يمكن أن نهون المصيبة بأمورٍ متعددة:
الأول: أن نذكر ما هو أعظم منها، سُئلت امرأة كثيرة المصائب وهي صابرةٌ محتسبة لا تجزع ولا تتضعضع، كيف تصبرين هذا الصبر وتتماسكين؟ فقالت: ما أُصاب بمصيبة فأذكر معها النار إلا صارت في عيني أصغر من الذباب.
وفي الحديث: ((يا أيها الناس، أيُّما أحدٍ من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي))([43]).
والأمر الثاني مما يهونها: أن تحمد الله - عز وجل - أنها لم تكن أعظم من ذلك، إذا كُسرت رجلٌ واحدة فقل: الحمد لله أنها لم تكسر الثانية، وإذا كسرت اليد فقل: الحمد لله أنه ليس الظهر.
يقول شريح - رحمه الله -: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله - عز وجل - عليها أربع مرات، وذكر من ذلك أن قال: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي.
ورأى رجلٌ قرحةً في يد الإمام العابد محمد بن واسع - رحمه الله -، ففزع ذلك الرجل منها، فقال محمد بن واسع: الحمد لله أنها ليست في لساني، ولا في طرف عيني.
ورأى رجلٌ فقيراً مريضاً كفيفاً مقعداً وهو يردد: الحمد لله الذي فضلني على كثيرٍ من عباده، فقال: يرحمك الله، وبماذا فضلك؟ قال: رزقني لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً.
الأمر الثالث: انظر في حال أمثالك، وقد قالت الخنساء حينما قتل أو مات أخوها صخر:
ولولا كثرةُ الباكين حولي *** على إخوانهم لقتلتُ نفسي
فالإنسان حينما ينظر إلى حال أمثاله، هؤلاء مات أبوهم، وهؤلاء مات أخوهم، وهؤلاء مات قريبهم فتهون عليه مصيبته، وفي بعض الحكم: الدخان يخرج من كل السطوح.
ويُذكر عن رجلٍ حينما حضرته الوفاة أنه أوصى أمه إذا أقامت له العزاء أن تدعو من لم يصب بمصيبة، لا يحضر إلا إنسان لم يصب بمصيبة، فلما نظرت في وصيته عرفت أنه لن يحضر لها أحد؛ فكل الناس أصحاب مصائب، ونحن أبناء الموتى وسنموت، قال - تعالى -: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [(30) سورة الزمر].
الأمر الرابع مما يهونها: أن ينظر الإنسان في حال من ابتلي ببلوى هي أعظم من بلواه، فإذا خسر الإنسان في تجارته، أو في أسهمه مائة ألف، فليتذكر أن من الناس من خسر الملايين، ومن خسر المليون فليتذكر أن غيره خسر أضعاف ذلك، وإذا فقد الإنسان ولداً واحداً فليتذكر أن أسراً قد خرجت من بيوتها في نزهةٍ، أو سياحةٍ فلم يرجع منهم أحد.
يقول سلام بن أبي مطيع - رحمه الله -: دخلت على مريض فإذا هو يئن، فقلت له: اذكر المطروحين في الطريق، اذكر الذين لا مأوى لهم ولا من يخدمهم، يقول: ثم دخلت عليه بعد ذلك فلم أسمعه يئن، وجعل يقول: اذكر المطروحين في الطريق، اذكر من لا مأوى له ولا من يخدمه.
وقد وقع لعروة بن الزبير - رحمه الله - حينما قدم على الوليد بن عبد الملك بالشام ما وقع من علةٍ في رجله فقطعت رجله بالمنشار، ومات ولده في تلك السفرة في إسطبل الدواب، وجاء في ذلك الأثناء أعرابيٌ إلى الوليد بن عبد الملك، أعمى، فسأله الوليد عن حاله، فحمد الله - عز وجل -، وكان في غاية الصبر والتجلد، وقال: إنه كان من خبره أنه كان كثير المال والولد، فاجتاحهم السيل، فذهب المال والولد ولم يبقَ له إلا صبيٌّ صغير رضيع وجملٌ واحد، يقول: فأخذت هذا الصبي فشرد الجمل، فوضعت الصبي وجعلت أتبعه، يقول: ثم إن هذا الجمل أصابه في وجهه برجله فذهب بصره، فلما رجع إلى صبيه وجده قد افترسه الذئب، لم يبق له شيء، وذهب بصره، فقال الوليد بن عبد الملك: اذهبوا به إلى عروة، أي من أجل أن يخفف ذلك مصيبته.
