الهجرة.. والتغيير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي حكم أن العاقبة للمتقين، وأن هلاك الدنيا وعذاب الآخرة نهاية الظالمين، ومصير الجبابرة والمتكبرين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله القائل: «إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسرًا» صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته أولي العز والتمكين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة:
فهذه المحاضرة قد ألقيتها العام الماضي في مثل هذه الأيام، والداعي لإعادتها هذه المرة التعريج على التغيرات الكبيرات التي حصلت، والتي تتشكل في الأفق وسوف تبرز للعيان قريبًا خصوصًا في اليمن.
وكان سبب اختيار هذا الموضوع لتلك المحاضرة وفي هذه المناسبة بالذات هو العمل على إعادة الأمل لهذه الأمة، التي نزلت بها من النوازل والدوائر ما يقتل الطموح، ويخيب الآمال، ويفقد الثقة بالنفس، بل يشكك البعض في تمكين الله للإسلام وأهله وهيمنته وإظهاره على الدين كله ولو كره المشركون، إن الحديث عن الهجرة كثير، ولكن الجانب الذي سوف أتحدث عنه في هذه المحاضرة من أهم ما يجب أن يركَّز الحديث عنه، خصوصًا في مثل ظروفنا الراهنة.
إنه جانب التغيير الذي أعقب الهجرة، جانب الفجر الذي انبثق بعد اشتداد الظلام، الجانب الذي إن عقلناه وعملنا بمقتضاه كشف الله عنا الغمة، وفرج الكربة وأزال الغربة التي نعيشها، وحفزنا على العمل وأزال عنا اليأس وزرع الأمل وحرك النفوس للسعي لتغيير هذا الحال، واليقين إنه سوف يتغير بإذن الله، وذلك بضرب الأمثلة والتعرف على سنن الله الكونية الصادقة التي لا تتغير ولا تتبدل.
إن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ليست بدعًا من الأمر، ولكنها حلقة من تاريخ الرسل على مر العصور، قال تعالى حاكيًا خطاب المشركين لرسلهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}[1] وقال قوم لوط: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}[2] وقال قوم شعيب: {قَالَ المَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}[3] قال الشيخ الخضري في كتابه في السيرة (نور اليقين) وهو يتحدث عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم: (وبهذه الهجرة تمّت لرسولنا صلى الله عليه وسلم سُنَّةُ إخوانه من الأنبياء من قبله، فما من نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته، فهاجر عنها، من إبراهيم أبي الأنبياء، وخليل الله، إلى عيسى كلمة الله وروحه، كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم أهينوا من عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالًا لمن يأتي بعدهم من متّبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام ذلك في طاعة الله[4].
إن هجرات الرسل لا تكون غالبًا إلا بعد أن تصل الدعوة إلى طريق مسدود مع أقوامهم، وغالبًا ما يكون بإجماع أولئك الأقوام على الفتك بذلك الرسول والقضاء عليه وعلى دعوته؛ فيصبح الرسول ومن معه من المؤمنين في أضيق الأحوال وأحلك الظروف، يكاد يغلب على ظنه أنه قد أحيط به وأنه قد غلب على أمره، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ}[5] عند هذه النقطة تكون الهجرة.
ولكن سنة: {فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا}[6] التي قررها القرآن الكريم في سياق الامتنان على رسوله صلى الله عليه وسلم في سورة الشرح {ألم نشرح} لتكون تثبيتًا له وإزالة لهمومه وترسيخًا للأمل في نفسه. دائمًا تأتي هذه اللحظات الحاسمة؛ ولذلك كان من أهداف وعلل القصص القرآني التي دائمًا ما ينتهي بتحقيق هذه السنة تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وشد عزمه على مواصلة الدعوة والتصميم على بلوغ الهدف الأسمى لها، قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[7] والعجيب في السياق القرآني المعجز أنه قد أتبع هذه الآية المبينة لحكمة القصص القرآني وأنه التثبيت والموعظة والذكرى- أتبعه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان التحدي للذين لا يؤمنون ولا يكفُّون عن محاربة المؤمنين، والإيحاء إليهم بالعاقبة المحسومة لصالح المؤمنين كما جرت به سنة الله فقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}. أي وسترون من يتحقق له ما ينتظر، نحن أم أنتم، قال السعدي- رحمه الله-: (وقد فصل الله بين الفريقين وأرى عباده نصره لعباده المؤمنين وقمعه لأعداء الله المكذبين)[8].
• ولقد ذكرت في محاضرة العام الماضي نموذجين من هجرة الرسل عليهم الصلاة والسلام التي ترتب عليهما أثر عظيم: هما هجرة إبراهيم وموسى عليهما السلام.وذكرت العديد من العواقب الحميدة التي ترتبت على هجرتها.
