نبذة عن العالم الزاهد الفضيل بن عياض رحمه الله
إن الاطلاع على أخبار السلف الصالح، والغوص في سيرهم لمن أعظم ما تشحذ به النفوس، ويُسمى بها إلى سماء الإيمان، ومراتب الكمال.
الصالحون من سلف هذه الأمة وخلفها ممن سبقونا هم أتقى لله، وهم أشد له خشية، صفت قلوبهم، وشهد لهم عباد الله بالصلاح والتقوى؛ فودعوا الدنيا وهم على خير حال، وعلى خير ما يُثنى به على الرجال.
أولئك الذين هم في المقام الأول أعظم من يُقتدى به؛ لأنهم سلفوا وذهبوا وخُتم لهم بما يظن الناس أنه هو الخير، ((وأنتم شهود الله في الأرض)) [أخرجه البخاري برقم (1367)، ومسلم برقم (949)]، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "استنوا" أي اقتدوا "بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة".
وبمثل هؤلاء الصالحين، وبمثل أخبارهم وسيرهم تحيى القلوب، وترتفع النفوس عن أوضار الدنيا وزخارفها الفتانة، ومن أولئك العلماء العباد الزهاد الذين سارت الركبان بأخبارهم، وخلد التاريخ مواعظهم وقصصهم، وحفظ لنا مناقبهم الإمام القدوة العابد الزاهد عابد الحرمين أبو علي الفضيل بن عياض التميمي اليربوعي المروزي رحمه الله.
قال عنه عبد الله بن المبارك - وهو أمير المؤمنين في الحديث - قال: "ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل بن عياض" [حسن السمت في الصمت للسيوطي ص (86)].
ولد الفضيل بن عياض في أرض خراسان، ثم رحل إلى الكوفة؛ فأخذ العلم عن أهلها من العلماء العابدين الربانيين أمثال الأعمش ويحي بن سعيد الأنصاري وجعفر الصادق؛ فأثر ذلك في شخصيته تأثيراً كبيراً حتى أصبح من الزهاد المنقطعين عن الدنيا وزخارفها.
ومن عجب - يا عباد الله - وليس ذلك بعجيب لمن عرف رحمة الله وفضله وجوده أن هذا الإمام الذي ملأت أخباره الدنيا، وامتلأت به صفحات الكتب كان في أول أمره وفي أول شبابه على غير جادة الهدى والصلاح.
لقد كان أحد اللصوص وقطاع الطريق! يذكر الإمام الذهبي رحمه الله في السير أن الفضيل بن عياض رحمه الله كان على الوصف الذي ذكرنا، وأنه في ليلة من الليالي كان على ميعاد مع جارية قد عشقها وهويها، فأخذ يتنقل بين البيوت، ويصعد الجدران حتى يصل إليها خفية، وبينما هو كذلك وهو على أحد تلك الجدران إذا به يسمع تالياً للقرآن يصلي في ظلمات الليل، وإذا به يرفع صوته بقول الله تبارك وتعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16]، فكان لهذا الكلمة أثر عظيم في نفس الفضيل، فوقعت في سويداء قلبه، وقال: أجل يا رب، آن لي أن أرجع إليك، وأن أعود إليك؛ فرجع تائباً نادماً، فأدركه الليل في الطريق؛ فمال إلى خربة لينام فيها ويستريح، فإذا به يجد فيها أو قربها قوماً من المسافرين، وإذا بعضهم يكلم بعضاً، ويقول: هلموا بنا فلنرحل، فقال بعضهم: لا نرحل الآن؛ حتى لا يقطع علينا الفضيل بن عياض الطريق، وإنما ننتظر إلى الصباح!
لقد كان الفضيل مشهوراً معروفاً في أول حياته بهذا الوصف، كان من قطاع الطريق، وكان على هذا الوصف المذكور، فلما سمع هذه الكلمة وهو ساع في طريقه قال رحمه الله: "أنا أسعى في الليل بالمعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافونني! وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام" [بتصرف من سير أعلام النبلاء للذهبي (7/394)].
فانتقل إلى مكة، وجاور البيت الحرام وانقطع للعبادة والذكر وقراءة القرآن والصيام حتى لُقب بعد ذلك بعابد الحرمين!
ولم يكن رحمه الله قد وصل إلى ما وصل إليه من هذه المكانة السامية إلا لأنه تخلق بأخلاق عظيمة، واتصف بصفات جليلة صاغت من شخصيته هذا الأنموذج العطر الذي أصبح نقطة مضيئة في سماء تاريخنا.
من صفاته رحمه الله أنه كان سريع العبرة، غزير الدمعة، قال سهل بن راهويه: قلت لابن عيينة: "ألا ترى إلى الفضيل لا تكاد تجف له دمعة!" كثير البكاء، لا يراه أحد إلا ويرى دموعه على خديه "ألا ترى إلى الفضيل لا تكاد تجف له دمعة!" فقال ابن عيينة - وهو صاحبُه وملازِمه -: "إذا قَرِح القلب نَدِيتْ العينان!" [السير للذهبي (7/404)].