فالإنسان إذا نظر إلى حال أهل البلاء الذين وقع لهم أشد مما وقع له فإن ذلك يخفف ما في نفسه.
والأمرٌ الخامس مما يهونها: أن نعد نعم الله علينا وأياديه، فإذا عجزنا عن عدها وأصابنا اليأس من حصرها هان عندئذٍ ما نحن فيه من البلاء، وحينئذ نرى البلاء قليلاً كقطرة من بحر بالنسبة لنعم الله - عز وجل - المستفيضة التي يسوقها إلينا صباح مساء.
لما قطعت رجل عروة بن الزبير - رحمه الله - قال له ابن طلحة: قد أبقى الله أكثرَك عقلَك ولسانَك وبصرَك، ويديك وإحدى رجليك، فقال: ما عزاني أحدٌ بمثل ما عزيتني به.
واجتاز أحدهم بدار تاجرٍ من قرابته فوجده في حُوشٍ في داره، وهو حاسر الرأس، يعدو كالمجنون، فقال له: ما بك؟، قال: أخذوا مني -يعني أخذوا شيئاً من مالي- فقال: إنما يقلق هكذا من يخاف الحاجة، فاصبر حتى أبين لك غناك، ثم بدأ يعدد عليه، أليس دارُك هذه بآلتها وفُرُشها لك؟ وما زال يحسب حتى بلغ ألف ألف دينار في بغداد وحدها، فسجد الرجل وبكى، وقال: ما أكلتُ شيئاً منذ ثلاث، فأقم عندي لنأكل ونتحدث، يقول: فأقمت عنده يومين.
وقال بعضهم لمن شكا إليه ضيق الحال: أيسُرّك ببصرك مائة ألف؟ قال: لا، قال: فبسمعك؟ قال: لا، قال: فبلسانك؟ قال: لا، قال: فبعقلك؟ قال: لا، ثم قال: أرى لك مئين ألوفاً وأنت تشكو الحاجة!.
وهذه إحدى الفتيات ذهبت إلى الطبيب وهي تعاني ما تعاني من الحزن، والهم والألم والقلق، فأمرها الطبيب أن ترجع إلى بيتها وأن تأخذ ورقة، وأن تعد الأمور المنغصات، وأن تعد في ورقةٍ أخرى النعم التي حباها الله - عز وجل - بها، فلما شرعت في كتابة النعم، وعجزت عن إحصائها أدركت سر هذا الطلب، وعرفت أنها في عافيةٍ وبحبوحة من الله -تبارك وتعالى.
والأمرٌ السادس مما يهونها: أن يتذكر الإنسان سوابق النعم، أن يتذكر أن أيام العافية التي مرت به أطول من أيام المرض، كما قال القائل:
فلا تجزع وإن أعسرتَ يوماً *** فقد أيسرتَ في الزمن الطويل
الأمر السابع مما يهونها: تذكر، قل لنفسك: إنما هي ساعة فكأن لم تكن.
كان ابن شبرمة - رحمه الله - إذا نزل به البلاء قال: سحابة صيف ثم تنقشع.
انظر إلى الناس الذين ابتلوا بالأمراض، وابتلوا بفقد من يحبون قبل عشر سنوات، وقبل عشرين سنة، وقبل خمسين سنة، وقبل مائة سنة، وقبل ألف سنة، هل بقيت الآلام؟ هل بقيت الحسرات؟
كل هؤلاء الناس الذين ترونهم يضحكون بملء أفواههم، أليسوا قد بكوا في يومٍ من الأيام فذهب عنهم ذلك الحزن؟
فالإنسان يحتاج أن يتصبر قليلاً، ويتذكر أنه صبر ساعة أو كما يقال: سحابة صيف ثم تنقشع.
الكاتب : خالد بن عثمان السبت