بعد فترة من بعثة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون بأمَسِّ الحاجة للقتال في سبيل دفع الأذى والشر الذي كان يترصَّد بهم وفي سبيل نشر الدين الإسلامي الذي حُوربوا من أجله، فرض الله على المسلمين الجهاد فكان لا بدَّ من استخدام حدِّ السيف ورشْقِ النُبُل في سبيل إعلاء كلمة التوحيد، فخاض المسلمون عددًا من الغزوات القاسية وانتصروا وهُزموا وتعلَّموا من أخطائهم، ومن أبرز غزوات المسلمين غزوة بدر وأحد والخندق وغيرها، وفيما يأتي بحث تفصيلي عن غزوة حنين التي خاضها المسلمون ضد بعض قبائل العرب. بحث عن غزوة حنين بعد أن انتهى المسلمون من فتح مكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة، الفتح الذي قال عنه ابن القيم: "الفتح الأعظم الذي أعزَّ الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجًا"، اتخذا بعض القبائل العربية موقفًا معاديًا للمسلمين، خاصة القبائل القريبة من مكة المكرمة التي أصبحت بيد المسلمين بقيادة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مثل قبيلة هوازن وثقيف، اجتمع قادات هذه القبائل وأوكلوا قيادة أمرهم لسيِّد هوازن وهو مالك بن عوف، واتفقوا على قتال المسلمين خوفًا من ازدياد قوتهم وتحولهم إلى خطر قريب يهدد هذه القبائل.[١] علم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في غزوة حنين بأمر هوازن وثقيف فقرر الخروج من مكة لملاقاة هوازن وثقيف قبل وصولهم إلى مكة، فخرج من مكة بكامل قوته العسكرية، وبجيشٍ قوامه عشرة آلاف مقاتل، فأعداد المشركين في هذه المعركة كانت كبيرة، كما عمل على أن يأخذ معه المسلمين الذين أسلموا يوم فتح مكة خوفًا من أن يرتدوا عن الإسلام ويعلنوا انفصال مكة عن الدولة الإسلامية في حال تعرَّض المسلمون لهزيمة في حربهم ضد هوازن وثقيف، ثمَّ سعى لتدعيم الجيش الإسلامي بالمزيد من السلاح، ثمَّ خرج وأمر بحراسة الجيش الخارج ليلًا خوفًا من الهجمات المباغتة، وبعد تجهيزات وتأمينات نبوية مباركة، خرج رسول الله بالجيش الذي بلغ قرابة اثني عشر ألفًا أغلبهم من المسلمين الذي أسلموا في فتح مكة، بينما كان جيش هوازن يقارب الثلاثين ألفًا تحت قيادة مالك بن عوف، وقد أمر مالك بن عوف رجاله أن يخرجوا بأهلهم ونسائهم وأطفالهم حتَّى لا ينهزموا ويفرُّوا أثناء القتال، ثمّ أشار على مالك رجل اسمه دريد بن الصمه وهو من المعمرين أصحاب الخبرة العسكرية، أشار على مالك أن يكمن للمسلمين في وادي حُنين بين الأشجار، حتَّى إذا ظهر جيش المسلمين حاصرهم جيش هوازن.[٢] بعد أن وصل جيش المسلمين في غزوة حنين إلى وادي حنين الذي نصبت فيه هوازن كمينًا للمسلمين، رأى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- الوادي والأشجار الكثيفة، فأمر رسول الله الصحابي أنس بن أبي مرثد أن يصعد مرتفعًا من الأرض ويراقب الأشجار في الوادي ليلًا ونهارًا خوفًا من كمائن هوازن، وبعد أن راقب ولم يرَ شيئًا، أمر رسول الله كتائب المسلمين بالدخول إلى الوادي وكانت أول كتيبة بقيادة خالد بن الوليد والثانية بقيادة الزبير بن العوام والثالثة بقيادة علي بن أبي طالب، وما أن نزلت كتيبة خالد حتَّى بدأ مقاتلو هوازن بالخروج من بين الأشجار، فبدأ عدد من المسلمين بالهرب راجعين إلى مكة وهم لا يجرؤون على النظر خلفهم من شدة المعركة، فأصبح رسول الله ينادي على الناس الفارين، وهو يقول: "أنا النبيُّ لا كَذِبْ، أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ"[٣]، فبدأ المسلمون يرجعون ويتجمعون حول رسول الله من جديد، وبعد معركة قاسية جدًا أيَّد الله عباده المؤمنين بجنودٍ من الملائكة حتَّى أتمَّ الله نصره، وانتصر المسلمون في غزوة حنين بإذن الله لا بكثرة الجيش ولا العتاد، فما النصر إلَّا من عند الله، وقد جاء ذكر غزوة حنين في القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة التوبة: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}[٤]، وبعد أن تحقق النصر هربت جموع هوازن وتركت وراءها غنيمة كبيرة للمسلمين، وزعها رسول الله على الناس بحكمة بالغة.[٥] وبعد فرار جنود هوازن وثقيف ومن والاهم، أمر رسول الله فرقتين من المسلمين باللحاق بفلول هوازن وثقيف حتَّى يأمن عدم قيام هوازن بهجوم عكسي على المسلمين، وبعد أن علم أن فلول القبائل احتمت بالطائف حرَّك جموع المسلمين إلى الطائف حيث تحصَّنت جيوش ثقيف ورجالها، وحيث لجأ مالك بن عوف ومن معه من المهزومين في غزوة حنين، وهناك كان حصار الطائف الذي استمر مدة طويلة من الزمن قبل أن يقرر رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- رفع الحصار عن الطائف والعودة إلى مكة المكرمة، وفي الختام يمكن استنتاج وتلخيص درس ديني عقائديٍّ مهم، وهو أنَّه ينبغي على كلّ مسلم أن يعرف ويؤمن بأن النصر في الحرب لا يكون بالعدد والعتاد فقط، بل يكون بالإيمان والعزيمة وإخلاص نية الجهاد في سبيل الله، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله تعالى، قال تعالى في محكم التنزيل: {... قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[٦]، والله تعالى أعلم