وكان شديد المراقبة لنفسه رحمه الله، لا تكاد تخرج منه كلمة إلا وهو يحاسب نفسه قبل أن يخرجها، وقبل أن يتكلم بها، ومما يدل على ذلك ما حدّث به أبو عبد الله الأنطاكي قال: "اجتمع الفضيل وسفيان الثوري، فتذاكرا الآخرة" وأصبح كل منهما يذكر شيئاً من أخبار الآخرة؛ لأنهم كانوا يريدون حياة القلوب، كانت مجالسهم على مثل هذا الوصف، يريدون أن تحيى قلوبهم، فتذاكروا الآخرة، وطال المجلس وكل يأتي بما عنده من الآيات والأحاديث، والأخبار والآثار، فأحسّ سفيان رحمه الله أن هذا المجلس مجلس خير وبركة؛ فقال للفضيل: "إني لأرجو أن يكون هذا المجلس علينا رحمة وبركة"، فقال له الفضيل - الذي كان شديد المراقبة لنيته وكلماته –: "لكني - يا أبا عبد الله - أخاف ألا يكون شيء أضر علينا منه"! لمه؟! قال رحمه الله: "ألست تخلَّصتَ إلى أحسن حديثك، وتخلَّصتُ إلى أحسن حديثي؟! فتزينتَ لي وتزينتُ لك" فبكى سفيان، وقال: "أحييتني أحياك الله" [بتصرف من سير أعلام النبلاء للذهبي (7/404)].
إذاً حتى في المواعظ، وحتى في التذكير لابد من استحضار النية الصالحة، وتجريدها لله رب العالمين.
ومما يدل على مراقبته ومحاسبته لنفسه ما ذكره إسحاق بن إبراهيم قال: "قال رجل للفضيل بن عياض: كيف أصبحت يا أبا علي؟ قال: في عافية، قال: وكيف حالك؟ قال: عن أي حال تسأل؟ عن حال الدنيا أو عن حال الآخرة؟ إن كنت تسأل عن حال الدنيا؛ فإن الدنيا قد مالت بنا، وذهبت بنا كل مذهب، وإن كنت تسأل عن حال الآخرة، فكيف ترى حال من كثرت ذنوبه، وضعف عمله، وفني عمره، ولم يتزود لمعاده، ولم يتأهب للموت، ولم يتزين له؟! " ثم تنهّد الفضيل تنهد الحزين، وجلس يخاطب نفسه، ويقول: "ويحكَ هل أنت تحسن أن تحدِّث؟! أو هل أنت أهل أن يُحمل عنك؟! استحيي يا أحمق، لولا قلة حيائك، وسفاهة وجهك ما جلست تحدث وأنت أنت! أما تعرف نفسك؟! أما تذكر ما كنت وكيف كنت؟! أما لو عرفوك ما جلسوا إليك، ولا كتبوا عنك، ولا سمعوا منك شيئاً أبداً، ويحك أما تذكر الموت؟! أما للموت في قلبك موضع؟! أما تدري متى تؤخذ فيرمى بك في الآخرة، فتصير في القبر وضيقه ووحشته؟! أما رأيت قبراً قط؟! أما رأيت حين دفنوه؟! أما رأيت كيف سلّوه في حفرته، وأهالوا عليه التراب والحجارة؟!..." [بتصرف من حلية أبي نعيم (8/85)] إلى آخر تلك الكلمات التي خرجت من قلب صادق يراقب الله تبارك الله وتعالى في أحواله كلها.
لقد كان الفضيل رحمه الله شديد الزراية بنفسه، كان يؤنِّب نفسه، ولم يكن يرفع نفسه مع أنه كان بالوصف الذي ذكرنا، ولكن هذا هو حال الصالحين، قوم مخبتون لربهم، محتقرون لذواتهم، لا يرون شيئاً يقدمونه، إنما هم دائما في وجل وخوف وانكسار لله تبارك وتعالى، وهكذا كان أبو علي رحمه الله.
لقد كان من الخشية والبكاء بمكان، وكان لا يُرى إلا وعيناه تفيض من الدمع كلما ذكر الله تبارك وتعالى، وعند ذلك ترتعش أعضاؤه وترتعد خوفاً من ربه، وتلك صفات المتقين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].
لقد كانت آثار الخوف من الله عز وجل بادية على ملامح الفضيل يعرفها كل من رآه؛ حتى قال الإمام الزاهد عبدالله بن المبارك: "إذا نظرتُ إلى الفضيل جدَّدَ لي الحزن، ومقتُّ نفسي"، ثم بكى. [السير للذهبي (7/404)].
وقال إبراهيم بن الأشعث:
"ما رأيت أحداً كان اللهُ في صدره أعظم من الفضيل؛ كان إذا ذَكر الله، أو ذُكر عنده، أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن، وفاضت عيناه، وبكى حتى يرحمه من يحضره، وكان دائم الحزن، شديد الفكرة، ما رأيت رجلاً يريد بعمله وعلمه، وأخذه وعطائه، ومنعه وبذله، وبغضه وحبه، وخصاله كلها غير الله تبارك وتعالى ما رأيت أحداً مثل الفضيل، كنا إذا خرجنا معه إلى جنازة ما يزال يعظ ويذكر ويبكي كأنه مودع أصحابه، ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر، فيجلس مكانه بين الموتى من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها" [السير للذهبي (7/395)].
وقال إسحاق بن إبراهيم:
"سمعت الفضيل بن عياض يقول: وعزته وجلاله لو أدخلني النار فصرت فيها ما يأست من رحمته" [بتصرف من تاريخ دمشق ابن عساكر (48/420)].
وقال:
"ولقد وقفت مع الفضيل " يقول إسحاق " لقد وقفت مع الفضيل بعرفات، فلم أسمع من دعائه شيئاً إلا أنه كان واضعاً يده اليمنى على خده خافضاً رأسه يبكي بكاءً خفياً، فلم يزل كذلك حتى أفاض الإمام، فرفع رأسه إلى السماء، فقال يخاطب ربه ويناجيه: واسوأتاه، واسوأتاه منك، وإن غفرت لي!" [مختصر تاريخ دمشق (20/316)].