• أما الهجرة التي غيرت مجرى التاريخ تغييرًا لم ولن يشهد له التاريخ مثيلًا، والذي ما زال العالم يعيش آثاره، وينعم بنتائجه وثماره، إنها هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهجرته صلى الله عليه وسلم لم تأتِ كما هو الشأن في هجرة إخوانه الرسل السابقين إلا بعد أن أقفلت الأبواب وانقطعت السبل أمام الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لم تأتِ إلا بعد أن بلغ الطغيان منتهاه، وبلغت العداوة حدها، واكتملت المكايد والمؤامرات التي تهدف إلى القضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته ومن استجاب له من أصحاب وأنصار، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ}[9] لما بلغ الأمر إلى هذا الحد قرر صلى الله عليه وسلم الهجرة والانتقال من بلدٍ وصل أهله إلى هذا الحد من المكر والكيد والعداء السافر لله ولرسوله ولعباده المؤمنين.
غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مهد لذلك بما يقدر عليه من أسباب مادية متوفرة، فقد استقطب فئة لا يستهان بها من أهل يثرب إلى الإسلام، ثم بايعهم على النصرة والحماية إذا هو هاجر إليهم، وأخذ عليهم بذلك العهود والمواثيق الغليظة، ولم يدَعهم لمجرد ذلك بل أرسل إليهم من يقوم على ذلك الغرس فيتعاهده ويرويه وينميه ويوسع رقعته؛ فأرسل مصعب بن عمير لذلك الغرض، وعمل مصعب رضي الله عنه عملًا عظيمًا في الدعوة إلى الله وإقناع أهل المدينة بالإسلام وإدخالهم فيه أفواجًا، ثم قدَّم الصحابة المتبقين في مكة بين يديه إلى المدينة، ثم وضع خطة محكمة ومتكاملة لرحلة الهجرة واستثمر فيها كل الطاقات المتوفرة، ثم خرج مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه متوكلًا على الله بعد بذل المتوفر من الأسباب.
وبالفعل عدَّ الله ذلك نصرًا وإعلاء لكلمته، قال تعالى معاتبًا الصحابة الذين بدر من بعضهم شيئًا من التردد والتلكؤ حينما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك لأسباب مختلفة، وبيّن لهم أن نفرتهم إلى الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم ليست هي السبب الوحيد لنصرته، وأنه سبحانه غير محتاج إليهم ولا عاجز عن الانتصار لرسوله بدونهم، فقال الله جل ثناؤه: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[10].
نعم إن مجرد النجاة من الهلاك المحقق قد يُعد نصرًا وفتحًا مبينًا، إذ العبرة ليست بما يكون في ساحة المعركة في ذلك الوقت فقط، ولكن العبرة بما يترتب على ذلك وبما تسفر عنه تلك المعركة من نتائج، ولما كانت نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكيدة المشركين وتمكنه من الخروج من الأرض التي يحكمون السيطرة عليها إلى الأرض التي تكون السيطرة والحكم فيها له وللمسلمين، بحيث أصبحت قاعدة لدولة الإسلام، كان هذا هو النصر على الحقيقة، إذ كل ما جرى بعد الهجرة إنما هو تمهيد لقيام دولة الإسلام والقضاء على دولة الشرك في جزيرة العرب، واستمر ذلك التمهيد سنوات معدودة قامت على إثرها دولة الإسلام التي ما زالت ولن تزال قائمة إلى قيام الساعة: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ}[11].
التغيير:
هذا عن أعظم هجرة عرفها التاريخ هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وما ترتب عليها من تغيير لم يشهد له التاريخ مثيلًا، وبعد هذا العرض الموجز تعالوا بنا نستجلي بعض الحقائق الهامة التي أرى أن أمة الإسلام اليوم بأمس الحاجة إلى معرفتها والتيقن منها والعمل بمقتضاها.
الحقيقة الأولى:
إن الباطل قد يظهر وقد يتسلط وينتشر ويهيمن على حياة الناس، وقد يعلوا أصحابه ويُملى لهم حتى يظنوا أنهم قد بلغوا إلى المكانة التي لا يتصور معها ذل ولا هزيمة ولا قدرة على أحد للوقوف أمامهم، وقد تتنوع أوجه القوة، فتظهر قوة سياسية وقوة عسكرية وقوة اقتصادية وقوة اجتماعية وبشرية، كل ذلك قد يكون وقد يطول ولكن عاقبته الهلاك والدمار وسوء المصير، كما قال الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[12] وكما قال الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}[13] وكما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}[14]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ}[15]. وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}[16] قال الرازي في تفسير هذه الآية: (أي من عادة الله إبطال الباطل وتقرير الحق)[17].
