الرمز الشعري تعدَّدت تعريفاتُ الرمز في الشعر العربي، فقيل: العبارة التي تحوي على الرمز تحمل إشارة حسية مجازية لشعور لا يمكن اكتشافه بالحواس، وقيل: هو ما يسمح للقارئ بالنظر والتأمل وراء النّصِّ، فهو أن تحمل العبارة معنىً خفيًّا موحيًا في الوقت نفسه وليس مبهمًا غامضًا مستحيل الفهم، وقيل إنَّ الرمز هو قصيدة أخرى يشكلها خيال القارئ في ذهنه بعد انتهائه من قراءة القصيدة، أو هو صورة ترسمها الصورة الأولى في خيال القارئ، وهذا المقال مخصص للحديث عن الشاعر بدر شاكر السيّاب وتحليل قصيدة تموز جيكور وشرحها. [١] حياة بدر شاكر السياب وُلِدَ بدر شاكر بدر شاكر السيّاب في قرية جيكور في مدينة البصرة العراقية عام 1926م وهي أرض مليئة بأشجار النخيل، ونسائم البساتين والأنهار العذبة، وكلّ هذا الهدوء والجو الشاعري كان له دور كبير في بناء الشاعرية الكبيرة التي كانَ السيَّاب يمتلكها في حياته، هناكَ في جنوب البصرة في قرية جيكور فقد السياب والدته، وهو ابن ست سنوات، فكان لهذا الحدث الحزين أثرٌ في حياة الشاعر، وقد تلقّى السياب تعليمه في مدرسة "باب سليمان" ودرس في مدرسة "المحمودية"، وانتقل إلى العاصمة العراقية بغداد ليلتحق بدار المعلمين العالية، ودرس اللغة العربية، ودرس الأدب العربي مدّة سنتين، قبل أن ينتقل لدراسة اللغة الانكليزية عام 1945م وتخرّج من الجامعة عام 1948م. بدأ ميوله السياسي يظهر حيث عُرف بمعارضته للاحتلال الانكليزي، وقد عمل في التعليم -تعليم اللغة الانكليزية- قبل أن يفصلَ بسبب أفكاره وميوله السياسية اليسارية، ودخل السجن، وعندما خرج من السجن تنقل بين بغداد والبصرة، وفي عام 1952م سافر إلى إيران ومنها إلى الكويت، وعاد إلى بغداد عام 1954م وعمل في الصحافة، وقد ظهر في حياة السياب أنَّ طبيعته الريفية تجعل العيش في المدينة أمرًا صعبًا بالنسبة إليه. وقد قال الناقد الفلسطيني إحسان عباس عنه: "أما السياب فإنه لم يستطع أن ينسجم مع بغداد؛ لأنها عجزت أن تمحو صورة جيكور أو تطمسها في نفسه لأسباب متعددة، فالصراع بين جيكور وبغداد، جعل الصدمة مزمنة، حتى حين رجع السياب إلى جيكور ووجدها قد تغيرت لم يستطع أن يحب بغداد أو أن يأنس إلى بيئتها، وظل يحلم أن جيكور لا بد أن تبعث من خلال ذاته"، وتظهر هذه العلاقة الحميمة بينه وبين قريته وبيئتها الريفية في قصيدته تموز جيكور التي سيتم الحديث عنها لاحقًا، وقد توفِّيَ السيّاب في ريعان شبابه، عام 1964م بعد صراع سنتين مع المرض، ودُفنَ في جيكور مدينته في البصرة. [٢] تحليل قصيدة تموز جيكور تعدُُّ قصيدة جيكور تموز واحدة من القصائد التي عبّر بها السيّاب عن انتمائه لقريته الريفية بجوّها الشاعري