بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله تعالى الحبيب محمد صلى الله عليه واّله وسلم
ـــــــــــــــــــــــ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾( 1).
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(2 ).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾(3 ).
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
إن الله سبحانه وتعالى جعل مدار شريعة الإسلام على: تزكية النفوس، وتطهيرها، وإصلاح الأخلاق، وتنقيتها، ولهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق»( 4). فكأنّ النبي صلى الله عليه وسلم حَصَر بعثته على تقويم الأخلاق، وإتمام مكارمها، ولذلك فإن المتأمل في أركان الإسلام يجد أنها جميعًا تدعو إلى تقويم الأخلاق، وتهذيب الطِّباع، واستقامة السلوك.
فكأن مكارم الأخلاق بناء شيده الأنبياء، وُبعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتم هذا البناء. فيكتمل صرح مكارم الأخلاق ببعثته صلى الله عليه وسلم، ولأن الدين بغير خلق ومنظمة آداب كمحكمة بغير قاضٍ، وكذا فإن الأخلاق والآداب بغير دين عبثٌ، والمتأمل في حال الأمة اليوم يجد أن أزمتها أزمة أخلاقية، لذلك نتناول في هذه السلسلة بعض المفاهيم الأخلاقية، وبعض محاسن الأخلاق والآداب التي يجب على المسلم أن يتحلى بها، ومساوئ الأخلاق التي يجب على المسلم أن يتخلى عنها.
حث الإسلام على مراعاة الآداب:
العبادات طريق لإصلاح الأخلاق وغرس الآداب السامية:
فالصلاة: تُبعِد المسلم عن الرذائل، وتطهّره من سوء القول والعمل، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾( 5).
والزكاة: ليست ضريبة تُدفَع أو مالاً يُبذَل مجردة عن المعاني والحكم، إنما هي لتطهير النفس وتزكيتها، قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾( 6).
والصوم: ليس حرمانًا من الطعام والشراب والنكاح، بل هو خطوة إلى كفّ النفس عن شهواتها المحظورة ونَزَوَاتها المنكورة، قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» ( 7).
والحج: ليس رحلة خالية من المعاني الأخلاقية، إنما هو سبيل إلى إبعاد النفس عن سَفَاسِف الأمور، قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾(8 ).
فهذه أركان الإسلام العظيمة وعباداته الجليلة، ليست طقوسًا مُبْهَمَة، ولا أعمالاً مجردة لا معنى لها، بل هي في مجملها لها صِلات وثيقة تعمل في نَسَقٍ واحد يكمل به بناء الأخلاق الشامخ، إنها عبادات مختلفة في مظهرها، ولكنها جميعًا تلتقي عند الغاية التي بُعِث محمد صلى الله عليه وسلم من أجلها: «إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق» ( 9).
تهذيب الأخلاق ومراعاة الآداب هو أساس الدعوة الإسلامية:
بُعِث نبينا ليصدّق ما يدعو إليه بعمله، فكانت أخلاقه عنوانًا لدعوته وبرهانًا على نبوته وتبيانًا لصدق رسالته، ولهذا أثنى الله عليه بثناء يتردّد في سمع الوجود، ويتلوه الملأ الأعلى والمؤمنون، ولا تُنْسِيه سَرْمَدِيّة الزمان، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾( 10).
وجاء في صحيح مسلم رحمه الله أن سعد بن هشام سأل أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خُلق النبي فقالت: «أليس تقرأ القرآن؟!» قال: بلى، قالت: «فإن خلق نبي الله كان القرآن»( 11).
قال ابن كثير رحمه الله: «صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سَجِيّة له وخُلُقًا تطبّعه، وترك طبعه الجِبِلّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه»( 12).
فكان صلى الله عليه وسلم عظيمَ الخلق بعد بعثته وقبل البعثة، فالمشركون لم يجدوا منه إلا أفضل الأخلاق، حتى لقبوه بالصادق الأمين، ولما فاجأه الوحي قال لزوجه خديجة رضي الله عنها: «لقد خشيت على نفسي»، قالت: كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ( 13)، وتُقْرِي الضيف( 14)، وتعين على نوائب( 15) الدهر( 16). ما ذكرته خديجة رضي الله عنها مآثر حسنة، وأخلاق كريمة، ومعاملات سامية، تدفع الأذى عن صاحبها بإذن الله سبحانه وتعالى.
