صوره بلاغية نبوية
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله ! أيكون بعد هذا الخير شر ، كما كان قبله شر ؟ قال : " نعم " ، قلت : فما العصمة ؟ قال : " السيف " ، قلت : وهل بعد السيف بقية ؟ قال " نعم " تكون إمارة أقذاء ، وهدنة على دخن " . قلت : ثم ماذا ؟ قال : " ثم ينشأ دعاة الضلال ، فإن كان لله في الأرض خليفة جلد ظهرك ، وأخذ مالك ، فأطعه ، وإلا فمت وأنت عاض على جذل شجرة " ، قلت : ثم ماذا ؟ قال : " ثم يخرج الدجال بعد ذلك ، معه نهر ونار ، فمن وقع في ناره ، وجب أجره ، وحط وزره ، ومن وقع في نهره ، وجب وزره ، وحط أجره " . قال : قلت : ثم ماذا ؟ قال : ثم ينتج المهر فلا يركب حتى تقوم الساعة " ، وفي رواية : قال : " هدنة على دخن ، وجماعة على أقذاء " ، قلت : يا رسول الله ! الهدنة على الدخن ما هي ؟ قال : " لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه " ، قلت : بعد هذا الخير شر ؟ قال : " فتنة عمياء صماء ، عليها دعاة على أبواب النار ، فإن مت يا حذيفة ! وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم " . رواه أبو داود .
(( هدنة على دخن ))
هذا من حديث الفتنة ، والهدنة : الصلح والموادعة , والدخن : تغيّر الطعام إذا أصابه الدخان في حال طبخه فأفسد طعمه.
وهذه العبارة لا يعدلها كلام في معناها ، فإن فيها لوناً من التصوير البياني لو أذيبت له اللغة كلها ماوفت به،وذلك أن الصلح إنما يكون موادعةً وليناً ، وانصرافاً عن الحرب ، وكفاً عن الأذى ، وهذه كلها من عواطف القلوب الرحيمة فإذا بني الصلح على فسادٍ، وكان لعلةٍ من العلل ، غلب ذلك على القلوب فأفسدها ، حتى لايسترح غيره من أفعالها ، كما يغلب الدخن على الطعام ، فلا يجد آكله إلا رائحة هذا الدخان ، والطعام من بعد ذلك مشوب مفسد. فهذا بي تصوير معنى الفساد الذي تنطوي عليه القلوب الواغرة ، وثم لونٌ آخر في صفة هذا المعنى ، وهو اللون المظلم الذي تنصبغ به النية " السوداء " وقد أظهرته في تصوير الكلام لفظة " الدخن "
ثم معنى ثالث ، وهو النكتة التي من أجلها اختيرت هذه اللفظة بعينها ، وكانت سر البيان في العبارة كلها،وبها فضلت كل عبارة تكون في هذا المعنى وذلك أن الصلح لايكون إلا أن تطفأ الحرب. فهذه الحرب قد طفئت نارها بما سوف يكون فيها نار أخرى . كما يلقى الحطب الرطب على النار تخبو به قليلاً ، ثم يستوقد فيستعر فإذا هي نار تلظى،وما كان فوقه الدخان فإن النار ولا جرم من تحته , وهذا كله تصوير لدقائق المعنى كما ترى ، حتى ليس في الهدنة التي تلك صفتها معنى من المعاني يمكن أن يتصور في العقل إلا وجدت اللون البياني يصوره في تلك اللفظة لفظة" الدخن. "
المرجع :
كتاب " إعجاز القرآن والبلاغة النبوية " لـ مصطفى صادق الرافعي