«لا أُعَنَّفُ مَنْ قال شيئاً له وَجْهٌ وإنْ خَالفْنَاهُ»
كلمة قالها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى هي قاعدة في الخلاف، شهدت لها نصوص الشرع بالصحة، وتحلى بها أهل الإنصاف من علماء المسلمين.
إنها كلمة فيصل، لزومها يخرج المسلمين من دائرة الخصام المورِّث للعداوة، الباعث على الشحناء، فما أسعد من لزمها، وما أسعد المسلمين به.
وشرح هذه الكلمة يتلخص فيما يلي:
1- قَلَّ أن تخلو مسائل العلم من خلاف بين العلماء.
2- هذا الخلاف له درجات، فمنه خلاف قوي، ومنه خلاف ضعيف.
3- الخلاف القوي: هو ما كان في المسائل الاجتهادية، أي التي يكون لكل مذهب فيها دليل معتبر. وتحديدها يرجع إلى المجتهدين.
4- المصيب واحد. لكن يجب أن يعلم أن جميع المجتهدين إنما تكلموا بعلم، واتبعوا العلم، إلا أن بعضهم قد يكون عنده علم ليس عند الآخر، إما بأن سمع ما لم يسمع الآخر، وإما بأن فهم ما لم يفهم الآخر.
5- فإذا خالفنا أحدٌ في المسائل الاجتهادية، فإن خلافه سائغ، فلا يجوز تعنيفه، فضلاً عن تضليله.
وبهذه النقاط الخمس يظهر لك عظم تلك الكلمة التي قالها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى .
وبها يظهر أن مذهبه رحمه الله ليس فيه شدة مذمومة، كما قد يتخيله بعض عوام المصريين، وغيرهم، بل مذهبه التيسير الموافق للشريعة.
هذا وقد وقفت على كلام جميل وتفصيل رائق لعالم من علماء المسلمين أتمنى أن يقف عليه ويتأمله طلبة العلم وأهل الحسبة، إذ هو شرح تفصيلي تأصيلي لمدلول كلمة الإمام أحمد السابقة، إنه كلام للعالم الكبير عزالدين بن عبدالسلام في كتابه «شجرة المعارف والأحوال» (ص381)
وهو ختام الكتاب، هذا خلاصته:
أ/ الإنكار متعلق بما أُجمع على إيجابه، أو تحريمه.
ب/ فمن ترك ما اختلف في وجوبه، أو فعل ما اختلف في تحريمه، فلا يخلو من أمرين:
1- إن قلد بعض العلماء في ذلك، فلا إنكار عليه، إلا أن يقلده في مسألة يُنْقَضُ حكمه في مثلها.
2- إن كان جاهلاً، لم ينكر عليه.
ولا بأس بإرشادة إلى الأصلح.
ولماذا لم ينكر عليه؟ لأنه لم يرتكب محرماً، فإنه لا يلزمه تقليد من قال بالتحريم ولا بالإيجاب.
ج/ لا بأس بإرشاد العامي إلى ما هو الأحوط في دينه. ولا بمناظرة المجتهد، ليرجع إلى الدليل الراجح.
د/ اختلاف العلماء رحمة، وعلى هذا فلا يجوز الإنكار إلا لمن عَلِمَ أن الفعل الذي ينهى عنه مجمع على تحريمه، وأن الفعل الذي يأمر به مجمع على إيجابه.
معنى النهي عن الإنكار هنا؟
نعني بالنهي عن الإنكار أن لا ينكره إنكارَ الحرام. فلو أنكر إنكار الإرشاد، أو أمر به أمر النصح والإرشاد ساغ ذلك. انتهى المقصود من كلام العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى.
وهو كلام متين، مبني على نصوص الشرع المطهر، ومقاصده الجليلة، غُضَّ عليه بالنواجذ، وإياك أن تُخْدَع بما خالفه من سنن المتشددين، وطرائق الغالين، فالدين وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والدين براء من التعلق بالأشخاص والمذاهب إلا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم المعظم، وصحابته الكرام. وما زاغ أكثر الخلق إلا يوم أن والوا وعادوا في غير النبي صلى الله عليه وسلم. والله المستعان.