فإنّ ثمّةَ تلازمًا بل تلاحُمًا بين السّلوك والاعتقاد والإيمَان والأخلاق، فالسّلوك الظّاهر مرتبطٌ بالاعتقاد الباطِن، ومن ثَمَّ فإنّ الانحرافَ الواقعَ في السّلوك والأخلاق ناشئٌ عن نقصٍ وخلل في الإيمان والباطن. يقرّر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله حين يقول: «إذا نقصَت الأعمال الظاهرةُ والباطنة كان ذلك لنقصِ ما في القلب من الإيمان، فلا يُتصوَّر مع كمال الإيمانِ الواجبِ الذي في القلب أن تعدَم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجودِ هذا كاملاً وجودُ هذا كاملاً، كما يلزم من نقصِ هذا نقصُ هذا»( 17). كما يقول رحمه الله: «فما يظهَر على البدنِ من الأقوالِ والأعمالِ هو موجَب ما في القلبِ ولازمُه»(18). ويقول الشاطبي رحمه الله: «الأعمال الظاهرةُ في الشّرع دليل على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرِمًا حُكِم على الباطن بذلك، أو مستقيمًا حُكم على الباطنِ بذلك أيضًا»( 19).
بالأدب الحسن وحسن الخلق تزداد منزلة العبد عند ربه عز و جل:
إن المتأمل في أحاديث الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يجد أنها رفعت من منزلة الأخلاق الفاضلة وأصحابها، وجعلتها ميدان سَبْق ليتنافس فيه المتنافسون، قال صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا، وخياركم خياركم لنسائهم»( 20). وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم – ضامن – ببيت في رَبَض الجنة – أدناها – لمن ترك الجدال ولو كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه»( 21).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا»( 22). وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإنّ الله ليبغض الفاحش البذيء»( 23). وبيّن النبي أنّ صاحب الأخلاق الحسنة يدرك مقام العابد الزاهد، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم»(24 ).
تعريف الآداب:
وللآداب تعريفات عدة في اللغة والاصطلاح، نذكر منها ما يهمنا في هذا الكتاب، وهي كالتالي:
الفعل المستحسن:
قال صاحب آداب الصحبة: الهمزة والدال والباء أصل واحد تتفرع مسائله وترجع إليه، فالأدب أن تجمع الناس على طعامك، وهي المأدُوبة والمأدَبة، والمآدب جمع مأدبة، ومن هذا القياس الأدب لأنه مجمع على استحسانه.
التعلم والسلوك الحسن:
فالأدب الذي يتأدب به الأديب من الناس، سُمِّي أدبًا لأنه يأدب الناس الذين يتعلمون على المحامد، وينهاهم عن المقابح، ويأدبهم: أي يدعوه، وأصل الأدب: الدعاء. وأدبه فتأدب: علمه لذلك يقال: هذا ما أدب الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم. ولكل وجهة أدب ( 25).
ويشرح العلامة المناوي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدبني ربي فأحسن تأديبي» فيقول الأدب هو ما يحصل للنفس من الأخلاق الحسن والعلوم المكتسبة ( 26).
الفعل يليق بالشخص:
ومن معانيها أنها تطلق على ما يليق بالشيء أو الشخص، فيقال: آداب الشخص، وآداب القاضي( 27).
المحامد:
ففي شرح النوابغ: هو ما يؤدي بالناس المحامد، وكل الآداب متلقيات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه مجمعها ظاهرا أو باطنا، ثم قال: والأدب استعمال ما يحمد قولاً، وفعلاً( 28).
وفي فتح القدير: الأدب: الخصال الحميدة، والمراد بالأدب في قول الفقهاء كتاب أدب القاضي أي ما ينبغي للقاضي أن يفعله لا ما عليه ( 29).
الآداب في مصطلح الفقهاء:
1- المستحبات لا يسيء تاركها:
يقسم الفقهاء على ما وراء الفرائض والواجبات، سنن تاركها مسيء، وآداب تاركها غير مسيء ( 30).