إنه يستحضر الماضي، يستحضر الذنوب والمعاصي، فلا يقنط من رحمة ربه، لكنه يخجل من ملاقاة الله تبارك وتعالى، وإن غفر الله ذنوبه؛ لأن ذِكر المعصية والذنب جالب للخجل من الله جل جلاله.
وكان مع هذا الخشية صاحب عبادة شهدتها لياليه التي كان يقطعها بذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، يقول إسحاق الطبري: "ما رأيت أحداً أخوف على نفسه، ولا أرجى للناس من الفضيل؛ كانت قراءته للقرآن قراءة حزينة شهية، بطيئة مترسلة كأنه يخاطب إنساناً، وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة جلس يرددها، ويسأل الله من فضله، وكانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعدًا يُلقى له الحصير في مصلاه، فيصلي من أول الليل ساعة، ثم تغلبه عينه فيلقي نفسه على الحصير، فينام قليلاً، ثم يقوم، فإذا غلبه النوم قام، ثم يقوم كذلك إلى أن يصبح" [السير للذهبي (8/427-428)].
وفي يوم من الأيام وهو يتلو كتاب ربه عز وجل مرّ بهذه الآية في سورة محمد، وهي قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، قرأها الفضيل، فقال وهو يبكي: "تبلو أخبارنا! تبلو أخبارنا! إذاً تهتكنا، وتفضح أستارنا" [بتصرف من التوابين لابن قدامة ص (128)]، هكذا يقول العارف بالله الذي لا يغتر بما عنده من العبادة والصلاح والزهد.
وكان من أجل صفاته رحمه الله أنه كان يبغض الشهرة، وبغض الشهرة هو علامة الإيمان، وإذا رأيت الرجل يبحث عنها فاعلم أن في قلبه مرضاً؛ إنه لا يجتمع حب الشهرة وحب الآخرة في قلوب الأصفياء الأتقياء الأنقياء، وهكذا كان الفضيل رحمه الله، كان مبغضاً لها مختفياً عن كل ما يفسد عليه دينه وخلوته بربه عز وجل.
عن الفضل بن إسحاق قال:
"سمعت فضيلاً يقول: إني لأسمع صوت حلقة الباب - يعني أن هناك طلاباً سيأتون إليه ويحضرون إليه - فأكره ذلك قريباً كان أم بعيداً، ولوددت أنه طار في الناس - أي شاع في الناس - أني قد متُّ حتى لا يُسمع لي بذكر، إني لأسمع صوت أصحاب الحديث – أي طلاب العلم الذين أتوا من بلاد بعيدة يطلبون عنده العلم، ويأخذون منه الحديث لم يكن يستبشر ويفرح، وتزهو نفسه -" قال رحمه الله: "إني لأسمع صوت أصحاب الحديث، فيأخذني البول؛ فَرَقاً منهم، وخوفاً منهم" [السير للذهبي (7/402)]. نعم لقد كان يصيبه ما يصيبه من القلق والخوف خشية أن يكون ممن يتزين لهم، ويكون مرائياً في عمله وتعليمه للناس!
ولأجل هذه الصفات العظيمة والخصال التي تملكت قلبه قد أجرى الله الحكمة على لسانه؛ فكان العلماء قديماً وحديثاً يزينون كتبهم بأقوال الفضيل رحمه الله.
ولعلنا أن نعرج على شيء يسير من أقواله التي سطرها لنا التاريخ فإن فيها مواعظ وعبراً تلين القلوب.
يقول هناد بن السري:
"سمعت الفضيل بن عياض يقول: ما من ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل سربال سترها إلا نادى الجليل جل جلاله: مَن أعظم مني جوداً والخلائق لي عاصون، وأنا لهم مراقب؟ أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا، أجود بالفضل على العاصي وأتفضل على المسيء، من الذي دعاني فلم أسمع إليه؟ ومن الذي سألني فلم أعطه؟ من الذي أناخ ببابي فنحيته؟ أنا الفضل، ومني الفضل، أنا الجود، ومني الجود، أنا الكريم، ومني الكرم، ومِن كرمي أن أغفر للعاصي بعد المعاصي، وأعطي التائب كأن لم يعصني، فأين عني تهرب الخلائق؟ وأين عن بابي يتنحى العاصون؟!" [أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/92)].
قال: وسمعته يقول: "أكذب الناس العائد في ذنبه، وأجهل الناس المدلّ بحسناته" أي المفتخر بها، الذي يمن على الله بها "وأعلم الناس بالله أخوفهم منه، لن يكمُل عبد حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه" [السير للذهبي (8/427)].
وقال فيض بن إسحاق:
"قال الفضيل: والله ما يحل لك أن تؤذي كلباً ولا خنزيراً بغير حق؛ فكيف تؤذي مسلماً؟!" [السير للذهبي (8/427)]، وعنه قال: "بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله" [السير للذهبي (8/427)]، وقال رحمه الله: "إذا أحب الله عبدا" اسمعوا يا عباد الله، وانظروا إلى الفقه في دين الله، يقول: "إذا أحب الله عبداً أكثر غمّه" أي أحزانه "وإذا أبغض عبداً وسّع عليه في دنياه" [أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/92)] يعني أن المؤمن كثير البلاء، وهذا مصداق قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) [أخرجه أحمد في المسند برقم (27079)، وحسن إسناده الأرناؤوط]، و((إذا أحب الله عبداً ابتلاه)) [شعب الإيمان للبيهقي برقم (9329)].
وكان رحمه الله يوجه رسالة لمن يشكون عجزهم عن قيام الله فيقول: "إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النهار؛ فاعلم أنك محروم كبلتك خطيئتك" [السير للذهبي (8/435)].
