مطمَحُ آمال المتقين، وغايةُ مقصِد الأوَّابين، ومُنتهَى أمانِي المُخبِتين: النظرُ إلى وجه الربِّ الكريم في جناتِ الفردوس مُنعَّمين، مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، في نعيمٍ مُقيمٍ هو حُسنُ المآب الذي وعدَ الله به عبادَه في قولِه - عزَّ اسمُه -: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ) [ص: 49- 54].
إنه النعيمُ المُقيمُ الذي أخبرَ عنه الصادقُ المصدوقُ - الذي لا ينطِقُ عن الهوى - بقولِه - صلواتُ الله وسلامُه عليه -: «قال الله - عز وجل -: أعدَدتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذنٌ سمِعَت، ولا خطَرَ على قلبِ بشر، مِصداقُ ذلك في كتاب الله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]» (أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -).
وأخبرَ عنه أيضًا بقولِه في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري والإمام مسلمٌ في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَقابُ قوسِ أحدِكم في الجنة خيرٌ مما طلَعَت عليه الشمسُ أو تغرُب».
وفي "صحيح الإمام البخاري - رحمه الله -" من حديث سهلِ بن سعدٍ الساعدي - رضي الله عنه -، أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «موضِعُ سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها».
وإذا كانت الجنةُ مُفتَّحةَ الأبواب للمتقين إكرامًا من الله -تعالى- ومزيدَ تفضُّلٍ منه وإنعامٍ، وإشارةٍ إلى تصرُّفهم وذهابِهم وإيابِهم، وتبوُّؤهم في الجنة حيث شاؤُوا، ودخول الملائِكة عليهم كل وقتٍ بالتُّحَف والألطافِ من ربِّهم، ودخول ما يسُرُّهم عليهم كل وقتٍ.
وهي إشارةٌ أيضًا إلى أنها دارُ أمنٍ لا يحتاجُون فيها إلى غلقِ الأبواب، كما كانُوا يحتاجُون إلى ذلك في الدنيا؛ فإن من أبلَغِ ضُروبِ الإكرام - يا عباد الله - وأجلِّها: أن يُدعَى المُنعَّمون المُكرَّمون إلى دخول الجنة من أيِّ أبوابِها شاؤُوا.
جاء هذا في بيانِ الجزاء الضافِي والأجر الكريم الذي جعلَه الله لأعمالٍ عمِلُوها، مُخلِصين لله فيها، مُتابِعين مُقتَدين فيها برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي الطَّليعةِ من ذلك: أن يقدَمَ العبدُ على ربِّه يوم القيامة مُوحِّدًا إياه، عابدًا له وحدَه، بصرفِ أنواعِ العبادةِ كلِّها له - سبحانه -؛ من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍّ، وتوبةٍ وإنابةٍ وخضوعٍ وخشوعٍ، وخشيةٍ ورجاءٍِ ومحبَّةٍ وذبحٍ ونذرٍ، واجتنَبَ الشركَ وكل ما حرَّم الله عليه، وفي مُقدِّمة ذلك الدمُ الحرامُ فلم يُصِب منه شيئًا، وسمِعَ وأطاعَ لوليِّ الأمر المُسلم في منشَطِه ومكرَهِه، وعُسرِه ويُسرِه، وأَثَرَةٍ عليه.
فإنه يُثابُ على ذلك بأن يدخُل من أيِّ أبوابِ الجنَّة شاء، كما جاء في الحديث الذي أخرجَه الإمام أحمدُ في "مسنده"، وابن ماجه في "سننه" بإسنادٍ صحيحٍ، عن عُقبة بن عامر الجُهنيِّ - رضي الله عنه -، أنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس من عبدٍ يلقَى اللهَ - عز وجل - لا يُشرِكُ به شيئًا، ولم يتندَّ بدمٍ حرامٍ، إلا دخلَ من أيِّ أبوابِ الجنةِ شاء».
وفي "المسند" للإمام أحمد بسندٍ حسنٍ، عن عُبادة بن الصامِت - رضي الله عنه -، أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عبَدَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا، فأقامَ الصلاة، وآتَى الزكاة، وسمِعَ وأطاع؛ فإن الله تعالى يُدخِلُه من أيِّ أبوابِ الجنة شاء، ولها ثمانيةُ أبواب ..» الحديث.
ومن ذلك: ما جاء في "الصحيحين" من حديث عُبادة بن الصامِت - رضي الله عنه -، أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأن مُحمدًا عبدُه ورسولُه، وأن عيسَى عبدُ الله وابنُ أمَتِه، وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأن الجنة حقٌّ، وأن النارَ حقٌّ؛ أدخلَه الله من أيِّ أبوابِ الجنة الثمانية شاء».
