الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين النبي الرحيم ذي الخلق العظيم والقلب السليم، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فإن نبينا صلى الله عليه وسلم كان من أرق الناس قلبا، ومن أسرعهم دمعة، ومن أعظمهم خوفا لله تبارك وتعالى، ورحمة لأمته جميعا،، وله صلى الله عليه وسلم مع نفسه ومع أصحابه الكرام مواقف سطرها التاريخ وحفظتها لنا كتب السيرة تبين ما كان عليه من رقة القلب وخشوعه، وأثر ذلك على جوارحه عليه الصلاة والسلام.
ففي موقف من مواقف حياته الشريفة تذرف عينا النبي صلى الله عليه وسلم أمام أصحابه الكرام فيرون في ذلك أمرا مستغربا فيوضح لهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر على حقيقته، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال:
كان ابن لبعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم يقضي –أي في سكرات الموت- فأرسلت إليه أن يأتيها فأرسل: (إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل إلى أجل مسمى فلتصبر ولتحتسب) فأرسلت إليه فأقسمت عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت معه ومعاذ بن جبل وأُبي بن كعب وعبادة بن الصامت، فلما دخلنا ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تقلقل في صدره حسبته قال كأنها شَنَّة، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد بن عبادة أتبكي! فقال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء).1
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود فلما دخل عليه وجده في غشية فقال: (أقد قضى؟)- أي هل مات- قالوا: لا يا رسول الله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا فقال: (ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا) وأشار إلى لسانه (أو يرحم).2
وعن إبراهيم النخعي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: (اقرأ علي) قال أقرأ عليك وعليك أنزل! قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري) قال: فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا} (41) سورة النساء، فبكى.3
وفي رواية الطبراني أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى على هذه الآية: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا"، قال: فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في الحديث: (من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد).4
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: (استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت).5
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني..} الآية، وقال عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فرفع يديه وقال: (اللهم أُمَّتي أمتي) وبكى، فقال الله عز وجل: (يا جبريل اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله ما يبكيك)، فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله: (يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).6
فهذا هو نبي الرحمة ونبي العالمين، الذي رق قلبه ودمعت عينه واستقامت أخلاقه فلم يبلغها بشر، فهو جدير صلى الله عليه وسلم أن يكون سيد ولد آدم، وهو جدير صلى الله عليه وسلم بأن يكون له المقام المحمود والحوض المورود، والشفاعة العظمى يوم القيامة.
والذي ينبغي لكل مسلم أن يقتدي به في ذلك حتى يكون من المقربين إليه في جنات النعيم، ومن رفقاء سيد المرسلين صلوات ربي وسلامه عليه سلاما كثيرا دائما إلى يوم الدين..
.............................................
1 رواه البخاري.
2 رواه مسلم.
3 رواه مسلم.
4رواه الطبراني (8382).
5 رواه مسلم.
6 رواه مسلم.