فِتْنةُ الابْتِلاء
ما على وجهِ الأرض بَشرٌ يَنجو من البلاء ويُعْصَم من الابتلاء ولو كان من الرّسل الأَصفياء، ومن أولي العَزم من الأنبياء.. فالدنيا دارُ عملٍ ليست بدار حساب، ودارُ امتحانٍ ليست بدارِ جَزاء!.
إنّ من صُنوف البَلاء التي لا ينتهي منها عَجَبُنا ما حَلَّ ببعض الأنبياء والمرسلين، من الآلام والأَسقام، ومن الرَّزايا والبلايا ما وصفوه بقولهم: هذه الدنيا نَصَب فيها آدم، وناحَ فيها نوح، ورُمي في النّار إبراهيمُ الخليل، وأُضْجِعَ للذَّبح إسماعيل، وبيع يوسفُ بثمنٍ بَخْس، ونُشِرَ بالمناشير زكريّا، وذُبح الحَصورُ يحيى، وأُضْنيَ بالبَلاء أيوب، وزادَ على القدَرَ بكاءُ داود، وهامَ مع الوُحوش عيسى، وعانى من الفقر والجوع سيّدُنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فكيف يظنّ الجُهلاء أن البلاء والعذاب في الدار الفانية لا يَهْبط إلا فوق رؤوس العُصاة والمجرمين، والخَطّائين والمُذنبين؟! والله تعالى يقول: {أَمْ حَسِبْتُم أن تَدْخُلوا الجنَّةَ ولمّا يَأْتِكُم مَثَلُ الذين خَلَوْا من قَبْلِكم مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ والضَّراءُ وزُلْزِلوا حتى يقولَ الرسولُ والذين آمنوا معه متى نَصْرُ اللهِ ألَا إنّ نَصْرَ اللهِ قَريبٌ} (البقرة:214).
إن الله عزّ وجل قَضَت سُنَّتُهُ بأَن يَبْتليَ المؤمنَ في دُنياه بما يَسُرُّهُ وما يَسوؤُه، وإن أَشدَ المؤمنين ابتلاءً الأَمثلُ فالأمثل، فَأَهلُ الإيمان يُبْتلون على قدر إيمانهم، وعلى قَدر العزائم والهِمَم تأتي البلايا والمِحَن! فمن يُرِدِ اللهُ به خَيراً يُصِبْ منه، ومن كان في دينه صَلْباً، وفي إيمانه صادقاً اشتدَّ بلاؤُه عن سواه.
لا شكّ بأن الشّدائد تكشفُ معادنَ الناس كما تكشفُ النارُ الذَّهب والماس، فبالبلاءُ يُعْرف الصادقُ من المنافق، والطيِّبُ من الخَبيث، واللهُ سبحانه يقول : {ما كان اللهُ لِيذَرَ المؤمنينَ على ما أنتُم عليه حتى يَميزَ الخبيثَ من الطَّيِّب} (آل عمران:179).
والشاعر يقول:
جَزى اللهُ الشدائدَ كُلَّ خيرٍ * * * وإن كانـــت تُغَصِّصُـــني بريقي
ومــــا شُـــــكري لهــا إلا لأنـــــي * * * عرفتُ بها عَدوّي من صديقي
ومن نِعم الله على العبد المؤمن في بلائه، أن الله تعالى اختاره ليعاقبَه بذنوبه في دنياه، وعذابُ الدنيا مهما عَظُم هو أَهونُ من عذاب الآخرة مهما صَغُر!.
إن من روائع حِكَم الفاروق عمر رضي الله عنه قوله: «ما ابتُليتُ ببَلاء إلا كان لِّله تعالى عليّ فيه أربعُ نِعَم: إذ لم يكُن في ديني، وإذ لم يكن أعظمَ، وإذ لم أُحْرَم الرِّضا به، وإذ أرجو عليه الأجرَ الجزيل والثوابَ العظيم».
إن من غرائب ما تصاب به الدعوة من خطوب وفتن، ما يدل على جهل رجالها بحكم الله في المحن، وبأسرار المعاني والحكم في النوازل والنوائب، فلولا أن الدنيا دار اختبار لما خُلقت الأمراض والأَكدار، ولما ضيَّق الله تعالى العيشَ على الأنبياء الأَطهار، فَمَن منهم خَلت حياته من الأمراض والأَسْقام ومن الخُطوب والكُروب، وإن غَفِلْتَ عن هذه الدلائل فعليك مراجعة ما أصاب محمداً صلى الله عليه وسلم الذي صابرَ الفقر والتعذيب والتكذيب ومرضَ الحبيب.
إن رجالَ الدعوة تراهم يستبشرون بسُنَن الله تعالى عند حُلول النَصر والتمكين، ويرَون في ذلك رضواناً من الله ونَصراً مبيناً، ولا يحسبون أنه قد يكون من الابتلاء والفِتَن! وتراهم يغفلون عن سُنن الله عند حدوث الهزيمة والفشَل، فيرَوْن في ذلك انتقاماً وعقاباً ربانيّاً ولا يحسبون أنه قد يكون من البَلاء والمِحَن! والله تعالى يقول: {أَمْ حَسِبْتُم أن تَدْخُلوا الجنَّةَ ولمّا يَأْتِكُم مَثَلُ الذين خَلَوْا من قَبْلِكم مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ والضَّراءُ وزُلْزِلوا حتى يقولَ الرسولُ والذين آمنوا معه متى نَصْرُ اللهِ ألَا إنّ نَصْرَ اللهِ قَريبٌ} (البقرة:214).
إن دعاةَ الإسلام لن يَبْلُغوا مستوى الاتّعاظ بما يواجهُهم من نجاح وفشَل، حتى يُدركوا حقائقَ السُّنن في الجماعات والأُمم، في الفتن والمحن!.