة} ، فهذا الجلد قد ثبت بالقرآن.
وأما
الرجم للمحصن، والنفيُ لغير المحصن ، فقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه
وسلم بالتواتر، وهو إجماع الصحابة والتابعين لم يخالف فيه أحدٌ - إلاّ فئة
شاذة وهم الخوارج - لورود عدة أحاديث تثبت ذلك، منها قوله عليه الصلاة
والسلام : (( خُذُوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهُنَ سبيلا، البكرُ
بالبكرِ جلدُ مِائةٍ - كما نصت آية سورة النور، وزاد عليها - ونَفيُ سنةٍ،
والثيبُ بالثيبِ جلدُ مِائةٍ والرجم )) [رواه الإمام مسلم وأبو داود
والترمذي] .
وقد إختلف العلماء في الجمع بين الرجم والجلد، والصحيح
من هذه الأقوال ما ذهب إليه الجمهور إلى أن حده الرجم فقط، وهو المروي عن
الخليفتين الراشدين عمر وعثمان رضي الله عنهما، وبه قال ابن مسعود.
هل يجمع بين الجلد والنفي؟ :
يرى
جمهور العلماء إلى أن حد البكر جلد مائة وتغريب عام، للحديث السابق، ويرى
الإمام أبو حنيفة أن حدّه الجلد، أما النفي فهو مفوّض إلى الإمام إن شاء
غرّب وإن شاء ترك.
هل يشمل التغريب المرأة؟ :
ومع
أن مذهب الجمهور هو الصحيح لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو
مذهب الخلفاء الراشدين، ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان التغريب خاصّاً
بالرجال، أم أنّه يشمل النساءَ أيضاً .
فذهب الإمام مالك والأوزاعي
إلى أن التغريب للرجل دون المرأة لأنها عورة، وذهب الشافعي وأحمد إلى أن
التغريب يشمل المرأة، وتغرّب مع محرم لها وأجرته عليها، وهذا هو الراجح
لفعله ذلك، والله أعلم.
حكم اللواط والسحاق :
أما
اللواط - وهو إتيان الرجل الرجل - فمع إجماع العلماء على حرمة هذه الجريمة
وعلى وجوب أخذ مرتكبيها بالشدّة، إلاّ أنهم اختلفوا في تقدير العقوبة
المقررة لها إلى مذاهب ثلاثة ، إلاّ أن الرأي الصحيح والقوي بأدلته، وهو
قول الجمهور: قتل الفاعل والمفعول به لقوله صلى الله عليه وسلم : (( من
وجدتُموه يعملُ عملَ قومِ لُوطٍ فاقتُلوا الفاعلَ والمفعولَ به )) [رواه
أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني] ، وبه عمل الخلفاء الراشدون وأجمع
عليه الصحابة الكرام جميعاً.
وإنما اختلفوا في صفة قتله ، فقال
الإمام علي : (أرى أن يُحرّق بالنار ) ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (
يرمى من شاهق -أي من مكان مرتفع- ثم يُتبع بالحجارة ) ، وحكى البغوي عن
الشعبي، وإسحاق، ومالك، وأحمد، أنه يُرجم .
وأما السحاق - وهو
إتيان المرأة المرأة - فقد اتفق العلماء على أنه محرم ولكن ليس فيه إلاّ
التعزير ، والتعزير يكون بالضرب أو السجن أو النفي وغير ذلك دون الحد كما
لو باشر الرجل المرأة دون إيلاج في الفرج.
الزواج من الزانية أو العكس :
أما
زواج الزاني من الزانية، أو الزانية من الزاني، يصح فيما بينهما، لقوله
تعالى: { الزاني لا ينكح إلاّ زانية...} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ((
عندما سئل عن رجل زنا بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال: أوله سفاح، وآخره
نكاح، والحرام لا يحرّم الحلال )) [أخرجه الطبراني والدارقطني] .
وأما
زواج الرجل العفيف من الزانية وهي على حالها لم تتب، أو العكس، فقد اختلف
العلماء في حكمه، فذهب بعض السلف إلى حرمته، منهم عليّ، والبراء، وعائشة،
وابن مسعود، وذهب إلى جواز ذلك مع أفضلية الزواج من العفيفة الطاهرة
الجمهور، ونُقِل هذا عن أبي بكر، وعمر وابن عباس ، وسبب اختلافهم هو في
قوله تعالى { وحرم ذلك على المؤمنين} ، هل المقصود بالتحريم: الزنا أم
النكاح؟ .
هل يُفسخ عقد الزواج بالزنا؟ :
ذهب
الجمهور إلى أن العقد لا يُفسخ بالزنا، لأن حالة الابتداء تفارق حالة
البقاء، غير أن البقاء مع الشخص الآخر بعد فعل هذه الجريمة من الدياثة التي
تخرم مروءة المسلم.
وروي عن الحسن، وجابر بن عبد الله : أن المرأة
المتزوجة إذا زنت يفرق بينهما، واستحب الإمام أحمد مفارقتها وقال: ( لا
أرى أن يُمسك مثل هذه، فتلك لا تؤمن أن تفسد فراشه، وتلحق به ولداً ليس منه
).
