التوبة في الإسلام هي رحمةٌ اختصَّ الله بها عبادَه المُذنبين؛ لئلّا يقنطوا من رحمته، يقول -تعالى-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[١]، ورحمُته - سبحانه - فَتَحَتْ بابَ الأمل للعاصين ليتوبوا؛ فلا يكونَ الذنب مدعاةً للتمادي من العبد، يقول المصطفى -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا"[٢]،[٣] وسيُسَّلط هذا المقال الضوءَ على واحدةٍ من أجمل قصص التائبين، قصةِ توبة مالك بن دينار، وأهمّ شروط التوبة النصوح. قصة توبة مالك بن دينار يُروى أنَّ مالكَ بن دينار كان شُرطيًا يقضي معظم وقته منهمكًا في الشُّرب، ثم إنه اشترى جاريةً أحبها كثيرًا، وولدت له بنتًا تعلق بها أكثرَ من أمها، وكان إذا أدنى الخمرَ منه جاءت هذه البنت تحاول منعه عنه، وحين بلغتِ العامينِ توفاها الله، وذاتَ ليلةٍ -ووافق أنها ليلة النصف من شعبان وليلة الجمعة- رأى مالكُ بن دينار في منامه -بعد أنْ نام وقد هدّهُ السُّكر- وكأنَّ القيامة قد قامت، وعلاماتها كلها ظاهرة، وإذا به في أرض المَحشر يلتفت ليجدَ تنينًا عظيمًا مُتجهًا نحوه، ففزع منه وهرب، فإذا بشيخٍ وقورٍ يمرُّ في طريقه، فطلب منه مالكٌ المُساعدة، ولكنّ الشيخ بكى، وأعتذر بقلة الحيلة مع هذا الكائن الضخم، ونصحه بأنْ يُسرع صوبَ شُرفات القيامة المُطلة على جهنم، ففعل، وكاد أن يهويَ في النار لشدة فزعه من التنين، فصاحَ به صائح: أنْ لست من أهلها فارجع، فاطمأن قليلًا لقوله، ورجع ورجع التنين وراءَه، فلم يجد إلا أنْ يعودَ إلى الشيخ يطلب منه العون كرّةً أخرى، ولكنّ الشيخ عاد وبكى متعذرًا بذاتِ الأعذار، غيرَ أنه نصحه هذه المرة أنْ يسلكَ في هذا الجبل المستدير الفضيّ والمرصّع بالجواهر، فإنّ فيه ودائعَ للمسلمين، لعله يجدُ له من ضمنها وديعةً تنصره، وحين وصل الجبلَ أمر الملائكةُ برفع الستور، فإذا بأطفالٍ كوجوه الأقمار تخرج إليه تدفع عنه خطرَ ذاك التنين، ونظر فوجد بين هؤلاء الأطفال ابنته التي ماتت، تنظر إليه وتبكي، وتدفع عنه التنين بكل عزمٍ حتى ولّى هاربًا، ثم جلستْ في حِجره وأمسكت لحيته وقالت: يا أبتِ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}،[٤] فبكى وقال: وهل تعرفون القرآن يا بُنيّتي؟ فأجابت: أنْ نعم، فسألها عن ذاك التنين الذي أراد إهلاكه، فأخبرته بأنه إنما عملهُ السيّئ الذي قوّاهُ حتى كاد أن يوردهُ جهنم، فسألها بعد ذلك عن الشيخ، فأخبرته بأنه عمله الصَّالح الذي ضعّفهُ حتى لم يعد يملك طاقةً مع عمله السيّئ، وأخبرته أنها إنما تمكثُ في هذا الجبل مع أطفال المسلمين حتى تقومَ الساعة، ثمَّ أفاق مالكُ بن دينار فزِعًا مما رآه، وأهرق الخمر وكسر آنيته، وتاب إلى الله توبةً لا رجعة فيها.[٥] شروط التوبة لأن خلَّد الباري توبة مالك بن دينار، فذلك لأنه -واللهُ أعلم- أخلصَ التوبة له -سبحانه-، وجعلَ الصدقَ فيها معيارَ قبولها؛ فحتى تكونَ التوبة صحيحةً نصوحًا، لا بدَّ أنْ تتوافرَ فيها الشُّروط التالية الذكر:[٦] أنْ تكونَ التوبة خالصةً لله. أن تكونَ في وقتها. أن يقلعَ عن المعصية. أن يندمَ على فعلها. أن يعزِمَ ألّا يعود إليها. وإن كانتِ المعصية تتعلق بحقِّ آدميٍّ فتزيدُ مع هذه شرطاً سادساً؛ أن يَبرأ من حقِّ صاحبها باستحلاله أو ردِّ حقّه