بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله تعالى الحبيب محمد صلى الله عليه واّله وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــ
لليسر في الإسلام أهداف عظيمة ومقاصد سامية، ويمكن تقسيم هذه الأهداف إلى عدة أقسام. تكون على النحو التالي:
1- الأهداف العقدية:
إن الإسلام دين السماحة واليسر، شُرعت أحكامه ليعتنقها أكبر قدر ممكن من البشر، وقد سلك الإسلام في سبيل تحقيق هذا الهدف أسلوب الترهيب تارة، وأسلوب الترغيب تارة أخرى.
وتمثل أسلوب الترهيب في التحذير من عقاب الله الصارم يوم الحساب.
أما أسلوب الترغيب فمن أبرز معالمه ((اليسر(( الذي تنطوي عليه معظم أحكام الشريعة الغراء.
والشريعة الإسلامية بسلوكها هذا الطريق إنما تتمشى مع الطبيعة البشرية التي تنفر من الصعب، وتمقت التعقيد، وذلك بسبب ما فُطرت عليه من الضعف كما قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا {28}(1)
وعن يسر العقيدة وخُلوها من التعقيد يقول الشاطبي –رحمه الله – : ((ومنها أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها ليسعه الدخول تحت حكمها، أما الاعتقادية فأن تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور، من كان منهم ثاقب الفهم، أو بليداً، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامه، ولم تكن أمية، وقد ثبت كونها كذلك))(2).
ولقد كان يسر الإسلام عاملاً قوياً في سرعة انتشاره وإقبال الناس عليه. يقول أحد الباحثين(3): ((فمن أسباب انتشار الإسلام في القارة الإفريقية ….. أنه دين بسيط، سهل القواعد والأصول، لا يحوج المتدين به بعد الإيمان بالوحدانية وفرائض العبادة إلى شيء من الغوامض التي يدين بها أتباع العقائد الأخرى، ولا يفقهون ما فحواها)).
ويقول آخر عن يسر العقيدة الإسلامية: ((بأن ذلك هو أهم سبب في انتشار الإسلام حتى بين المسيحيين أنفسهم))(4).
ومن تتبع أبواب الفقه الإسلامي وجد الترغيب في الدخول إلى الإسلام، من ذلك: أن الداخل في الإسلام يُعذر بالجهل بالتحريم، ويكون ذلك شبهة تمنع ثبوت الحدود، ومنه سقوط العبادات وسائر حقوق الله تعالى السابقة على الإسلام، فلا يطالب بقضائها- حتى على قول من يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة – ترغيباً لهم في الإسلام، ولئلا تكون مشقة القضاء حائلاً بينهم وبين الإسلام(5).
ثم إني أقول: إن مهمة أهل الإسلام أن يحسنوا عرض هذا الدين للبشر من جهة أساليب الدعوة وطرائقها، ومن جهة التمثل بتعاليم الإسلام في السلوك.
إن التأثر بالسلوك من أبلغ وسائل الدعوة، فلربما دخل الإنسان في الإسلام بسبب حسن سلوك مسلم عايشه، وفي أحاديث النبيصلى الله عليه وسلم ما يشهد بوضوح الأمر بترغيب الناس إلى الإسلام، وتأليف قلوبهم، والمنع من تنفيرهم عن هذا الدين الحنيف، فمن تلك الأحاديث:- قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما أطال بالناس الصلاة: ((أفتان أنت يا معاذ(( (6) قال الإمام النووي(7) – رحمه الله -: ((أي منفر عن الدين وصادّ عنه(((.
وفي حديث آخر وفي السبب نفسه قال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أمَّ الناس فليتجوز(((9).
إن هذه الإحاديث وغيرها كثير، تحذر من الغلو والتشديد على الناس حتى لا ينفروا من الدين.
2- الأهداف التعبدية:-
إن المتتبع لأبواب الشريعة يرى أنها تهدف من وراء يسر التكاليف وسهولتها إلى تمكين المسلم من أداء العبادة بحسب ظروفه، سواء أكانت هذه الظروف خاصة بالجهل، أم بالإكراه، أم بالعجز وعدم القدرة. ويدل على ذلك الأمثلة الحية التي نطبقها في حياتنا اليومية أكثر من مرة.