2-المستحبات يسيء تاركها:
فقد يطلقونه على السنة في جامع الرموز في بيان العمرة، وما سوى ذلك سنن وآداب تاركها مسيء ( 31).وحكي أن حاتم الأصم قدم رجله اليسرى عند دخوله المسجد، فتغير لونه، وخرج مذعورًا، وقدم رجله اليمنى. فقيل: ما ذلك؟ فقال: لو تركت أدبًا من آداب الدين، خفت أن يسلبني الله جميع ما أعطاني.
3-مايفعله الشارع مرة ويتركه مرة:
ففي البزازية في كتاب الصلاة في الفصل الثاني أن: الأدب ما فعله الشارع مرة وتركه أخرى، والسنة ما واظب عليه الشارع، والواجب ما شرع لإكمال الفرض والسنة ولإكمال الواجب والأدب لإكمال السنة ( 32).
4- الورع:
فالأدب عند بعض أهل الشرع الورع، وعند أهل الحكمة صيانة النفس.
كما قال حكيم: الأدب مجالسة الخلق على بساط الصدق ومطابقة الحقائق.
5- ما يوقي من الخطأ:
كما قال أهل التحقيق: الأدب الخروج من صدق الاختيار والتفرغ على يسار الافتقار، وكذا في خلاصة السلوك في تعريفات الجرجانى أن: الأدب عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ، وأدب القاضي وهو التزامه لما ندب إليها الشرع من بسط العدل، ورفع الظلم، وترك الميل ( 33).
6- الفعل المستحب عن ذوي الألباب:
قال المرصفي: اعلم أن الأدب معرفة الأحوال التي يكون الإنسان المتخلق بها محبوبًا عند أولي الألباب، الذين هم أمناء الله على أهل أرضه، من القول في موضعه المناسب له، فإن لكل قول موضعًا يخصه، بحيث يكون وضع غيره فيه خروجًا عن الأدب. كما قال جرْوَل الشاعر المشهور بالحُطّيِّئة: فإن لكل مقام مقالاً، ومن الصمت وهو السكوت المقصود في موضعه، فإن للصمت موضعًا، يكون القول فيه خلاف الأدب. يرشد على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله امرءا قال خيرًا فغنم، أو سكت فسلم»( 34).
والكلام المنبه على مواضع الأقوال، وعلى مواضع الصمت كثير. ومن الأحوال التي يكون التخلق بها أدبًا، وضع الأفعال في مواضعها، كما قال الله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾( 35). فنبه سبحانه على أن المطلوب العفو المصلح دون المفسد.
أهمية دراسة الآداب الشرعية وفضلها:
عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (36 ). ولكن هذا الأمر ليس مطلقًا على كل العلوم الشرعية، فليس الفرض هو أن تكون كل الأمة علماء في الدين، ولكن هناك من العلم ما هو فرض عين على كل مسلم، حتى يقيم به حياته مثل العلم بكيفية الوضوء والصلاة، وهكذا. وهناك من العلوم ما هو فرض كفاية، مثل علم المواريث، وحفظ كتاب الله، وكثير من العلوم الشرعية، إذا قام بها جزء من المسلمين سقطت عن الباقي، فالعلم المفروض تعلمه على كل المسلمين هو الذي يقيم به المسلم حياته دون الوقوع في خطأ شرعي عن جهل.
فكل مسلم يصلي، وعليه تعلم الطهارة والصلاة، وكذلك في الصيام، وإذا تيسر له الحج والعمرة عليه التفقه في أركان الحج، بل وفي آداب السفر، وكذلك على المقبل الزواج أن يتعلم فقه النكاح، وهكذا.
وهنا تظهر لنا أهمية تعلم مادة الآداب الشرعية، لأنها تملأ حياتنا اليومية، فمن منا لا يتكلم، حتى يستغني عن آداب الكلام؟ ومن منا لا يحاور فيستغني عن آداب الحوار في السنة؟ ومن منا لا يأكل كل يوم أكثر من مرة؟ فلا بد لنا من تعلم آداب الطعام والشراب، ومن منا لا يمزح سواء مع أصدقائه أو أهله؟ فلا بد أن نعرف كيف يكون المزاح دون الوقوع في المعصية.