الزواج من الزانية أو الزاني التائب :
يجوز
زواج الرجل العفيف من الزانية التائبة، وكذا العكس، لما روي أن ابن عباس
رضي الله عنهما سأله رجل ، فقال: " إني كنت ألِمُّ بامرأة، آتي منها ما حرم
الله عليَّ، فرزق الله عز وجل من ذلك توبة، فأردت أن أتزوجها " ... فقال: (
انكحها فما كان من إثمٍ فعليَّ ) [رواه ابن أبي حاتم].
وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن رجل فجر بامرأة، أيتزوجها؟ قال: ( إن تابا وأصلحا ).
وقد
خُطِبَت امرأة من عمها وكانت قد زنت ثم تابت، فكره عمُّها أن يدلّسها - أي
أن يخفي أمرها - فأتى عمر بن الخطاب فذكر له ذلك فقال عمر : ( لو أفشيت
عليها لعاقبتك ، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه ) ، وفي رواية قال: (
أتخبرُ بشأنها؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه، والله لئن أخبرت بشأنها
أحداً من الناس لأجعلنك نكالاً لأهل الأمصار، بل أنكحها بنكاح العفيفة
المسلمة )[أنظر فقه السنة للشيخ سابق2/90] .
هل إقامة الحد شرط للتوبة من الزنا؟ :
قال
العلماء: إن الأفضل لمن أتى ذنباً - كالزنا مثلاً- أن يتوب فيما بينه وبين
الله تعالى، ويجعلها توبةً نصوحاً، ويُكثر من الطاعات وفعل الخيرات،
ويبتعد عن أمكنة الشر وقرناء السوء. [انظر توضيح الأحكام للبسام 5/285] ،
إلاّ إذا كان في هذا الذنب حقٌ لآدمي فيجب عليه أن يرد لصاحب الحق حقَّه،
أو أن يستسمحه .
وقال بعض العلماء أنه يستحب للتائب أن يعمل عمل
خيرٍ في نفس المكان الذي أذنب به، لأن المكان الذي أذنب عليه سيأتي شاهداً
يوم القيامة فيشهد له أنه فعل عليه الخير بعد فعله عليه الذنب فيغفر له
بفضل الله تعالى ورحمته، هذا في التوبة.
أما فيما يتعلّق بإقامة الحد ومن هو المكلّف بإقامته:
فنقول
وبالله التوفيق: لا شك أن شروط إقامة الحد والتكليف غيرُ متوفرة في هذا
البلد ، صحيحٌ أن الأمة هي المكلفة في إقامة الحدود، وأن الإمامة -الخلافة-
ليست شرطاً لصحة التكليف، إلاّ أن الإمام هو الأولى في إقامة الحدود، لأن
الأمة هي التي كلفته بذلك.
فعندما يتخلى الإمام المسلم - كلامنا
هنا لا ينطبق على حكام اليوم فهم مرتدون عن الإسلام لذا فالخروج عنهم
وعليهم واجبٌ ابتداءً - عن إقامة أي حدٍ من الحدود، فعندئذ يجب على أهل كل
قطرٍ إسلامي مبايعة رجلٍ منهم ليقيموا معه الحد المعطل، وهذا الخروج عن
الإمام غير مذموم، بل هو ممدوحٌ، لخروج بعض السلف عن أئمتهم، وقتالهم قطاع
الطرق عندما انشغل الأئمة عن قتالهم بسبب اختلاف أمراء البلدان فيما بينهم.
أما عند عدم وجود الإمام الشرعي كما هو حالنا اليوم فإن إقامة
الحدود لا تكون إلاّ في ظل جماعةٍ مُمكَّنة، ويكون لهذه الجماعة إمامٌ ملمٌ
بالعلوم الشرعية، كحال جماعات الجهاد التي تسيطر أحياناً على بعض المناطق
التي تقيم فيها الجهاد، فعندئذ يجب على هذه الجماعة إقامة الحدود لأنها ما
شَرَعت في الجهاد إلاّ من أجل ذلك.
فهذا القول هو قولٌ وسط بين ما
ذهب إليه مرجئة عصرنا، وهو قولهم أن إقامة الحدود لا تجب، بل لا يجوز
إقامتها إلاّ على يد خليفة المسلمين، وهذا القول مرفوضٌ بمطلقه، ففيه
تعطيلٌ لإقامة الحدود متى تمكنت الأمة من ذلك .
وهو كذلك وسط بين
ما ذهب إليه البعض الذين يقولون بأن كل فردٍ مسلمٍ مُكلفٌ بإقامة الحدود،
فمتى اقُتُرف حدٌ وجب على هذا الفرد أن يُطبق الحكم الشرعي على هذا المقترف
، فلا شك أن مثل هذا القول يُحدث الفوضى في المجتمع .
فالقولٌ الوسط إذاً هو ما ذهبنا إليه، وخصوصاً إذا كنا نعيش في مجتمعٍ ليس لنا فيه لا قوةً ولا شوكة، والله تعالى أعلم.
هذا ما تيسر لي جمعه أخي القارئ، فأسأله تعالى أن يتقبل منّي صالح عملي، وأن يتجاوز عن سيئاتي، إنه هو الغفور الرحيم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
[بقلم؛ بلال الزهري / عن مجلة نداء الإسلام]