فإذا نظرنا مثلاً إلى عملية الوضوء فإننا نرى الهدف التعبدي الجلي في ذلك، الذي منه أن الإسلام لم يوجب غسل الرأس، وإنما اكتفى بمسحه، مراعاة لما قد يكون عليه من شعر ومن مراعاة الشريعة للمسلم في عبادته ما يتعلق بالتيمم، فقد ((كانت الشرائع السابقة لا تجوّز قربان الصلاة بدون تطهر بالماء مهما كانت الظروف والملابسات …. فجاء الإسلام دين اليسر والسماحة فخفف من وطأة تلك الأحكام، وراعى جميع الأحوال التي قد يتعرض لها المسلم، فأباح له أن يتيمم عند عدمه للماء، أو خوفه على نفسه باستعماله لبرد أو مرض شديد(((10)، والعاجز عن الفعل على تمامه يفعله حسب استطاعته كمن لا يستطيع الصلاة قائماً، فيصليها قاعداً، بل إن العاجز عن أصل الفعل معفو عنه، كمن لا يستطيع الهجرة من دار الكفر، إلى دار الإسلام، يقول تعالى:(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا{98}فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا {99} (11).
و((لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن، وهو عاجز عن الهجرة، لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها، بل الوجوب بحسب الإمكان(( ( 12) .
كذلك تهدف الشريعة من وراء يسر التكاليف المحافظة على النفس، فالمريض الذي يخشى أن يزيد الصوم من مرضه، أو يؤخر من شفائه، جائز له الفطر، وعليه الإعادة إن عادت له القدرة، قال تعالى:
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (13)
كما أن المجاهد في الميدان تباح له الصلاة على أي وضع كان، قال تعالى:
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ {239} (14)
وقد قسم صاحب تهذيب الفروق المشاق التي تؤثر في التكليف إسقاطاً أو تخفيفاً إلى أقسام ثلاثة، قال في الأول منها ما نصه: ((الأول: متفق على اعتباره في الإسقاط أو التخفيف، كالخوف على النفس والأعضاء والمنافع، لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة(((15).
3- الأهداف الاجتماعية:
اقتضت حكمة الله سبحانه أن تكون رسالاته للبشر على النهج الذي يصلح أحوالهم، وبالأمر الذي تشتد إليه حاجتهم، وبالقدر الذي يتناسب مع قدرتهم، وقد تضمنت رسالة محمدصلى الله عليه وسلم كل ما يؤهلها للشمول في الأحكام، والصلاحية لجميع الأمكنة والأزمنة، والانسجام مع الأحوال التي تعيشها المجتمعات، وذلك بما اشتملت عليه من قواعد تجلب التيسير، وترفع الحرج،وتبعد الشدة. ومن ذلك قاعدة ((العرف))، وهو ما تعارف الناس وساروا عليه من قول أو عمل، مما لا يخالف دليلاً شرعياً.
فإن رعاية العرف نوع من التيسير، إذ من التيسير على الناس أن يقروا على ما ألفوه وتعارفوه، واستقر عليه أمرهم على مر السنين والأجيال. كما يهدف الإسلام في تشريع المعاملات المالية إلى سد حاجات الناس، وقضاء حوائجهم، ذلك أن موقف الإسلام في ميدان المعاملات يختلف عن موقفه في ميدان العقائد والعبادات، فليست الشريعة هي التي أنشأت للناس صوراً للتبادل والتبايع والتعاون، ولكنها وجدت صوراً يتعامل بها الناس، فوقفت منها موقف الإقرار أو التعديل أو الإلغاء، ولم تتدخل الشريعة إلا بمقدار ما تحمي به مقاصدها الشرعية من العدل والتيسير والرحمة، ومنع أسباب التشاحن والتباغض (16).
كما يهدف الإسلام من تيسيره التعاملي: ضمان السرعة، والمرونة، لأنهما عنصران لازمان لنجاح الكثير من التعاملات المالية، فإذا كانت الإجراءات بطيئة معقدة لا تساير ظروف الناس ومتطلباتهم في أحوالهم المختلفة، فإن كثيراً من الفرص السانحة ستضيع، ويشيع الكساد والتعطل، ومن أجل ذلك حرصت الشريعة الإسلامية على مراعاة التيسير من الناحيتين الشكلية والموضوعية فيما تنظمه من العقود المالية والتجارية، ويظهر ذلك واضحاً في آية الدين من سورة البقرة، وهي قوله تعالى:: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) {282}(17)
فاشترطت الآية الكتابة لإثبات الدين، سواء كان صغيراً أو كبيراً، ولكنها استثنت من هذا المبدأ العام الدين التجاري، فأباحته من غير كتابة، وذلك في قوله تعالى(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ).
والعلة في استثناء الديون التجارية من شرط الكتابة والله أعلم أن الصفات التجارية تقتضي السرعة، ولا تتحمل الانتظار، ولأن المعاملات التجارية أكثر عدداً وتكراراً وتنوعاً، فاشتراط الكتابة فيها يؤدي إلى الحرج، وقد تضيع فرصة الكسب على المشتري، أو يعرض البائع للخسارة (18).