وعن عبد الصمد بن يزيد قال: " قال الفضيل بن عياض: أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد الله من طول الهجعة، إنما هو على الجنب، فإذا تحرك قال لنفسه: ليس لكِ ذلك" أي طول النوم في الليل "قومي خذي حظك من الآخرة!" [صفة الصفوة لابن الجوزي (1/430)]، هكذا كانت نفوسهم، وهكذا كانوا مقبلين على ربهم، فنسأل الله بمنه وكرمه أن يرزقنا وإياكم حسن الاقتداء بهم، وأن يلحقنا بهم غير مضيعين ولا مبدلين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى سنته إلى يوم الدين، وسلم اللهم تسليماً كثيراً.
عباد الله:
ما تظنون أن تكون مواعظ رجل عرف الله حق المعرفة، فقام في ليله بين يديه جل جلاله، وأسبل الدمعات خوفاً من ربه؟! ما تظنون برجل جمع الله له من صفات الكمال البشري ما لا يكون إلا للقلة القليلة من عباد الله، لقد كان هذا حال الفضيل بن عياض رحمه الله رحمة واسعة؛ فكانت لمواعظه أعظم الآثار في القلوب، وأبلغ التأثير في النفوس.
جلس مرة في مجلس وعنده رجل كبير في السن، فقال له: "يا فلان كم عمرك؟ فقال الرجل: ستون عاماً، قال الفضيل: الله أكبر! منذ ستين عاماً وأنت تسير إلى الله، ويوشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال الفضيل: أتدري ما قولك إنا لله وإنا إليه راجعون؟ قال: ما هي يا أبا علي؟ قال: معناها أنك إلى الله راجع، وبين يديه واقف، وعن أعمالك محاسب؛ فأعدّ للسؤال جوابه، وللجواب صوابه، قال فما العمل؟ قال: يسير؛ أحسن فيما بقي يغفر لك ما قد سلف، ولا تسئ فيما بقي تؤخذ بذنب ما بقي وما سلف" [بتصرف من حلية الأولياء (8/113)]، بهذه الكلمات اليسيرة كان الفضيل يصل إلى القلوب، ويذكر الناس بالله رب العالمين.
ومن أعظم ما حفظه لنا تاريخ الفضيل رحمه الله موعظته الشهيرة لخليفة المسلمين هارون الرشيد رحمه الله، التي حدثنا عن أخبارها الفضل بن الربيع - وهو حاجب هارون الرشيد -، يقول الفضل بن الربيع: "حج أمير المؤمنين هارون الرشيد، فقال لي: ويحك قد حاك في نفسي شيء؛ فانظر لي رجلاً أسأله" يعني يريد موعظة، يريد أن يرقق قلبه، كانوا يبحثون عن العلماء والعباد حتى يذكروهم بالآخرة؛ لأنهم يعلمون أن القلوب تصدأ، وجلاء الصدأ ذكر الله تبارك وتعالى، قال هارون: "فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت: هاهنا سفيان بن عيينة، قال: امض بنا إليه، قال: فأتيناه، فقرعنا الباب، فقال: من ذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً، فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي أتيتك! قال: خذ لما جئتك له، فحدثه ساعة، ثم قال له هارون: أعليك دين؟ قال: نعم، فقال: يا ربيع، اقض عنه دينه، فلما خرجنا، قال هارون لي: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، قال قلت: هاهنا عبد الرزاق، قال: امض بنا إليه، فأتيناه، فقرعت الباب، فخرج وحدثه ساعة، ثم قال: أعليك دين؟ قال: نعم، قال: أبا العباس، اقض عنه دينه، فلما خرجنا، قال هارون: ما أغنى عني صاحبك شيئاً" إلى الآن لم يرق القلب، إلى الآن لم يرتجف القلب، أريد شخصاً يحرك الإيمان في قلبي، يرجعني إلى ربي، قال: "فقلت: هاهنا الفضيل بن عياض، قال: امض بنا إليه، قال: فأتيناه، فإذا هو قائم يصلي يتلو آية يرددها، قال: اقرع الباب، قال: فقرعته، فقال الفضيل: من هذا؟ قلت أجب أمير المؤمنين، فقال الفضيل: ما لي ولأمير المؤمنين، قلت: سبحان الله! أما عليك طاعة؟! فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة، فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية، فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف هارون إليه قبلي، فقال الفضيل رحمه الله: ما لها من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله! فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي، قال: فقال له: خذ لما جئناك رحمك الله، قال الفضيل: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء - أي الخلافة - فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاءً، وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال له سالم: إن أردت النجاة فصم الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت، وقال له ابن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله؛ فليكن كبير المسلمين أباً، وأوسطهم أخاً، وأصغرهم ولداً، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك، وقال له رجاء: إن أردت النجاة من عذاب الله؛ فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إن شئت بعد ذلك، قال الفضيل: وإني أقول لك هذا؛ إني أخاف عليك أشد الخوف يوماً تزل فيه الأقدام فهل معك رحمك الله من يشير عليه بمثل هذا، فبكى هارون بكاءً شديداً حتى غشي عليه، فقلت له - يقول الربيع -: قلت للفضيل: ارفق بأمير المؤمنين! قال: يا ابن أم الربيع، تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا؟! ثم أفاق هارون، فقال: زدني رحمك الله، قال الفضيل: بغلني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكي إليه، فكتب إليه عمر: يا أخي، أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك إياك أن يُنصرف بك من عند الله، فيكون آخر العهد، وانقطاع الرجاء، فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم عليه، فقال: ما أقدمك؟ قال: والله لقد خلع قلبي كتابك؛ لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله، فبكى هارون بكاءً شديداً، فقال: يا أمير المؤمنين - يقول الفضيل له –، إن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه، فقال: أمرني فقال له: ((إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة؛ فإن استطعت ألا تكون أميراً فافعل)) [أورده أبو نعيم في الحلية (8/105)، وفي مسند أحمد بلفظ آخر (10162)]، فبكى هارون، وقال: زدني رحمك الله، قال الفضيل: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة؛ فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة)) [أورده أبو نعيم في الحلية (8/105)، وفي البخاري (7150) بلفظ آخر]، فبكى هارون، وقال: أعليك دين؟ قال: نعم، قال الفضيل: نعم علي دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن ساءلني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي، قال: إنما أعني دين العباد، قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمرني أن أصدِّق وعده، وأن أطيع أمره، فقال: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، قال هارون: هذه ألف دينار خذها، فأنفقها على عيالك، وتقوى بها على عبادتك ربك، فقال الفضيل: سبحان الله! أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا! سلمك الله ووفقك، ثم صمت فلم يكلمنا، قال الفضل بن الربيع: فخرجنا، فقال هارون: أبا العباس، إذا دللتني على أحد فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين، فدخلت على الفضيل امرأة من نسائه قد سمعت ما دار بين الخليفة وبين الفضيل، فقالت: قد ترى ما نحن فيه من الضيق" أي من الفقر، وقلة الحال" فلو قبلت هذا المال! فقال الفضيل رحمه الله: إنما مثلي ومثلكم كمثل قوم لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه، فلما سمع هارون هذا الكلام رجع مرة أخرى، وقال: دعنا ندخل لعله أن يقبل المال، فلما علم الفضيل بمقدمهم رجع أدراجه، ثم رقى إلى السطح على باب غرفته، ودخل فيها، فجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه فلا يجيبه الفضيل، فبينما نحن كذلك إذ خرجت علينا جارية سوداء، فقالت: يا هذا، قد آذيت الشيخ منذ الليلة؛ فانصرف، فانصرفنا" [السير للذهبي (8/431)] هكذا كان الفضيل بن عياض، وهكذا كانت مواعظه رحمه الله.
فنبذة عن العالم الزاهد الفضيل بن عياض رحمه الله
إن الاطلاع على أخبار السلف الصالح، والغوص في سيرهم لمن أعظم ما تشحذ به النفوس، ويُسمى بها إلى سماء الإيمان، ومراتب الكمال.
الصالحون من سلف هذه الأمة وخلفها ممن سبقونا هم أتقى لله، وهم أشد له خشية، صفت قلوبهم، وشهد لهم عباد الله بالصلاح والتقوى؛ فودعوا الدنيا وهم على خير حال، وعلى خير ما يُثنى به على الرجال.
أولئك الذين هم في المقام الأول أعظم من يُقتدى به؛ لأنهم سلفوا وذهبوا وخُتم لهم بما يظن الناس أنه هو الخير، ((وأنتم شهود الله في الأرض)) [أخرجه البخاري برقم (1367)، ومسلم برقم (949)]، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "استنوا" أي اقتدوا "بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة".
وبمثل هؤلاء الصالحين، وبمثل أخبارهم وسيرهم تحيى القلوب، وترتفع النفوس عن أوضار الدنيا وزخارفها الفتانة، ومن أولئك العلماء العباد الزهاد الذين سارت الركبان بأخبارهم، وخلد التاريخ مواعظهم وقصصهم، وحفظ لنا مناقبهم الإمام القدوة العابد الزاهد عابد الحرمين أبو علي الفضيل بن عياض التميمي اليربوعي المروزي رحمه الله.
قال عنه عبد الله بن المبارك - وهو أمير المؤمنين في الحديث - قال: "ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل بن عياض" [حسن السمت في الصمت للسيوطي ص (86)].
ولد الفضيل بن عياض في أرض خراسان، ثم رحل إلى الكوفة؛ فأخذ العلم عن أهلها من العلماء العابدين الربانيين أمثال الأعمش ويحي بن سعيد الأنصاري وجعفر الصادق؛ فأثر ذلك في شخصيته تأثيراً كبيراً حتى أصبح من الزهاد المنقطعين عن الدنيا وزخارفها.
ومن عجب - يا عباد الله - وليس ذلك بعجيب لمن عرف رحمة الله وفضله وجوده أن هذا الإمام الذي ملأت أخباره الدنيا، وامتلأت به صفحات الكتب كان في أول أمره وفي أول شبابه على غير جادة الهدى والصلاح.
لقد كان أحد اللصوص وقطاع الطريق! يذكر الإمام الذهبي رحمه الله في السير أن الفضيل بن عياض رحمه الله كان على الوصف الذي ذكرنا، وأنه في ليلة من الليالي كان على ميعاد مع جارية قد عشقها وهويها، فأخذ يتنقل بين البيوت، ويصعد الجدران حتى يصل إليها خفية، وبينما هو كذلك وهو على أحد تلك الجدران إذا به يسمع تالياً للقرآن يصلي في ظلمات الليل، وإذا به يرفع صوته بقول الله تبارك وتعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16]، فكان لهذا الكلمة أثر عظيم في نفس الفضيل، فوقعت في سويداء قلبه، وقال: أجل يا رب، آن لي أن أرجع إليك، وأن أعود إليك؛ فرجع تائباً نادماً، فأدركه الليل في الطريق؛ فمال إلى خربة لينام فيها ويستريح، فإذا به يجد فيها أو قربها قوماً من المسافرين، وإذا بعضهم يكلم بعضاً، ويقول: هلموا بنا فلنرحل، فقال بعضهم: لا نرحل الآن؛ حتى لا يقطع علينا الفضيل بن عياض الطريق، وإنما ننتظر إلى الصباح!