وفيه - كما قال أهلُ العلم بالحديث -: دلالةٌ على فضلِ هذه الشهادة العظيمة؛ وما ذلك إلا لأن هذه الشهادة تقتَضِي قِيامَ الشاهِد بما عليه من الحق، واستقامَتَه على ذلك؛ إذ الشهادةُ الصادقةُ تقتَضِي العملَ بما أوجبَه عليه الله ورسولُه.
فإن نكَصَ على عقِبَيه، وأصرَّ على المعصية، وتجافَى عن الطاعة؛ كان ذلك دليلاً بيِّنًا على خلَلٍ في شهادتِه، ونقصٍ في عهدِه والتِزامِه.
وما جعل الله عليه هذا الثوابَ العظيمَ أيضًا: أن يتوضَّأَ المُسلمُ، فيُحسِنُ وضوءَه باستِيفاءِ أركانِه وواجِباتِه وشُروطِه وسُنَنه وآدابه، ثم يُعقِبُ ذلك بالشهادتَين ويقول: «اللهم اجعَلني من التوابين، واجعَلني من المُتطهِّرين».
فقد أخرج الترمذي في "جامعه" بإسنادٍ صحيحٍ، عن أمير المؤمنين الفاروق عُمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من توضَّأ فأحسنَ الوضوءَ، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه، اللهم اجعَلني من التوابين، واجعَلني من المُتطهِّرين؛ فُتِحَت له ثمانيةُ أبوابِ الجنة يدخُلُ من أيِّها شاء».
ووعدَ الله بهذا الجزاء أيضًا: من تجهَّمَت له الأيام، ونزَلَ به قضاءُ الله تعالى بقبضِ ثلاثةٍ من ولدِه، هم ثمراتُ فؤادِه، وفلَذَاتُ كبدِه، ورياحِينُ حياتِه، لم يبلُغ أحدٌ منهم سنَّ التكليفِ الشرعيِّ، فكان عند الله من المُكرَمين بهذا الإكرام؛ لقاءَ صبره على قدَرِ الله، واحتِسابِه الأجر على مُصابِه، رجاءَ حُسن العاقبة فيه، وجميل الموعودِ عليه الوارِد في الحديث الذي أخرجَه الإمام أحمد في "مسنده"، وابن ماجه في "سننه" بإسنادٍ حسنٍ، عن شُرحبِيل بن شُفعة، أنه قال: لقِيَني عُتبةُ بن عبدٍ السُّلَميُّ، فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من مُسلمٍ يموتُ له ثلاثةٌ من الولَد لم يبلُغُوا الحِنثَ؛ إلا تلقَّوه من أبوابِ الجنةِ الثمانية من أيِّها شاءَ دخل».
وفي "مسند الإمام أحمد" أيضًا، و"سنن النسائي" بإسنادٍ صحيحٍ، عن مُعاوية بن قُرَّة، عن أبيه - رضي الله عنه -، أنه قال: أن رجُلاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابنٌ له، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: «أتُحبُّه؟». فقال: أحبَّك الله كما أحبُّه، فمات - يعني الابن -.ففقَدَه النبي - صلى الله عليه وسلم - - فقَدَ أباه -، فسألَ عنه، فجاء فقال له - صلى الله عليه وسلم -: «أما يسُرُّك ألا تأتِيَ بابًا من أبوابِ الجنةِ إلا وجدتَه عنده يسعَى يفتَحُ لك؟».
وجعل الله للمرأة الصالِحة نصيبًا موفورًا من هذا الموعود؛ جزاء ما استَجابَت لله فأطاعَته، بالمُحافَظة على ما افترَضَه عليها من الصلوات الخمسِ فأحسَنَت أداءَها، وصامَت فريضةَ الله في شهر رمضان، وأدَّت ما لزوجِها من حقوقٍ عليها، فأطاعَته بالمعروف، وحفِظَته في نفسِها ومالِه، فلم تخُنْه فيما ائتَمَنَها عليه، مُبتغِيَةً بذلك وجهَ ربِّها، عامِلةً في كل شأنِها بما يُرضِيه، واستحقَّت عنده - سبحانه - هذا الجزاءَ الذي جاء في الحديث الذي أخرجَه ابن حبَّان في "صحيحه" بسندٍ صحيحٍ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا صلَّت المرأةُ خمسَها، وصامَت شهرَها، وحصَّنَت فرْجَها، وأطاعَت زوجَها؛ قيل لها: ادخُلي الجنةَ من أيِّ أبوابِ الجنة شِئتِ». فلَهنيئًا لها ولهؤلاء العامِلين من قبلِها.
إن مدارَ هذه الأعمال الوارِدة في هذه النصوصِ النبوية الكريمة، إن مدارَها وروحَها وأساسَها طاعةُ الله ورسولِه، فأطيعُوا اللهَ ورسولَه - يا عباد الله -، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسنة نبيه صل الله عليه وسلم .....
الحمد لله رب العالمين ,,,,,,,,