ومن منا لا يلبس، أو ينام، أو يتثائب، أو يتجشأ، أو يعطس كل يوم؟ فكل هذا من معلومات الآداب الشرعية، فبها نتعرف كيف نفعل كل هذه الأمور اليومية، دون أن نقع أثناء فعلها في مخالفة شرعية.
وكذلك آداب إكرام الضيف، وآداب المسجد، وآداب طلب العلم، وآداب الزيارة، والاستئذان، والمعاشرة الزوجية، وبر الوالدين، وصلة الرحم.
والآداب على هذا المعنى منها ما هو مستحب أو مكروه، ومنها ما هو واجبٌ أو محرَّم، ومنها ما هو مُباح. ولذلك اعتنى الإسلام بهذا الجانب وصنّف أهل العلم كثيرًا من الكتب والمصنفات، وفي كتب السنة والحديث كتب وأبواب للأدب بل وقد أفرد البخاري رحمه الله كتابًا في الأدب سماه (الأدب المفرد) جمع فيه الأحاديث والآثار المتعلقة بالأدب.
طريق اكتساب الأدب:
بعد أن علمنا حاجتنا إلى الأدب وأهميته وفضله وأنواعه، فكيف السبيل إلى اكتسابه والتخلق به في مجتمعات المسلمين وفي أفرادهم ؟
1- تربية الأولاد على الأدب منذ الصغر:
وهذا واجب الوالدين والأساتذة في البيت والمدرسة، قال عبد الملك بن مروان رحمه الله لمؤدب ولده (علمه الصدق كما تعلمه القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم فإنهم أحسن الناس ورعا وأحسنهم أدبا، واضربهم على الكذب وجنبهم شتم أعراض الرجال، واحملهم على صلة الأرحام، واعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب)(37 ).
قد ينفعُ الأدبُ الأحداثَ في صغرٍ إن الغصونَ إذا قومتها اعتدلت
ولـيس ينفع عند الشيبةِ الأدبُ ولا يلين إذا قومته الخشـب
قال مالك رحمه الله: «كانت أمي تعّممني، وتقول لي: اذهب إلى ربيعة، فتعلم منه آدابه قبل علمه» ( 38).
2- النظر في قصص القرآن وكتب الحديث والسيرة:
لمعرفة هدي وآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والالتزام بمجالس ودروس أهل الحديث لأنهم، أعلم الناس بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك النظر في ميراث أسلافنا من الصحابة والتابعين والأئمة المشهورين بالأدب والورع والدين رضي الله عنهم، ومن أهم الكتب في سيرهم كتاب «سير أعلام النبلاء» للإمام الذهبي رحمه الله.
3- تعليم الناس وتذكيرهم دوما بأهمية الأدب في حياتهم:
ووبيان خطورة تركه وإهماله، ويتحقق ذلك بإقامة الدروس والمحاضرات والخطب في ذكر الآداب الشرعية بالأدلة الصحيحة.
4- مجاهدة النفس وتربيتها على الآداب الشرعية:
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطه، ومن يتق الشر يُوقّه» ( 39).قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: «فمن أراد مثلا أن يُحصِّل لنفسه خُلُق الجود فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجود وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه به، ويواظب عليه تكلفا مجاهدا نفسه حتى يصير ذلك طبعا ويتيسر عليه فيصير به جوادا … وجميع الأخلاق المحمودة شرعا تحصل بهذا الطريق»( 40).
فإذا سلك المؤمن طرق اكتساب الأدب مع الإخلاص وفقه الله تعالى.
مراتب الأدب:
تتفاوت مراتب الأدب بحسب المتأدَّب معه، فليس الأدب مع الله كالأدب مع أنبيائه، وليس الأدب مع رسول الله، كالأدب مع سائر الناس، وليس للتعامل مع الناس أدب واحد، بل للوالدين أدب خاص، وللعلماء والكبار أدبٌ خاص، وهكذا.
وكذلك للتعامل مع النفس آداب، فمراتب الأدب أربعة هي:
أ- الأدب مع الله.
ب- الأدب مع رسول الله.