لقد كان الفضيل مشهوراً معروفاً في أول حياته بهذا الوصف، كان من قطاع الطريق، وكان على هذا الوصف المذكور، فلما سمع هذه الكلمة وهو ساع في طريقه قال رحمه الله: "أنا أسعى في الليل بالمعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافونني! وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام" [بتصرف من سير أعلام النبلاء للذهبي (7/394)].
فانتقل إلى مكة، وجاور البيت الحرام وانقطع للعبادة والذكر وقراءة القرآن والصيام حتى لُقب بعد ذلك بعابد الحرمين!
ولم يكن رحمه الله قد وصل إلى ما وصل إليه من هذه المكانة السامية إلا لأنه تخلق بأخلاق عظيمة، واتصف بصفات جليلة صاغت من شخصيته هذا الأنموذج العطر الذي أصبح نقطة مضيئة في سماء تاريخنا.
من صفاته رحمه الله أنه كان سريع العبرة، غزير الدمعة، قال سهل بن راهويه: قلت لابن عيينة: "ألا ترى إلى الفضيل لا تكاد تجف له دمعة!" كثير البكاء، لا يراه أحد إلا ويرى دموعه على خديه "ألا ترى إلى الفضيل لا تكاد تجف له دمعة!" فقال ابن عيينة - وهو صاحبُه وملازِمه -: "إذا قَرِح القلب نَدِيتْ العينان!" [السير للذهبي (7/404)].
وكان شديد المراقبة لنفسه رحمه الله، لا تكاد تخرج منه كلمة إلا وهو يحاسب نفسه قبل أن يخرجها، وقبل أن يتكلم بها، ومما يدل على ذلك ما حدّث به أبو عبد الله الأنطاكي قال: "اجتمع الفضيل وسفيان الثوري، فتذاكرا الآخرة" وأصبح كل منهما يذكر شيئاً من أخبار الآخرة؛ لأنهم كانوا يريدون حياة القلوب، كانت مجالسهم على مثل هذا الوصف، يريدون أن تحيى قلوبهم، فتذاكروا الآخرة، وطال المجلس وكل يأتي بما عنده من الآيات والأحاديث، والأخبار والآثار، فأحسّ سفيان رحمه الله أن هذا المجلس مجلس خير وبركة؛ فقال للفضيل: "إني لأرجو أن يكون هذا المجلس علينا رحمة وبركة"، فقال له الفضيل - الذي كان شديد المراقبة لنيته وكلماته –: "لكني - يا أبا عبد الله - أخاف ألا يكون شيء أضر علينا منه"! لمه؟! قال رحمه الله: "ألست تخلَّصتَ إلى أحسن حديثك، وتخلَّصتُ إلى أحسن حديثي؟! فتزينتَ لي وتزينتُ لك" فبكى سفيان، وقال: "أحييتني أحياك الله" [بتصرف من سير أعلام النبلاء للذهبي (7/404)].
إذاً حتى في المواعظ، وحتى في التذكير لابد من استحضار النية الصالحة، وتجريدها لله رب العالمين.
ومما يدل على مراقبته ومحاسبته لنفسه ما ذكره إسحاق بن إبراهيم قال: "قال رجل للفضيل بن عياض: كيف أصبحت يا أبا علي؟ قال: في عافية، قال: وكيف حالك؟ قال: عن أي حال تسأل؟ عن حال الدنيا أو عن حال الآخرة؟ إن كنت تسأل عن حال الدنيا؛ فإن الدنيا قد مالت بنا، وذهبت بنا كل مذهب، وإن كنت تسأل عن حال الآخرة، فكيف ترى حال من كثرت ذنوبه، وضعف عمله، وفني عمره، ولم يتزود لمعاده، ولم يتأهب للموت، ولم يتزين له؟! " ثم تنهّد الفضيل تنهد الحزين، وجلس يخاطب نفسه، ويقول: "ويحكَ هل أنت تحسن أن تحدِّث؟! أو هل أنت أهل أن يُحمل عنك؟! استحيي يا أحمق، لولا قلة حيائك، وسفاهة وجهك ما جلست تحدث وأنت أنت! أما تعرف نفسك؟! أما تذكر ما كنت وكيف كنت؟! أما لو عرفوك ما جلسوا إليك، ولا كتبوا عنك، ولا سمعوا منك شيئاً أبداً، ويحك أما تذكر الموت؟! أما للموت في قلبك موضع؟! أما تدري متى تؤخذ فيرمى بك في الآخرة، فتصير في القبر وضيقه ووحشته؟! أما رأيت قبراً قط؟! أما رأيت حين دفنوه؟! أما رأيت كيف سلّوه في حفرته، وأهالوا عليه التراب والحجارة؟!..." [بتصرف من حلية أبي نعيم (8/85)] إلى آخر تلك الكلمات التي خرجت من قلب صادق يراقب الله تبارك الله وتعالى في أحواله كلها.
لقد كان الفضيل رحمه الله شديد الزراية بنفسه، كان يؤنِّب نفسه، ولم يكن يرفع نفسه مع أنه كان بالوصف الذي ذكرنا، ولكن هذا هو حال الصالحين، قوم مخبتون لربهم، محتقرون لذواتهم، لا يرون شيئاً يقدمونه، إنما هم دائما في وجل وخوف وانكسار لله تبارك وتعالى، وهكذا كان أبو علي رحمه الله.