الجميل، وهي قصيدة من قصائد التفعيلة الحديثة، فن التفعيلة الذي كان السيّاب أحد أبرز مؤسسيه، ويقول السيّاب في قصيدته جيكور تموز: [٣] نابُ الخنزيرِ يشقُّ يديْ ويغوصُ لظاهُ إلى كَبِدِي ودمِي يتدفَّقُ ينسابُ لم يغدُ شقائقَ أو قمحَا لكنْ ملحا عشتارُ وتخفقُ أثوابُ وترفُّ حيالي أعشابُ من نعلٍ يخفقُ كالبرقِ كالبرقِ الخُلَّبِ ينسابُ لو يومضُ في عرقِي نور فيضيء لي الدُّنيا لو أنهضُ لو أحيا لو أسقى آه لو أسقي لو أنَّ عروقي أعنابُ وتقبل ثغري عشتارُ فكأنَّ على فمها ظلمةْ تنثال علي وتنطبقُ فيموت بعيني الألقُ أنا والعتمةْ يتخيّل الشاعر بدر شاكر السيّاب في هذا المقطع أنَّ الخنزير البري الذي قتلَ تموزَ نالَ منهُ أيضًا فسال دمُهُ، فأنبتَ دمُهُ ملحًا ولم ينبتْ شقائق كما وردَ في أسطورة تموز، ثم يتوجَّه السياب بخطابِهِ إلى عشتار متمنيًا لو أنَّها تُقبِّلُهُ ولو كانت قبلتها مجرّد ظلمة تغشاه وتنطبق عليه فيموت بعينيه ضوء الحياة والنور. جيكورُ ستولدُ جيكورُ النورُ سيورِقُ والنُّورُ جيكورُ ستولدُ من جرحِي من غصةِ موتِي منْ ناري سيفيضُ البيدرُ بالقمحِ والجرن سيضحك للصبحِ والقريةُ دارًا عن دارِ تتماوج أنغامًا حلوةْ والشيخُ ينامُ على الربوة والنَّخلُ يوسْوسُ أسرارِي جيكورُ ستولدُ لكنِّي لنْ أخرجَ فيها منْ سِجْنِي في ليلِ الطِّينِ الممدودِ لن ينبضَ قلبي كاللحنِ فِي الأوتار لنْ يخفقَ فيه سوى الدودِ يؤكِّدُ السيَّابُ في هذا المقطع أنَّ جيكور قريته الريفية ستولد وتخرج من جرحه ومن غصة موتِهِ وستملأ الأرض قمحًا وتورق الأشجار ويعمّ الفرح قلوب الناس أجمعين، ويصف ويفصل في مشاهد الرح التي ستكون عند ولادة جيكور، ولكنَّه يؤكّد أنَّه الوحيد الذي سيبقى في حزنِهِ حزينًا مسجونًا يعجُّ قلبُهُ الدود ويخفق به فقط. هيهاتَ أتولدُ جيكورُ إلا من خضة ميلادي؟ هيهاتَ أينبثقُ النُّورُ ودمائِي تُظلَمُ في الوادِي؟ أيسقسِقُ فيها عصفورُ ولسانِي كومةُ أعواد؟ والحقلُ متى يلدُ القَمْحا والوردُ وجرحِيَ مغفورُ وعظامِي ناضحةٌ ملحَا لا شيءَ سوى العدمِ العدمِ والموتُ هو الموتُ الباقي يا ليلُ أظلَّ مسيلَ دمي ولتغدُ ترابًا أعراقِي هيهاتَ أتولدُ جيكورُ من حقدِ الخنزير المتدثِّر بالليلِ والقبلةُ برعمةُ القتلِ والغيمةُ رملٌ منثورُ يا جيكورُ يتراجع السياب عن حُلمِهِ في هذا المقطع، حلمه بولادة جيكور من جديد كما أرادها هو تمامًا، فيبدأ بالاستفهام وطرح الأسئلة عن كيفية ولادة هذه القرية من جديد ويضع عوائق خيالية في باله ليمنع ولادتها من جديد من هذا الجرح المفتوح في قلبِهِ، فكيف لجيكور أن تولد من جديد في وقت تظلم فيه دماء الشاعر في الوادي، وتنضح عظامه بالملح والأسى.