ج- الأدب مع الناس.
د- الأدب مع النفس.
أولا: الأدب مع الله عز و جل:
فهو رأس الأمر وعموده، وأهم ما يقدمه العبد في دنياه. قال ابن القيم رحمه الله: «الأدب مع الله ثلاثة أنواع:
أحدها: صيانةُ معاملته أن يشوبها بنقيصةٍ
الثاني: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره
الثالث: صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه».
ثم قال: «ومن الأدب مع الله عدم رفع البصر إلى السماء في الصلاة للنهي عن ذلك، ومن الأدب مع الله: أن لا يستقبل بيته، ولا يستدبره عند قضاء الحاجة في الفضاء والبنيان، ومن الأدب مع الله: السكون في الصلاة، وعدم الالتفات فيها، والاستماع للقراءة في الصلاة، والمقصود أن الأدب مع الله تبارك وتعالى هو القيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهرًا وباطنًا، ولا يستقيم لأحدٍ قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه وما يُحب وما يكره، ونفسٌ مستعدة قابلة متهيئة لقبول الحق علمًا وعملاً» ( 41).
ثانيا: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال ابن القيم رحمه الله: «وأما الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فالقرآن مملوء به، فرأس الأدب معه كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبرَه بالقبول والتصديق دون معارضته بالعقل أو الشك، أو يقدم عليه آراء الرجال، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما وحَّد اللهَ تعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف، حتى يأمر هو، وينهى، ويأذن كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾( 42).
ومن الأدب معه أن لا تُرفع الأصوات فوق صوته فما الظن برفع الآراء على سُنَّته!! ومن الأدب أن لا يُعارض نصه بقياس، ولا يُحرف كلامه عن حقيقته، ولا يوقَفُ قَبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم وهو عين الجرأة … »( 43).
ثالثا: الأدب مع الخلق:
فلا بد من أن يعامل كل واحد بما يليق به، ومن خلق الله الملائكة، وعلى المسلم أن يتأدب معهم، ومن الأدب مع الملائكة محبتهم وموالاتهم، ومن الأدب مع الملائكة: البعد عن الذنوب والمعاصي والروائح الكريهة، لأنها تتأذى مما يتأذى منه ابن آدم، ومن الأدب معهم الامتناع عن كل ما يمنع قرب الملائكة أو دخولهم بيوتنا أو حضورهم مجالسنا، مثل الصورة والتمثال والكلب والجرس، وكذلك لا تقرب الملائكة سكرانا أو جنبا إلا أن يتوضأ، ومتشبها بالنساء وغيرهم.
كذلك لابد أن يعامَل الناس كل واحد بما يليق به، فهناك آداب التعامل مع الوالدين، وآداب مع الأرحام، وآداب مع الجار المسلم، وآداب مع العلماء، وآداب مع ولاة الأمر، وآداب مع الضيف، وآداب مع الأولاد، وآداب بين الزوجين، وآداب مع عامة المسلمين، وآداب مع المخالفين من أهل البدع والفاسقين، وكذلك آداب مع غير المسلمين.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «أما الأدب مع الخلق فهو معاملتهم بما يليق بهم على اختلاف مراتبهم، فلكل مرتبة أدب، والمراتب فيها آداب خاصة، فمع الوالدين أدب خاص، وللأب منهما أدب هو أخص به، ومع العالم أدب آخر، ومع السلطان أدب يليق به، ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهله، ولكل حالٍ أدب: فللأكل آداب…»، ثم قال: «وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبَواره …»، ثم قال: «ومن حقوق الخلق أن لا يفرِّط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها بحيث يشتغل بها عن حقوق الله أو عن تكميلها، أو عن مصلحة دينه و قلبه …»(44 ).
رابعا: الأدب مع النفس:
وأدب الإنسان مع نفسه متنوع متفاوت كذلك، فمن الأدب مع النفس السعي إلى تزكيتها وإصلاحها ومحاسبتها وتدريبها على الطاعات والأخلاق، ومن الأدب مع النفس حثها على التوبة والإنابة والخشية وغيرها، وكذلك من الأدب مع النفس تدريبها وإلزامها على الآداب الشرعية.