لقد كان من الخشية والبكاء بمكان، وكان لا يُرى إلا وعيناه تفيض من الدمع كلما ذكر الله تبارك وتعالى، وعند ذلك ترتعش أعضاؤه وترتعد خوفاً من ربه، وتلك صفات المتقين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].
لقد كانت آثار الخوف من الله عز وجل بادية على ملامح الفضيل يعرفها كل من رآه؛ حتى قال الإمام الزاهد عبدالله بن المبارك: "إذا نظرتُ إلى الفضيل جدَّدَ لي الحزن، ومقتُّ نفسي"، ثم بكى. [السير للذهبي (7/404)].
وقال إبراهيم بن الأشعث:
"ما رأيت أحداً كان اللهُ في صدره أعظم من الفضيل؛ كان إذا ذَكر الله، أو ذُكر عنده، أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن، وفاضت عيناه، وبكى حتى يرحمه من يحضره، وكان دائم الحزن، شديد الفكرة، ما رأيت رجلاً يريد بعمله وعلمه، وأخذه وعطائه، ومنعه وبذله، وبغضه وحبه، وخصاله كلها غير الله تبارك وتعالى ما رأيت أحداً مثل الفضيل، كنا إذا خرجنا معه إلى جنازة ما يزال يعظ ويذكر ويبكي كأنه مودع أصحابه، ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر، فيجلس مكانه بين الموتى من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها" [السير للذهبي (7/395)].
وقال إسحاق بن إبراهيم:
"سمعت الفضيل بن عياض يقول: وعزته وجلاله لو أدخلني النار فصرت فيها ما يأست من رحمته" [بتصرف من تاريخ دمشق ابن عساكر (48/420)].
وقال:
"ولقد وقفت مع الفضيل " يقول إسحاق " لقد وقفت مع الفضيل بعرفات، فلم أسمع من دعائه شيئاً إلا أنه كان واضعاً يده اليمنى على خده خافضاً رأسه يبكي بكاءً خفياً، فلم يزل كذلك حتى أفاض الإمام، فرفع رأسه إلى السماء، فقال يخاطب ربه ويناجيه: واسوأتاه، واسوأتاه منك، وإن غفرت لي!" [مختصر تاريخ دمشق (20/316)].
إنه يستحضر الماضي، يستحضر الذنوب والمعاصي، فلا يقنط من رحمة ربه، لكنه يخجل من ملاقاة الله تبارك وتعالى، وإن غفر الله ذنوبه؛ لأن ذِكر المعصية والذنب جالب للخجل من الله جل جلاله.
وكان مع هذا الخشية صاحب عبادة شهدتها لياليه التي كان يقطعها بذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، يقول إسحاق الطبري: "ما رأيت أحداً أخوف على نفسه، ولا أرجى للناس من الفضيل؛ كانت قراءته للقرآن قراءة حزينة شهية، بطيئة مترسلة كأنه يخاطب إنساناً، وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة جلس يرددها، ويسأل الله من فضله، وكانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعدًا يُلقى له الحصير في مصلاه، فيصلي من أول الليل ساعة، ثم تغلبه عينه فيلقي نفسه على الحصير، فينام قليلاً، ثم يقوم، فإذا غلبه النوم قام، ثم يقوم كذلك إلى أن يصبح" [السير للذهبي (8/427-428)].
وفي يوم من الأيام وهو يتلو كتاب ربه عز وجل مرّ بهذه الآية في سورة محمد، وهي قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، قرأها الفضيل، فقال وهو يبكي: "تبلو أخبارنا! تبلو أخبارنا! إذاً تهتكنا، وتفضح أستارنا" [بتصرف من التوابين لابن قدامة ص (128)]، هكذا يقول العارف بالله الذي لا يغتر بما عنده من العبادة والصلاح والزهد.
وكان من أجل صفاته رحمه الله أنه كان يبغض الشهرة، وبغض الشهرة هو علامة الإيمان، وإذا رأيت الرجل يبحث عنها فاعلم أن في قلبه مرضاً؛ إنه لا يجتمع حب الشهرة وحب الآخرة في قلوب الأصفياء الأتقياء الأنقياء، وهكذا كان الفضيل رحمه الله، كان مبغضاً لها مختفياً عن كل ما يفسد عليه دينه وخلوته بربه عز وجل.
عن الفضل بن إسحاق قال:
"سمعت فضيلاً يقول: إني لأسمع صوت حلقة الباب - يعني أن هناك طلاباً سيأتون إليه ويحضرون إليه - فأكره ذلك قريباً كان أم بعيداً، ولوددت أنه طار في الناس - أي شاع في الناس - أني قد متُّ حتى لا يُسمع لي بذكر، إني لأسمع صوت أصحاب الحديث – أي طلاب العلم الذين أتوا من بلاد بعيدة يطلبون عنده العلم، ويأخذون منه الحديث لم يكن يستبشر ويفرح، وتزهو نفسه -" قال رحمه الله: "إني لأسمع صوت أصحاب الحديث، فيأخذني البول؛ فَرَقاً منهم، وخوفاً منهم" [السير للذهبي (7/402)]. نعم لقد كان يصيبه ما يصيبه من القلق والخوف خشية أن يكون ممن يتزين لهم، ويكون مرائياً في عمله وتعليمه للناس!
ولأجل هذه الصفات العظيمة والخصال التي تملكت قلبه قد أجرى الله الحكمة على لسانه؛ فكان العلماء قديماً وحديثاً يزينون كتبهم بأقوال الفضيل رحمه الله.
ولعلنا أن نعرج على شيء يسير من أقواله التي سطرها لنا التاريخ فإن فيها مواعظ وعبراً تلين القلوب.