4- الأهداف الجنائية:-
سلك الإسلام – كما هو دأبه – مسلك اليسر في التشريعات الجنائية، ونستطيع أن نلمس ذلك فيما يلي:
أ- الرحمة بالمجتمع، وحقن الدماء: ((إذا كانت العقوبات بكل صورها أذى لمن تنزل به، فهي في آثارها رحمة بالمجتمع، وليست الرحمة في هذا المقام هي الشفقة والرأفة التي تنبعث من النفس الإنسانية نحو المستضعفين والأطفال والأقربين، وإنما نريد الرحمة العامة بالناس أجمعين، والتي لاتفرق بين ضعيف، ولا شريف، ولا رئيس، ولا مرؤوس ولا جنس وجنس))( 19) فلا رأفة ولا رحمة مع المعتدين، إن الرحمة الحقيقية هي التي لا تطوي في ثناياها ظلماً، والتسامح الحق هو الذي يكون عن قدرة وطيب نفس، غير مقيم ظلماً أو ساكت عن باطل.
((والذي يشرف على إقامة حدود الله لا بد أن تملأ قلبه الرحمة والشفقة على أفراد المجتمع، وهو ينفذ حداً من حدود الله، ولكن ليس من الرحمة العفو عن المجرمين ليعثوا في الأرض مفسدين ))(20).
ب- تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة: إن الشريعة الإسلامية تتتبع سبيل التيسير حتى مع المتهمين، فلا تأخذ المتهم بمجرد التهمة حتى تثبت إدانته يقيناً، ولذلك أمر الله تعالى جماعة المؤمنين بالتبين والتثبت في إصدار أحكامهم على الناس، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) {94} (21) ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ {6}(22)
، وتحقيقاً لهذه الغاية أقر الإسلام مبدأ مهماً وهو: ((درء الحدود بالشبهات)).
وضماناً للعدل في المجتمع روعي الاحتياط في ثبوت الجريمة، والحكم بالعقوبة وتنفيذها، وقد حرص العلماء على ذلك، وتكلموا في أبواب هذه العقوبات عند الشبهة، فعرفوها، وقسموها، وبينوا ما يسقط العقوبة، ومالا يسقطها(23).
ج- استصلاح الجاني: يقول أحد الباحثين: ((كانت القوانين الوضعية حتى أواخر القرن الثامن عشر تنظر إلى المجرم نظرة تفيد حنقاً وقسوة، وكان أساس العقوبات المبالغة في الإرهاب والانتقام والتشهير… وكان القانون الفرنسي – مثلاً – يعاقب بالإعدام على 215 جريمة، معظمها جرائم بسيطة))(24).
أما الشريعة الإسلامية فلم تترك الجاني يستسلم لليأس، ظناً أنه قد هوى في أعماق سحيقة، لا سبيل له للخلاص منها، بل على العكس، أخذت بيده وفتحت له أبواب التوبة والأمل، ليقف على قدميه مرة أخرى، وليستعيد احترام المجتمع له، ويتبوأ مكانته من جديد.
إن تقويم اعوجاج الناس، وكف أذى بعضهم عن بعض من رحمته والاشفاق عليهم،فقد يتوب المحدود توبة نصوحاً، ويصبح عضواً صالحاً في مجتمعه.
5- الأهداف السلوكية:-
إن منهج اليسر في الإسلام منهج متكامل، يُعنى بالحياة من جميع جوانبها، ومن ذلك مراعاة الجوانب السلوكية، مما يضمن له الشمول والبقاء، من ذلك:-
أ- إبعاد السآمة والملل:- وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا))(25)، إن من الغايات المرجوة من ممارسة العبادة؛ إقبال المسلم عليها عن حب لها، واشتياق إليها، فلا يعتريه ملل أو سأم في بدء أدائها، ولا في أثنائها، وفي هذا يقول الشاطبي – رحمه الله -: ((إن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة، سهلة،حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحببها لهم بذلك، فلو عملوا علىخلاف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم)) (26).
قال الحافظ ابن حجر(27): ((قوله:باب ما يكره من التشديد في العبادة))، قال ابن بطال(28) ((إنما يكره ذلك خشية الملال المفضي إلى ترك العبادة))(29) والملال: استثقال الشيء ونفور النفوس عنه بعد محبته (30).
ب- ضمان الاستمرار وعدم الانقطاع: ((إن الدوام على الأعمال الصالحة مقصد من مقاصد الشريعة، وهدف من أهدافها العامة، يدل على ذلك مجمل التكاليف الشرعية، فإن الأعمال فيها مقسمة إلى فرائض ونوافـل كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه))(31) والفرائض مقسمة على الزمن، بما يجعل العبد دائم الصلة بربه، فلليوم فرائض، وللأسبوع فريضة، وللسنة فرائض، وللعمر فرائض. فمن التزم تلك الفرائض فهو مداوم على طاعة الله عز وجل))(32) وقد تكون أحكام شريعة من الشرائع قاسية صارمة، ولكن ذلك لا يمنع من تلقي بعض الناس لهذه الشريعة بالقبول في مبدأ الأمر، وقد يستمر ذلك التلقي والقبول مدى حياة الجيل، أو الأجيال المعاصرة لانبثاق تلك الشريعة. ولكن حين ينقرض ذلك الرعيل الأول، يبدأ الجيل اللاحق في الانسلاخ عن أحكامها شيئاً فشيئاً، بل قد تمتد الأيدي إلى تلك الشريعة بالتبديل والتحريف، رغبة في التخفيف من حدتها، والتملص من ثقل أحكامها (33).