الحقيقة الثانية:
إن الحق منصور لا محالة، غير أن هذا النصر لا يلزم أن يكون سريعًا بل قد يتأخر، وقد يصيب المؤمنين قبل تحققه أنواع من الأذى والقهر والإذلال، ولكن العبرة بالخاتمة، والعاقبة للمتقين. قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ}[18]. وقال تعالى: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[19] قال ابن كثير: (أي قد حكم الله وكتب في كتابه الأول وقدره الذي لا يخالف ولا يمانع ولا يبدل بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة وأن العاقبة للمتقين)[20] وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}[21].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وهذه سنة الله تعالى في خلقه من قديم الدهر وحديثه إنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر عينهم ممن آذاهم)[22].
وقال السدي: (لم يبعث الله رسولًا قط إلى قوم فيقتلونه، أو قومًا من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلونهم فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا).
وقال السدي: (فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها)[23].
لكن أمة محمد تحتاج إلى التربية على اليقين بهذه الحقائق، ونزع ما تراكم في نفوسهم من شكوك وظنون سيئة بالله نتيجة الأحداث المتتالية والنكبات المتلاحقة والتربية السيئة التي ربوا عليها.
الحقيقة الثالثة:
إن النصر متوقع لأمة الإسلام برغم ما تعانيه من جهل وضعف في الإيمان وانحرافات في جوانب حياتها، إنها مع ذلك مرشحة للنصر إذا أخذت بالمتيسر من أسبابه لماذا؟ لأنها رغم كل ما فيها من ضعف ومعصية وانحراف هي أفضل الأمم من حيث كثرة الخير وقلة الشر فيها. ولك أن تقارن المسلمين بأي أمة من أمم الأرض المعاصرة ثم تستعرض النتائج بتجرد فإن الذي سيظهر لك هو أن الخير الذي لا يزال في المسلمين لا تساويهم فيه أي أمة أخرى، وأن الشر الذي عندهم هو أقل من الشر عند أي أمة أخرى، ونحن غير راضين عن هذا الوضع غير إننا نحب أن تنجلي هذه الحقيقة لإزالة اليأس والقنوط الذي أضحى يخيم على كثير منا فيقعدهم عن العمل والمحاولة للارتقاء بأنفسهم وأمتهم.
إن بني إسرائيل حينما نصرهم الله على فرعون وقومه كانوا أسوأ حالًا منا ضعف نفوس، عمق في الانحراف، محادة لله، إيذاء للرسول، سرعة في الرجوع إلى الباطل.
• قصة القوم الذين يعكفون على الأصنام.
• قصة السامري، غيرهما من القصص.
ومع ذلك انظر لهذا التعبير القرآني الذي يقرر كيف نصرهم الله واختارهم على علم على العالمين قال تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ العَذَابِ المُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ المُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ * وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ}[24].
قال سيد قطب- رحمه الله- عند هذه الآية: (ثم يذكر اختيار الله لبني إسرائيل على علم بحقيقتهم كلها، خيرها وشرها. اختيارهم على العالمين في زمانهم بطبيعة الحال، لما يعلمه الله من أنهم أفضل أهل زمانهم وأحقهم بالاختيار والاستخلاف؛ على كل ما قصه عنهم بعد ذلك من تلكؤ ومن انحراف والتواء. مما يشير إلى أن اختيار الله ونصره قد يكون لأفضل أهل زمانهم؛ ولو لم يكونوا قد بلغوا مستوى الإيمان العالي؛ إذا كانت فيهم قيادة تتجه بهم إلى الله على هدى وعلى بصيرة واستقامة.{وَآتَيْنَاهُمْ مِنْ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} [الدخان: 33])[25].
وقد بدأت تلوح في الأفق بشائر إعزاز لله تعالى لهذه الأمة وعودة الناس إلى الاتفاق حول المنادين بتحكيم الإسلام والانطلاق من مبادئه، اتضح ذلك في تونس ومصر وليبيا، بغض النظر عن الملاحظات التي على تلك الجماعات التي اختارها الناس؛ إذ إن الناس إنما اختاروا الإسلام ولم يختاروا الأشخاص أو الأحزاب بذاتها، كما قلتُ قديمًا مخاطبًا أمة الإسلام ومشيدًا بالتفاف أبنائها حول رايتها ومنهاجها، بعدما أيسوا من سائر المذاهب والمناهج المخالفة:
قد جربوا كل منهاج وفلسفة *** وما جنوا غير ألغام وأشواك
وها هم اليوم صفًّا حول رايتنا *** يؤملون جزيلًا من عطاياك
وليس غريبًا على أمة الإسلام أن تعود إلى دينها وهويتها، لكن الغريب والذي يعد مبشرًا حقيقيًّا أن الأعداء قد أرغموا على أن يسلموا للأمة تحقيق رغبتها، ولم يعودوا يظهرون اعتراضهم على اختيار الشعوب العربية والإسلامية؛ بالرغم من مكائدهم ومؤامراتهم الخفية وانزعاجهم الشديد من ذلك.