يقول هناد بن السري:
"سمعت الفضيل بن عياض يقول: ما من ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل سربال سترها إلا نادى الجليل جل جلاله: مَن أعظم مني جوداً والخلائق لي عاصون، وأنا لهم مراقب؟ أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا، أجود بالفضل على العاصي وأتفضل على المسيء، من الذي دعاني فلم أسمع إليه؟ ومن الذي سألني فلم أعطه؟ من الذي أناخ ببابي فنحيته؟ أنا الفضل، ومني الفضل، أنا الجود، ومني الجود، أنا الكريم، ومني الكرم، ومِن كرمي أن أغفر للعاصي بعد المعاصي، وأعطي التائب كأن لم يعصني، فأين عني تهرب الخلائق؟ وأين عن بابي يتنحى العاصون؟!" [أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/92)].
قال: وسمعته يقول: "أكذب الناس العائد في ذنبه، وأجهل الناس المدلّ بحسناته" أي المفتخر بها، الذي يمن على الله بها "وأعلم الناس بالله أخوفهم منه، لن يكمُل عبد حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه" [السير للذهبي (8/427)].
وقال فيض بن إسحاق:
"قال الفضيل: والله ما يحل لك أن تؤذي كلباً ولا خنزيراً بغير حق؛ فكيف تؤذي مسلماً؟!" [السير للذهبي (8/427)]، وعنه قال: "بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله" [السير للذهبي (8/427)]، وقال رحمه الله: "إذا أحب الله عبدا" اسمعوا يا عباد الله، وانظروا إلى الفقه في دين الله، يقول: "إذا أحب الله عبداً أكثر غمّه" أي أحزانه "وإذا أبغض عبداً وسّع عليه في دنياه" [أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/92)] يعني أن المؤمن كثير البلاء، وهذا مصداق قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) [أخرجه أحمد في المسند برقم (27079)، وحسن إسناده الأرناؤوط]، و((إذا أحب الله عبداً ابتلاه)) [شعب الإيمان للبيهقي برقم (9329)].
وكان رحمه الله يوجه رسالة لمن يشكون عجزهم عن قيام الله فيقول: "إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النهار؛ فاعلم أنك محروم كبلتك خطيئتك" [السير للذهبي (8/435)].
وعن عبد الصمد بن يزيد قال: " قال الفضيل بن عياض: أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد الله من طول الهجعة، إنما هو على الجنب، فإذا تحرك قال لنفسه: ليس لكِ ذلك" أي طول النوم في الليل "قومي خذي حظك من الآخرة!" [صفة الصفوة لابن الجوزي (1/430)]، هكذا كانت نفوسهم، وهكذا كانوا مقبلين على ربهم، فنسأل الله بمنه وكرمه أن يرزقنا وإياكم حسن الاقتداء بهم، وأن يلحقنا بهم غير مضيعين ولا مبدلين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى سنته إلى يوم الدين، وسلم اللهم تسليماً كثيراً.
عباد الله:
ما تظنون أن تكون مواعظ رجل عرف الله حق المعرفة، فقام في ليله بين يديه جل جلاله، وأسبل الدمعات خوفاً من ربه؟! ما تظنون برجل جمع الله له من صفات الكمال البشري ما لا يكون إلا للقلة القليلة من عباد الله، لقد كان هذا حال الفضيل بن عياض رحمه الله رحمة واسعة؛ فكانت لمواعظه أعظم الآثار في القلوب، وأبلغ التأثير في النفوس.
جلس مرة في مجلس وعنده رجل كبير في السن، فقال له: "يا فلان كم عمرك؟ فقال الرجل: ستون عاماً، قال الفضيل: الله أكبر! منذ ستين عاماً وأنت تسير إلى الله، ويوشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال الفضيل: أتدري ما قولك إنا لله وإنا إليه راجعون؟ قال: ما هي يا أبا علي؟ قال: معناها أنك إلى الله راجع، وبين يديه واقف، وعن أعمالك محاسب؛ فأعدّ للسؤال جوابه، وللجواب صوابه، قال فما العمل؟ قال: يسير؛ أحسن فيما بقي يغفر لك ما قد سلف، ولا تسئ فيما بقي تؤخذ بذنب ما بقي وما سلف" [بتصرف من حلية الأولياء (8/113)]، بهذه الكلمات اليسيرة كان الفضيل يصل إلى القلوب، ويذكر الناس بالله رب العالمين.
ومن أعظم ما حفظه لنا تاريخ الفضيل رحمه الله موعظته الشهيرة لخليفة المسلمين هارون الرشيد رحمه الله، التي حدثنا عن أخبارها الفضل بن الربيع - وهو حاجب هارون الرشيد -، يقول الفضل بن الربيع: "حج أمير المؤمنين هارون الرشيد، فقال لي: ويحك قد حاك في نفسي شيء؛ فانظر لي رجلاً أسأله" يعني يريد موعظة، يريد أن يرقق قلبه، كانوا يبحثون عن العلماء والعباد حتى يذكروهم بالآخرة؛ لأنهم يعلمون أن القلوب تصدأ، وجلاء الصدأ ذكر الله تبارك وتعالى، قال هارون: "فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت: هاهنا سفيان بن عيينة، قال: امض بنا إليه، قال: فأتيناه، فقرعنا الباب، فقال: من ذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً، فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي أتيتك! قال: خذ لما جئتك له، فحدثه ساعة، ثم قال له هارون: أعليك دين؟ قال: نعم، فقال: يا ربيع، اقض عنه دينه، فلما خرجنا، قال هارون لي: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، قال قلت: هاهنا عبد الرزاق، قال: امض بنا إلي