جـ قطع الأعذار، وعدم الخلل: كما أرسل الله الرسل لئلا يكون للناس على الله حجة بعد ذلك، فكذلك هنا شرع الله الأحكام سهلة ميسرة، لئلا يكون لأحد عذر في ترك العمل بمقتضى أحكام الشريعة.
قال الشاطبي رحمه الله: ((وأما الثاني فإن المكلف بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها، ولا محيص له عنها، يقوم فيها بحق ربه تعالى، فإذا أوغل في عمل شاق فربما قطعه عن غيره، ولا سيما حقوق الغير التي تتعلق به، فتكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعاً عما كلفه الله به، فيقصر فيه فيكون بذلك ملوماً غير معذور،إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها، ولا بحال من أحواله فيها…… فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل، وأنه يسبب تعطيل الوظائف، كما أنه يسبب الكسل، والترك، ويبغض العبادة فإذا وجدت العلة، أو كانت متوقعة نُهي عن ذلك))(34).
6- الأهداف الفكرية:
لما كان التيسير من القواعد الأساسية التي قام عليها التشريع الإسلامي كان معنى ذلك أن التشريع الإسلامي قائم على مراعاة قدرة المكلف وحاجته، ولا شك أن حاجات المكلفين تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، فهل معنى ذلك أن التشريعات الإسلامية تتغير تبعاً لتغير الحاجات؟ الجواب على ذلك بالنفي إن الذي يتغير إنما هو التطبيق لهذا التشريع، إن التشريع الإسلامي حقيقة واحدة، ولكن لها صور متعددة الأشكال، ولذلك نجد في غير العبادات قلة في التفصيلات، وإنما وضعت أصولاً عامة، وقواعد شاملة، تصدق على فروع كثيرة، وهذه الفروع هي التي تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة, أما الأصول فثابتة لا تتغير إلا أن اتفاق الناس في كل شيء أمر دونه خرط القتاد، ذلك أن حكمة الله تعالى اقتضت تفاوت الناس في الفهوم والمدارك والقدرات، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) 165} (35)وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ){48} (36)
وما دام الأمر كذلك، فليس من المعقول أن يطلب الناس جميعهم العلم، كما أنه لا يعقل أن يتساوى العلماء منهم في التحصيل وفي الإدراك؛ ولذلك أوجب الله طلب العلم والفقه على المسلمين وجوباً كفائياً، ليقوموا بمهمة التبليغ، ونشر العلم بين الناس، وتبيينه لهم، قال تعالى:
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ {122}(37)
فلا يتصور أن جميع الخلق سيتركون أعمالهم وحاجتهم الدنيوية اللازمة لقيام حياتهم، ويتفرغون للعلم ثم للاجتهاد، ولو حصل ذلك لتعطلت المنافع، وصارت الحياة إلىطريق الزوال، وهذا هدف فكري جلي.
ثمة هدف آخر، أن الأئمة الجهابذة الذين نذروا أنفسهم في خدمة الأمة بتعلم العلم، وتولي الإفتاء والقضاء، ولم يألوا جهداً في إمعان النظر، والتوصل إلى كل ما فيه صلاح الأمة في العاجل والآجل، كان هدفهم المنشود هو الحق، وتبليغ الناس رسالة الإسلام، فكان من الطبعي أن يقع بينهم اختلاف في الاستنتاج والاستنباط من نصوص الكتاب والسنة، وما دام هذا الاختلاف مضبوطاً بالضوابط الشرعية من الاجتهاد وصدق النية والتجرد، فهو من التوسعة على الأمـة، ومن ذلك إقـرار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الذين اختلفوا في فهم قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، فادرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلى حتى نأتيهم وقال بعضهم: بل نصلي،لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم))(38).
كما أن من أهداف اليسر الفكرية: ما يظهر من سهولة فهم الشريعة لكل مسلم استوفى شروط الفهم، ((إن الناظر في نصوص الشريعة الإسلامية يجدها تتسم بالجزالة في اللفظ، والدقة في التعبير، والوضوح في الفكرة واليسر في فهم المعنى، فلا تعقيد في ألفاظها، ولا إيهام فيما ترمي إليه من مقاصد)) (39).