وأما من يجوسون خلال المسلمين من أبناء الأمة، الذين تنكروا لدينهم وجحدوا أن يكون صالحًا لحكم الأمة في هذا الزمن؛ فإنهم يتلقون الصفعات تلو الصفعات ويتكبدون الخسائر تلو الخسائر ولن يمر زمن قصير حتى يعلنوا استسلامهم، ويسلموا للأمة ما تريد كما فعل أسيادهم، وقد أشرت في القصيدة سالفة الذكر إلى هؤلاء بقولي:
أما الأفاعي والأوزاغ ناشرة *** أذنابها في كثير من زواياك
فالليل بوأها هذا وأمنها *** من أن تعودي إلى تصحيح رؤياك
وأقسمت وهي سكرى في غوايتها *** بأن كل شعوب الأرض تقلاك
لكن صوت أذان الفجر أزعجها *** وراع خفاشها إشراق مرآك
فحاولت كل كيد تستطيع له *** لكي تصدك عن إدراك مرماك
هيهات تدرك منا ما تؤمله *** ونحن جندك والديان مولاك
عوامل نجاح الهجرة وتحقيقها لأهدافها:
1- الإيمان الكامل بأحقية الرسالة التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم وتربية أصحابه على ذلك.
2- تحديد الهدف ووضوحه والاستماتة في سبيل تحقيقه.
3- الدعوة الجادة واستقطاب الأتباع وتكوين القاعدة.
4- البحث عن البدائل وعدم الانشغال بالآني عن الآتي.
5- التخطيط المحكم.
6- انتخاب الصفوة القادرة على تنفيذ المشروع.
7- رعاية الحقوق والالتزام بالوفاء بالعهود وتحقيق الوعود.
8- استشعار معية الله.
9- اليقين التام بصدق خبر الله وتحقيق وعده.
10- المبادرة في العمل منذ أن تتاح أول فرصة له.
11- إعطاء القدوة الحسنة والمثال الجيد بمشاركة القائد لأتباعه.
12- تقديم الهم العام على الحاجة الشخصية.
ما يلزمنا لإنجاح عملية التغيير:
أن نغير ما بأنفسنا {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.
1- من الشك إلى اليقين في:
• أحقية رسالتنا.
• صدق خبر الله وتحقق وعده.
• أن التغيير ينبع من أنفسنا.
• أن منهج رسول الله هو الطريق الأوحد للتغيير.
2- من المعصية والانحراف إلى الطاعة والاستقامة.
3- من التردد إلى العزيمة الصادقة على التغيير.
4- من إلقاء اللوم على غيرنا وعدم تكليفنا أنفسنا بالنظر فيما لدينا من معوقات التغيير.
5- إقامة أصل الولاء والبراء نحو أعدائنا السياسيين والثقافيين والاجتماعيين.
6- اتخاذ الأسباب المادية المتاحة واستغلال طاقاتنا الذاتية قبل المنح والمساعدات الخارجية.
7- تربية الأمة قيادات وقواعد وجميع الشرائح على ثقافة التغيير الحق واستخدام مواعظ القرآن وقوة السلطان لحملها على الاستقامة على ذلك.
==========================
[1] إبراهيم: 13.
[2] النمل: 56.
[3] الأعراف: 88.
[4] نور اليقين ص(96).
[5] يوسف: 110.
[6] الشرح 5- 6.
[7] هود: 120.
[8] تفسير السعدي (1/392).
[9] الأنفال: 30.
[10] التوبة: 40.
[11] التوبة: 33.
[12] الإسراء: 81.
[13] الأنبياء: 18.
[14] الأنعام 44- 45.
[15] الأنفال 36- 37.
[16] البقرة: 276.
[17] التفسير الكبير (27/144).
[18] الصافات: 171- 173.
[19] المجادلة: 21.
[20] تفسير ابن كثير (4/ 330).
[21] غافر: 51.
[22] تفسير ابن كثير (4/84).
[23] تفسير ابن كثير (4/85).
[24] الدُخان 30- 32.
[25] في ظلال القرآن ص (3214).